من دون سابق إنذار وبشكل غير متوقع دعت اللجنة الرباعية لدول المنظمة الحكومية للتنمية “إيجاد” المعنية بحل الأزمة في السودان، إلى عقد قمة إقليمية لبحث نشر قوات لحماية المدنيين وضمان وصول المساعدات، وخرجت الدعوة برعاية كلا من رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، والرئيس الكيني وليام روتو، اللذين طالبا بإنشاء منطقة حظر طيران فوق العاصمة السودانية الخرطوم، واقتراحا تدخلا عسكريا في البلد الذي يعيش أزمة حادة منذ منتصف أبريل الماضي.
“هل هناك تاريخ للقوات الإفريقية التي تدخلت في مثل هذه الأزمات من قبل يجعلنا نقول إنها ستنجج أو تفشل في هذه المهمة؟
بعيدا عن الأحكام المسبقة برفض أو قبول الدعوة التي قدمها إيجاد؛ سمة أسئلة تطرح نفسها أهمها ” ما الذي يجعل السودان الذي يعيش حالة حرب أهلية طاحنة تسببت في نزوح مئات الآلاف من مواطنيه، مقتل وإصابة آلاف آخرين أن يرفض هذا المقترح؟ وما الذي يجعلنا ننحاز لهذا الرفض؟ وهل هناك تاريخ للقوات الإفريقية التي تدخلت في مثل هذه الأزمات من قبل يجعلنا نقول إنها ستنجج أو تفشل في هذه المهمة؟
للإجابة عن هذه التساؤلات يمكن أن نستعرض النقاط التالية:
أول هذه الإجابات، أنه لا يمكن فصل الدعوات التي أطلقها أبي أحمد، والرئيس الكيني عن تاريخ الصراع بين السودان وجيرانها الجنوبيين، والتي كان آخرها الصراع الذي دام لأشهر طويلة في إقليم الفشقة السوداني، والذي كانت تحتله ميليشيات إثيوبيا، ووقتها حققت القوات المسلحة السودانية انتصارات واسعة ضد الأحباش وهو ما جعل أديس أبابا حانقة على المؤسسة العسكرية السودانية وترغب في القضاء عليها لضمان عدم تكرار مثل هذه الأحداث مستقبلا، كما أن العلاقات التي تربط كلا من قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو بأديس أبابا تجعل القيادة السودانية تتحسس مسدسها من هذه الدعوة الخبيثة.
أما ثاني هذه النقاط فهو السبب المعلن من قبل القوات المسلحة السودانية لرفض المشاركة بشكل كامل في اجتماعات الإيجاد، التي عقدت في أديس أبابا خلال الأيام الأخيرة بغرض حل الأزمة، والمتمثل في رفضها تصدر الرئيس الكيني هذه الاجتماعات رغم ما تجمعه من علاقات صداقة مع أحد طرفي النزاع وهو حميدتي، وهو ما يفقد المنظمة حيادها ويجعلها سببا لتعقيد الأزمة بدلا من حلها، كونها مشكوك في نزاهته وهو ما تأكد بهذه الدعوة التي أعلن السودان أنها تمثل عدوان على سيادته الداخلية، خصوصا وأن الدعوة تضمنت مقترح استخدام القوة الاحتياطية لشرق أفريقيا، (EASF)، المكوّنة من 10 أعضاء بما فيهم السودان، وأيضا الصومال وأوغندا.
أما ثالث دفوع رفض المقترح العدواني الذي خرج برعاية حبشية كينية؛ هو ما فعلته القوات الكينية والإثيوبية في الصومال خلال السنوات الماضية، من جرائم صنفت في عدد من التقارير الحقوقية الأممية بأنها جرائم ضد الإنسانية، وكأن الدعوة التي أطلقها أبى أحمد وزميله الكيني ليس الغرض منها حماية المدنيين السودانين، لكنها دعوة لتكرار جرائم الاغتصاب الجنسي والإبادة الجماعية وتدمير الممتلكات الخاصة التي ارتكبتها القوات الإثيوبية والكينية في الصومال.
رابع هذه النقاط، أن تاريخ القوات التابعة للاتحاد الإفريقي وحتى التابعة للأمم المتحدة من خلال بعثات حفظ السلام في أفريقيا ليس نقيا، لكي نعيد التجربة في السودان، فحتى تقارير الأمم المتحدة نفسها لا تزال تتحدث عن جرائم قوات حفظ السلام في كلا من أفريقيا الوسطى وليبيريا، وفي هذه النقطة فقط يكفي أن نراجع تصريحات الرئيس السابق للعمليات في مركز تنسيق الطوارئ التابع للأمم المتحدة أندرو ماكلاود الذي أكد وقوع نحو 60 ألف حالة اغتصاب ارتكبها موظفون في الأمم المتحدة خلال العقد الماضي، مشيراً إلى وجود نحو 3300 من المولعين جنسياً بالأطفال والقصر، يعملون في المنظمة الدولية ووكالاتها.
وأوضح في تصريحات صحافية أنه لا يتم التبليغ إلا عن حالة واحدة من بين كل 10 حالات اغتصاب أو اعتداء جنسي، وللأسف تحظى إفريقيا بنصيب الأسد من هذه الجرائم، إذ تشير تقارير صادرة عن الأمم المتحدة بوجود حالات اعتداء جنسي ارتكبتها “القبعات الزرق”، في جمهورية أفريقيا الوسطى والنيجر وغيرها من بلدان وسط وغرب القارة التي شهدت تدخلات أممية وإقليمية خلال السنوات العشرين الأخيرة.
من هذه الأسباب الأربعة يمكننا تقديم إجابة وافية وشافية على المقترح الذي قدمته اللجنة الرباعية المعنية بحل الأزمة السودانية، فالتاريخ الإجرامي للقوات الدولية في أفريقيا يجعلنا نتنبأ بما سيحدث للمدنيين السودانيين، حال دخول قوات أجنبية هناك، كما أن توتر العلاقات بين كل من نيروبي وأديس أبابا والخرطوم يشير إلى أن للمقترح أهداف غير معلنة، وأنه لو كان الأمر يتعلق بالمدنيين السودانيين وحماية الدولة السودانية من الانهيار لكان من الأولى التعامل مع المؤسسات الرسمية السودانية، بدلا من التعامل بنفس الصيغة بين طرفي الصراع، وكأن قوات الدعم السريع تمتلك نفس شرعية القوات المسلحة السودانية، وتحظى بنفس المكانة في التعاملات الدولية، رغم أن الأخيرة تدافع عن طموحات فرد واحد، بينما المؤسسة العسكرية السودانية هي المؤسسة الوحيدة الباقية في البلاد التي يمكن أن يلتف حولها الشعب إعادة بناء دولته، فلم يبق من مؤسسات البلاد الوطنية بسبب الصراعات السياسية ما يمكن أن يجمع السودانيين حول دولة مركزية إلا هذا الكيان الدستوري.
من هذا المنطلق على الحكومات العربية والكيانات العربية الإقليمية وفي مقدمتها جامعة الدول العربية أن تلعب دورها المنوط بها قبل أن تنزلق السودان إلى ليبيا جديدة، وقبل أن ينفرد المجتمع الدولي والاتحاد الإفريقي المشكوك في توجهاته بحكم أن تمويله يأتي من أطراف غير أفريقية، في ضياع بلد عربي آخر سنحتاج لعشرات السنين لكي يعود إلى ما كان عليه قبل الخامس عشر من أبريل 2023.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب