
أعداد الدكتور عمر حسين بوشعالة
تعد قوة الدولة من المفاهيم الجوهرية في الفكر السياسي والعلاقات الدولية، إذ تشير إلى قدرة الدولة على فرض سيادتها داخليا وممارسة دور فعال خارجيا، ومع ذلك، فإن هذه القوة لا تعمل في فراغ؛ بل ترتبط بجملة من العوامل الثابتة والمتغيرة التي تحدد حدودها وسقفها، في الحالة الليبية بعد عام 2011م، تزايدت التحديات التي تقلص من قوة الدولة، سواء بفعل إرث تاريخي طويل أو بفعل مستجدات سياسية واقتصادية وأمنية، تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الثوابت والمتغيرات التي تحد من قوة الدولة وتأثيرها على ليبيا، مع ربط ذلك بالتحولات الجارية داخليًا وخارجيًا، بغرض تقديم فهم علمي يساعد على صياغة سياسات معالجة فعالة.

اقرأ أيضا: د. عمر حسين بوشعالة يكتب.. ليبيا بعد مظاهرات طرابلس: شرخ الثقة وتحديات الإصلاح
أولا: مفهوم قوة الدولة
يشير مفهوم قوة الدولة إلى الموارد والإمكانات والقدرات التي تمكنها من تحقيق أهدافها الوطنية، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. ويمكن تقسيم مصادر القوة إلى:
ــ عناصر صلبة (Hard Power): مثل القوة العسكرية، الاقتصادية، الجغرافية.
ــ عناصر ناعمة (Soft Power): مثل الثقافة، النفوذ الدبلوماسي، القوة الرمزية.
في هذا السياق، تفهم الثوابت بوصفها عناصر شبه دائمة مثل الجغرافيا والتركيبة السكانية، بينما تفهم المتغيرات كعناصر مرنة مثل النظام السياسي والسياسات الاقتصادية.
ثانيا: الثوابت التي تحد من قوة الدولة وتأثيرها على ليبيا
1. الموقع الجغرافي
يقع الجغرافيا الليبية في قلب شمال إفريقيا، وتطل على البحر المتوسط، وتجاور دولا تعاني من هشاشة أمنية كتشاد والسودان والنيجر، ورغم أن هذا الموقع يمنحها أهمية جيواستراتيجية، إلا أنه يجعلها عرضة للتهديدات الإقليمية كالإرهاب والهجرة غير الشرعية وتجارة السلاح العابرة للحدود.
2. البنية السكانية والجغرافية
تشكل ليبيا أكثر من 1.7 مليون كيلومتر مربع، لكن عدد سكانها لا يتجاوز 7 ملايين نسمة، يتركزون في الساحل، بينما تبقى مناطق الجنوب مترامية وقليلة السكان، هذه التركيبة تعيق السيطرة الأمنية والخدمية وتضعف المركزية الإدارية.
3. الموارد الطبيعية
تعتمد ليبيا بشكل شبه كامل على النفط والغاز، حيث تشكل صادرات الهيدروكربونات أكثر من 90% من عائداتها، مما يجعل الاقتصاد الوطني عرضة للتقلبات في الأسواق العالمية، ورغم امتلاكها احتياطات ضخمة من النفط والغاز، فإن ليبيا تعاني مما يعرف بـ “لعنة الموارد” بسبب هذا الاعتماد شبه المطلق على الثروة النفطية دون تنويع اقتصادي حقيقي، وهو ما جعل الصراع على النفط وموانئ التصدير مصدرًا رئيسيًا للنزاع بين القوى المتنافسة داخل البلاد
4. الإرث السياسي والاجتماعي
عانت ليبيا من حكم شمولي طويل في ظل العقيد معمر القذافي، مع غياب مؤسسات الدولة المدنية، واعتماد كبير على شبكات الولاء الشخصي والقبلي، مما أدى إلى هشاشة بنيوية في مؤسسات الدولة بعد 2011م.
ثالثا: المتغيرات التي تحد من قوة الدولة وتأثيرها على ليبيا
1️:ـ الانقسام السياسي والمؤسسي
منذ 2014م تعاني ليبيا من “انقساما سياسيا” ازدواج السلطة بين حكومتين (طرابلس والشرق)، وتضارب في الشرعية السياسية، وهو ما أضعف من قدرة الدولة على فرض سيادتها أو تبني سياسات وطنية موحدة.
2. التدخلات الخارجية
أدى تدخل قوى دولية وإقليمية متعددة في ليبيا، بدعم سياسي وعسكري لفصائل مختلفة، إلى زيادة الانقسام وإضعاف الدولة، كما أصبحت ليبيا ساحة لصراع النفوذ بين قوى مثل “تركيا وروسيا والإمارات ومصر وفرنسا”، مما يقيد حرية القرار الوطني.
3. الأداء الاقتصادي والفساد
رغم توفر العائدات النفطية، تعاني ليبيا من أزمة اقتصادية حادة بسبب غياب إدارة رشيدة، وتفشي الفساد المالي، والانقسام في المؤسسات المالية بين الشرق والغرب، مما أثر سلبا على الخدمات والتنمية.
4. ضعف الأجهزة الأمنية
بعد الثورة، انهارت المؤسسات العسكرية والأمنية الليبية، وتم استبدالها بجماعات مسلحة متعددة الولاءات، ما أدى إلى تدهور الوضع الأمني وتراجع سيطرة الدولة على الأراضي.
5. العوامل الإقليمية والدولية
تؤثر التحولات الدولية، مثل تغير موقف الأمم المتحدة أو الديناميات في منطقة الساحل والصحراء، على ليبيا بشكل مباشر، فمثلا، التوتر في النيجر أو السودان يمتد بسهولة إلى الداخل الليبي.
رابعا: التأثيرات على ليبيا
• هشاشة الدولة: غياب المؤسسات الفاعلة أدى إلى فراغ سياسي وأمني، ملأته الميليشيات والجهات الأجنبية.
• انعدام الثقة الوطنية: تتفاقم الانقسامات بسبب غياب مشروع وطني جامع، وهو ما يعيق بناء الدولة واستعادة السيادة.
• استنزاف الموارد: تستخدم العائدات النفطية في تمويل الصراع بدلا من إعادة الإعمار.
• ضعف السيادة الوطنية: عدم قدرة الدولة على فرض نفسها كممثل شرعي ووحيد.
• شلل التنمية: استنزاف الموارد في صراعات مسلحة بدل توظيفها في تنمية مستدامة.
• تزايد المخاطر الأمنية: توسع نشاط الجماعات المسلحة وشبكات التهريب.
• تراجع الدور الإقليمي: رغم الموقع الجغرافي الاستراتيجي، لم تستطع ليبيا استثمار هذا الدور، بل أصبحت ضحية للصراع الإقليمي.
• أزمة الهوية الوطنية: تصاعد الولاءات المحلية والقبلية على حساب الهوية الجامعة.
خامسا: مقترحات للمعالجة
• إصلاح المؤسسات: البدء بعملية سياسية شاملة لإعادة بناء مؤسسات الدولة.
• تنويع الاقتصاد: تقليل الاعتماد على النفط وتطوير قطاعات أخرى كالسياحة والزراعة.
• الحد من التدخلات الخارجية: تفعيل الوساطة الدولية للوصول إلى تفاهمات تنهي التدخلات.
• إصلاح القطاع الأمني: نزع سلاح الميليشيات وإعادة بناء جيش وطني موحد.
• تعزيز الهوية الوطنية: العمل على برامج تربوية وإعلامية لتعزيز مفهوم المواطنة.
الخاتمة
تشير الحالة الليبية إلى تفاعل معقد بين الثوابت البنيوية (كالموقع الجغرافي، والموارد، والتركيبة السكانية)، والمتغيرات الظرفية (كالانقسام السياسي، والتدخلات الأجنبية، وسوء الإدارة)، ولا يمكن الحديث عن “قوة الدولة” في ليبيا دون تبني رؤية استراتيجية طويلة المدى تعالج الثوابت من خلال التكيّف والتخطيط، وتستثمر المتغيرات عبر الإصلاح المؤسسي والمصالحة الوطنية، وحده هذا التوازن قادر على إعادة بناء الدولة واستعادة سيادتها ومكانتها الإقليمية والدولية.