دراساتسياسية

قمة “فوكاك 2024” نحو مزيد من التكاتف من أجل تعميق الصداقة الإفريقية-الصينية

رامي زهدي- مركز العرب 2050 للأبحاث والدراسات

في إطار نماذج التعاون الدولي، ولا سيما ما بين العالم والقارة الإفريقية، لم يعد العالم يمتلك ذات الأدوات القديمة التي دأبت القوى الدولية على تطويعها واستخدامها لتحقيق الأهداف الموضوعة سلفًا من إدارة علاقتها مع دول القارة الإفريقية، ربما مؤخرا انتبهت وأدركت القوى العالمية الكبرى أن إفريقيا “واحدة” وهم “كُثر”، بمعنى أن القارة الإفريقية تمتلك بديلًا عن أي من القوى أو الأدوار الدولية، بينما لا تمتلك هذه القوى الدولية بديلًا عن القارة الإفريقية، وليس هذا فحسب، لكن القارة الإفريقية ليست “وحدة متكاملة واحدة” لأنها مكونة من 54 دولة مختلفة الأهداف والقدرات والإمكانات والتحديات، وبالتالي لم يعد من الممكن التعاطي مع كل دول القارة بنفس المنهج أو المنوال.

لكن وسط كل هذا سبقت “الصين” الجميع، فمنذ أكثر من ستة عقود، بدأت الصين مشروعها الطموح تجاه التعاون مع دول القارة الإفريقية، وحاولت بقدر الإمكان، أن تعلي من مبدأ المصالح المشتركة، وأن لا تبتغي منهج الاستغلال الذي انتهجته قوى الاستعمار القديمة تجاه القارة، وحرصت الصين ألًا تحيد عن الطريق الاقتصادي كهدف ومقام أساسي لذلك التعاون، ولم تلتفت الصين إلى قضايا شائكة مثل تطبيق الديمقراطية أو التدخل في الشؤون الداخلية للدول أو توجيه إرادة الشعوب أو إثارة قضايا حقوق الإنسان والحيوان وما شابه، ولا يمكن الجزم بأن الصين نجحت تمامًا في ذلك أو أنها أصدق نوايا من غيرها أم لا، إلا أن الشيء المؤكد أن الصين بالنسبة لشعوب القارة الآن أقرب من غيرها، وأنها تتمتع بنسب رضا ومصداقية أعلى من منافسيها.

وعبر السنوات الـ24 الماضية حرصت الصين على إدارة منتدى صيني إفريقي للتعاون ودعم الصداقة الصينية الإفريقية، حتى أنه وبعد نحو ربع قرن من تأسيسه، وبحثًا عن مراحل صداقة أعمق، وعن مساحات تعاون أكثر اتساعًا، وعلى مدار ثلاثة أيام في الفترة من 4 إلى 6 سبتمبر 2024 وبحضور الرئيس الصيني “شي جين بينغ” تُعقد قمة “منتدى التعاون الصيني-الإفريقي فوكاك 2024” في العاصمة الصينية “بكين” بحضور عدد كبير من قادة ورؤساء الدول الإفريقية، إضافة إلى عدد كبير من ممثلي المنظمات الإقليمية الإفريقية والدولية ذات الصلة بالقمة وأجندة عملها، بينما تظل “ديناميكية” تطور العلاقات الصينية الإفريقية وتطورها الدائم جزءًا مميزًا لهذه العلاقة التي سبقت بها الصين قوى دولية أخرى خاصة في الستين عامًا الأخيرة، التي حددت فيها الصين أهدافها ووجهت بوصلتها في اتجاه الجنوب، بعد أن أيقنت أنها قد تمتلك من الأدوات الفاعلة ما يمكنها من مكانة وموضع مميز داخل القارة الإفريقية خاصة اقتصاديًّا في وقت تتراجع فيه القوى الدولية التقليدية، خاصة الاستعمارية القديمة، وتفقد كثيرًا من زخمها ونقاط تفوقها في القارة الإفريقية، بينما تتحرك الصين بثبات ورسوخ لتملأ كل فراغ ينتج في علاقات القارة الإفريقية بالعالم.

قمة "فوكاك 2024"

النسخة التالية من “فوكاك” الذي أسس في العام 2000، هي النسخة الرابعة، حيث عُقدت سابقًا فوكاك 2006 في بكين، وقمة فوكاك 2015 في جوهانسبرج، ثم في بكين مرة ثانية فوكاك 2018.

المنتدى ومنذ إعلانه منذ 24 عامًا ركز دائمًا على استهداف تحقيق الرخاء المشترك والتنمية المستدامة للشعبين الصيني والإفريقي، وأعلى كثيرًا من مبادئ الاحترام والتقدير والندية والتكافؤ وتحقيق المصالح المشتركة ما بين الصين ودول القارة الإفريقية.

وقد تأسس المنتدى رسميًّا عقب المؤتمر الوزاري الأول للتعاون بين الصين والدول الإفريقية الذي عقد في العاصمة الصينية بكين في الفترة من 10 إلى 12 أكتوبر من العام 2000، بحضور الرئيس الصيني آنذاك “جيانج زمينج” وعدد من رؤساء الدول الإفريقية إلى جانب ممثلين عن 44 دولة إفريقية وعدد من المنظمات الدولية ورجال الأعمال، ليضم المنتدى كلًّا من الصين والاتحاد الإفريقي إضافة إلى 50 دولة إفريقية.

القمة تمثل أكبر حدث دبلوماسي تستضيفه الصين في الأعوام الأخيرة، قياسًا إلى عدد الحضور بصفة عامة، وعدد الحضور من قادة ورؤساء الدول الإفريقية وعدد من أصحاب مستويات التمثيل رفيعة المستوى من المنظمات القارية والدولية، إضافة إلى عدد من المشاركين من القطاعات الخاصة ورواد الأعمال والمجتمع المدني من القارة الإفريقية ومن الصين، وكذلك رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي والأمين العام للأمم المتحدة.

تُعقد القمة في هذه الدورة تحت عنوان رئيس هو “التكاتف من أجل تعزير التحديث وبناء مجتمع مصير مشترك رفيع المستوى بين الصين وإفريقيا”، عبر جلسات عمل متعددة، ومراسم افتتاح، ومأدبة ترحيبية وأربعة اجتماعات رفيعة المستوى رئيسية حول موضوعات “حوكمة الدولة”، و”التصنيع والتحديث الزراعي”، و”السلام والأمن”، فضلا عن “التعاون المتقدم عالي الجودة في إطار استكمال مبادرة الحزام والطريق”، كذلك تتضمن أعمال القمة عقد المؤتمر الثامن لرواد الأعمال الصينيين والأفارقة، وعدد من الأنشطة ذات الصلة ومحط الاهتمام المشترك ما بين الصين كقوة دولية مؤثرة وما بين إفريقيا كأحد أهم التكتلات السياسية والاقتصادية الصاعدة في نظام عالمي مرجح فيه التطوير والتحديث، إضافة إلى أن القارة الإفريقية هي الأولى تقريبا بين قارات العالم في نسب النمو الاقتصادي والمجتمعي المتوقعة في السنوات القادمة.

تسعى الصين، وهي الدائن الأول لمعظم دول القارة، والصديق المفضل لدى عدد كبير من حكومات وشعوب دول القارة، إلى تبني تطبيق عملي لأفكار ومقترحات جديدة فاعلة لبناء مجتمع مصير مشترك رفيع المستوى وراسخ وقوي ما بين الصين ودول القارة الإفريقية في إطار دعم التعاون بين دول جنوب العالم وكذلك القوى العالمية التقليدية والصاعدة، وعلى رأسها الصين صاحبة النفوذ والحضور الأقوى في القارة الإفريقية، لذلك ينتظر بنهاية أعمال القمة إصدار وثيقتين ختاميتين على الأقل، إحداهما إعلان عن إطارات التعاون والأخرى خطة عمل محددة بمسار تنفيذي زمني لمدة ثلاثة أعوام مقبلة.

وعلى مدار كل هذه السنوات الفائتة، كان لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي آثار إيجابية واضحة على مستوى نمو العلاقات الصينية الإفريقية، على سبيل المثال وعبر 34 عامًا تتبنى السياسة الخارجية الصينية تقليدًا رمزيًّا ذا دلالة إيجابية، وهي أن أول زيارة لوزراء خارجية الصين الجدد فور توليهم المسؤولية تكون للقارة الإفريقية، تأكيدًا على استمرار ذات النهج من الاهتمام والتركيز والاحترام للقارة الإفريقية.

أيضًا من المؤشرات الإيجابية نمو حجم التبادل التجاري بين الصين وإفريقيا لتصبح الصين أكبر شريك تجاري للقارة، حيث ارتفعت قيمة التبادل التجاري من نحو 14 مليار دولار أمريكي في العام 2000 إلى نحو أكثر من 282.1 مليار دولار أمريكي في العام 2023 بزيادة تراكمية نحو أكثر من 20 مرة، وبزيادة سنوية متنامية بنسبة متوسطية قدرها 1.5٪، أما على مستوى واردات الصين من القارة الإفريقية فقد ارتفعت بنسب تتجاوز 300٪ منذ العام 2000، بينما زادت نسب الصادرات الصينية للقارة بنسبة متتالية في الأعوام الثلاثة الأخيرة 291٪، 109٪، 57٪ على التوالي.

ولا يمكن إغفال دورها في دعم خطط التنمية المستدامة للقارة الإفريقية 2063 وكذلك دعم الصين لبناء منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، ودعم تكوين سلال الإمداد والتموين المحلية الإفريقية وربطها بنظيرتها الصينية، وكذلك استهداف توطين عدد كبير من الصناعات الصينية المتطورة في نقاط تصنيعية عديدة بعدد من دول القارة الإفريقية، فضلًا عن تمويل الصين لعدد كبير من المشروعات التنموية، وتعاونها أيضًا الكثيف والمتطور في الصناعات العسكرية والدفاعية وكذلك الرقمنة والتحول الرقمي مع دول القارة الإفريقية.

وبالعودة إلى القمة الصينية الإفريقية ومحاور التطوير المرجحة للعلاقات الصينية الإفريقية، فإن من أهم هذه المحاور العمل بشكل أعمق على التعاون الصناعي وتطوير البنية التحتية خاصة للدول الإفريقية ذات الدخول الأدنى، وكذلك التعاون الصحي ودعم البنية العلاجية والوقائية لدول القارة، بالإضافة إلى تبني عدد من المبادرات ذات الصلة باستيعاب الآثار السلبية للتغيرات المناخية ودعم الاقتصاديات الخضراء والزرقاء، ومشروعات الطاقة الجديدة، البديلة، والنظيفة والمتجددة، وكذلك النقاش على مشكلات الديون الإفريقية المستحقة للصين وتأخر أو عجز عن السداد من بعض دول القارة، خاصة مع تراكم الديون وفوائدها ومصروفات خدمة الديون، في ظل ظروف اقتصادية صعبة تواجه العالم والقارة الإفريقية.

وبرغم تركيز القارة على التعاون، ولاسيما الاقتصادي، فإن هناك تبادلًا للرؤى السياسية والاستراتيجية بين الصين ودول القارة الإفريقية في موضوعات عالمية تطال آثارها الجميع، أو موضوعات ذات اهتمام مشترك ما بين الصين وإفريقيا أو موضوعات خاصة بالقارة الإفريقية ومنها قضايا الأمن والسلم والصراعات، وقضايا الأمن الغذائي والطاقي والمائي وكذلك مواجهة الإرهاب ومحاربة الجريمة والجريمة المنظمة والجريمة عابرة الحدود.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى