رأي

إدريس أحميد يكتب.. ليبيا تنافس دولي بين روسيا الاتحادية والغرب

في خضم صراع النفوذ العالمي، تبرز ليبيا كساحة متقدمة للتجاذب بين روسيا الاتحادية والدول الغربية. منذ انهيار النظام في 2011، تحولت البلاد إلى نقطة التقاء لتناقضات إقليمية ودولية معقدة، حيث تتقاطع المصالح الأمنية والاقتصادية والجيوسياسية، في مشهد لم تُرسم نهاياته بعد.

اقرأ أيضا: الكويت في أسبوع.. أمير البلاد يبحث الأوضاع الإقليمية مع رئيس إيران والكهرباء تعاود الانقطاع لتخفيف الأحمال

**من الحقبة السوفيتية إلى ما بعد “الجماهيرية”**

بدأ الاهتمام السوفيتي بليبيا في عهد المملكة، إلا أن النفوذ الأمريكي والبريطاني حال دون ترسيخ أي وجود فعلي. ومع وصول معمر القذافي إلى الحكم، شهدت العلاقات الليبية–السوفيتية تقاربًا نسبيًا، خاصة في المجالات الدفاعية والتقنية، غير أن ليبيا احتفظت بمسافة من كلا المعسكرين، ضمن سياسة خارجية مستقلة تقوم على مبدأ “اللعب على التوازنات”.

2011.. التدخل الدولي وخيبة موسكو
في عام 2011، امتنعت روسيا عن استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن بشأن القرار رقم 1973، الذي استُخدم لاحقًا لتبرير تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليبيا. وقد اعتبرت موسكو أن القرار فُسِّر على نحو مغاير لما تم الاتفاق عليه، ما أدى إلى إسقاط النظام، وهو ما شكّل نقطة تحول في موقفها من التدخلات الغربية.

**إعادة تموضع روسي في ليبيا**

عقب سقوط النظام، بدأت روسيا في إعادة رسم حضورها في ليبيا، مركّزة جهودها على الشرق، عبر إقامة علاقات وثيقة مع القيادة العامة للجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر. وتطورت هذه العلاقة لتشمل التعاون العسكري، والدعم الدبلوماسي، والتنسيق في ملفات إقليمية ودولية، في سياق سعي موسكو إلى تثبيت موطئ قدم لها في شمال إفريقيا. القيادة العامة للجيش الليبي، التي تمثل أقوى طرف عسكري في البلاد، أصبحت محورًا مهمًا في معادلات التفاهمات الدولية، حيث باتت عنصرًا رئيسيًا يمكن أن يقف في وجه الضغوط الخارجية ويشكل منافسًا حقيقيًا في وجه التفاهمات بين القوى الكبرى، سواء كانت روسية أو غربية.

وفي هذا السياق، لا تقتصر مصالح روسيا في ليبيا على البعد العسكري والسياسي فحسب، بل تشمل أيضًا مصالح اقتصادية استراتيجية، خاصة في مجال الطاقة. فقد كانت لموسكو، من خلال شركة “غازبروم”، عقود سابقة مع الجانب الليبي في قطاع النفط والغاز، وتسعى اليوم إلى إحياء هذه المصالح وتعزيز حضورها الاقتصادي في عموم ليبيا، في ظل التنافس الدولي المتزايد على الاستثمار في قطاع الطاقة وغيره من المجالات الحيوية. ويشكّل هذا التوجه جزءًا من استراتيجية روسية أوسع لإعادة التموضع في المناطق الغنية بالموارد، وتحقيق مكاسب طويلة الأمد وسط التحولات التي تشهدها البلاد.

*)مجلس الأمن.. صراع الإرادات الدولية**

يتجلى التنافس الروسي–الغربي بوضوح داخل مجلس الأمن، حيث تتباين الرؤى بشأن مسارات التسوية في ليبيا. ففي حين تدعم العواصم الغربية مقترحات تُراعي مصالحها السياسية والأمنية، تدفع روسيا باتجاه مقاربات بديلة تُكرّس دورها كقوة دولية فاعلة. ويأتي هذا التباين في إطار أوسع من الاستقطاب الدولي المتصاعد، والذي جعل من ليبيا نقطة اشتباك غير مباشرة بين الأقطاب.

الغرب بين الحذر والتحركات الموازِنة
ينظر الغرب، خصوصًا الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بعين القلق إلى تنامي النفوذ الروسي في ليبيا. تتقدم بريطانيا صفوف العواصم الغربية المعارضة للنفوذ الروسي، إذ تُبدي موقفًا حازمًا تجاه التمدد الروسي، ليس فقط في ليبيا، بل في العديد من الملفات الدولية الأخرى مثل أوكرانيا. وفي الملف الليبي تحديدًا، عبّرت لندن مرارًا عن رفضها لتوسع الحضور الروسي، خاصة في المناطق الشرقية، حيث تعتبره تهديدًا لمصالح الأمن الأوروبي واستقرار منطقة المتوسط.
في ظل التفاهم البريطاني الفرنسي الذي برز في الملف الأوكراني، قد يكون من الممكن أن يتطور هذا التنسيق ليشمل تحالفًا ضد روسيا في ليبيا. ومع أن هناك تفاوتًا في الأولويات بين الدول الأوروبية الكبرى مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا، إلا أن فرنسا قد تجد نفسها مضطرة للتنسيق مع بريطانيا في ليبيا، خاصة في مواجهة النفوذ الروسي المتزايد، في حال استمرار التوترات الأوكرانية.

**الدور التركي والمصري.. تفاهمات مع روسيا لخدمة المصالح المشتركة**

برزت تركيا كفاعل رئيسي في ليبيا من خلال دعمها لحكومة طرابلس وتواجدها العسكري في غرب البلاد. ومع ذلك، شهد الموقف التركي تحولًا لافتًا في الآونة الأخيرة، تجلّى في زيارة الفريق صدام حفتر، رئيس أركان القوات البرية، إلى أنقرة، وهو ما يُعد انفتاحًا غير مسبوق على القيادة العامة للجيش الليبي في الشرق. هذه الخطوة تعكس تحولًا في التعاطي التركي مع المشهد الليبي، في إطار تفاهمات غير معلنة بين تركيا وروسيا، التي تجمع بينهما مصالح مشتركة في ليبيا، رغم بعض التباين في مواقف البلدين في ملفات إقليمية أخرى.
أما مصر، التي ترتبط بعلاقات استراتيجية قوية مع روسيا، فقد أصبحت طرفًا مهمًا في التنسيق بين الأطراف الليبية. وتُظهر هذه التفاهمات بين روسيا وتركيا ومصر أن الدول الثلاث تسعى إلى خدمة مصالحها المشتركة في ليبيا، من خلال تعزيز النفوذ الإقليمي والاقتصادي. وتُمكّن هذه العلاقات روسيا من تعزيز حضورها في الملف الليبي، مع الحفاظ على توازن دقيق بين القوى الكبرى الإقليمية والدولية، دون الدخول في صراع مباشر مع الغرب.

**ليبيا في ظل الحرب الأوكرانية.. ورقة جيوسياسية **

في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا، باتت ليبيا جزءًا من الحسابات الجيوسياسية الروسية، حيث تسعى موسكو إلى تعزيز نفوذها في مناطق قريبة من أوروبا، واستخدام ليبيا كورقة ضغط في صراع النفوذ الدولي، خاصة في حال تراجع الدور الغربي أو حدوث انقسامات داخلية في صفوفه.

متغيرات محتملة في حال عودة ترامب
مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تلوح في الأفق تغيّرات محتملة في السياسة الأمريكية تجاه إفريقيا، قد تُترجم بتقليص الوجود الأمريكي، ما قد يمنح موسكو هامشًا أوسع للتحرك. ومع ذلك، من غير المرجّح أن تتخلى أوروبا، بما فيها بريطانيا، عن مصالحها في ليبيا، خاصة في ما يتعلق بالطاقة والأمن والهجرة.

ليبيا.. أزمة مفتوحة وتدخلات متشابكة
وسط هذا التنافس المحموم، تظل ليبيا ساحة مفتوحة للمصالح الخارجية، في ظل غياب مشروع وطني جامع قادر على توحيد المؤسسات، واستعادة القرار السيادي. ومع استمرار التدخلات الخارجية والانقسامات الداخلية، يبقى مستقبل ليبيا رهين التوازنات الإقليمية والدولية، ما لم تُحرز تسوية شاملة تُخرج البلاد من دوامة الأزمة.
وكما ذُكر آنفًا، تُمثل القيادة العامة للجيش الليبي الطرف الأقوى والأكثر جاهزية للدفاع عن مصالح ليبيا، وهي القوة التي يمكن أن تمثل الندَّ للتفاهمات الدولية، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى استقرار داخلي وتحقيق السيادة الوطنية.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى