رأي

محمد جمعة آلا يكتب.. فوبيا الأقليات وما المانع أن نكون أقلية

في إطار سعيهم لإنتاج مفهوم العمومي المشترك سيتطرق الفكر اليوناني إلى مشكلة الكل والجزء أو لنقل الأكثرية والأقلية، فما كان عامل إرهاق لدى الفلاسفة اليونان منذ عهد طاليس إلى أرسطو هو إنتاج مبدأ عام هو بمثابة تجميعة للأشكال الأقلاوية المختلفة أي إحتواء البعثرة في الوجود داخل وعاء الأنطولوجيا، أي صياغة حبكة تنتمي إليه ظواهر الوجود. فحتى أكبر مدّعي الصيرورة والتغيير هرقليطس لم يسلم من هذا الحلم. لكن والسؤال هنا؛ ما الذي جعل فلاسفة اليونان يؤرقون أنفسهم بمثل هذه المجادلات التي انتهت من دون نتيجة؟ هل كان الخوف من الأقلية أو من هذه البعثرة؟

في محاورة فيدون، يرسخ أفلاطون مقولة راديكالية في تاريخ هذه المعضلة، وهي أن القلة أو الكثرة لا يحددان الشيء “الماهية”، بمعنى آخر، لا يحددان قيمة الشيء، إن موضوع الأقلية والأكثرية هي مجرد صدفة “صدفة الجغرافيا”، ليس إلا وعندما نقترح على الآخر باعتباره أقلية، فهي مجرد حالة ذهنية تنشط داخل حضن التحديد الماهوي الذي يوصلنا إلى جعله بلا قيمة أو بلا تأثير، ومن ثم لا يستحق فرضية الوجود في العالم. بمعنى ما يريد أفلاطون أن يوصلنا إلى نتيجة هي أن النظر إلى الآخر بعين الأقلية أو الصغر هو مفهوم ذاتوي فج لا يمنح هذا الآخر حقيقته وليس له بها شأن، فالقليل وهي هنا بمعنى الصغير لا يعني قليل الشأن، فهي مجرد نظرة ماهوية لا تضيف شيءً للمعنى الأنثروبولوجي أو الطرح الوجودي.

تطرح علينا الحالة السورية بوضعها الراهن ما يسمى بفوبيا الأقليات من قبل الأكثرية، وعبادة الكبير من قبل الأقلية. وهذا التفكير استنبتَ داخل فضاءات من البداهات المخترقة والتي لم يكلف الإنسان السوري عناء إعادة فهمها أو فتح نقاش حولها، فمثل هذه المواضيع “الأكثرية والأقلية” طرحت ضمن أفق الأجوبة الجاهزة القائمة على التوابع، فالكرد والعلويين والدروز هم أقليات ماهوية لا تصلح سوى أن تصبح توابع للكبير الذي هو المركز. فمن جهة ثمة هاجس أو خوف دائم من قبل الأكثرية اتجاه الصغير “الأقلية”، من أن تتحول إلى قوة ومن جهة أخرى فحتى أولئك الذين يدعون الإنسانوية يهدفون إلى إنتاج مساحات أخلاقية لهذه الأقليات لإظهار التعاطف الرخيص تحت مفهوم الديمقراطية الإنشائية، يبدو أن الأقليات في سوريا أمام رؤيتين: الأولى تلك التي تعتبرهم خطراً على نقاء المركز وبالتالي لا يصلح معهم سوى لغة القوة أو الابتلاع أو تلك الرؤية الأخرى التي تظهر تعاملاً هشاٌ لإظهار تلك الذات الديمقراطية، وهنا تصبح أكثر المواقف الأخلاقية تجاه هذه الأقليات مجرد لغو لا طائل منه، باعتبارها لا تجد في هذا الآخر الأقلاوي، سوى ذلك الضعيف الذي يحتاج إلى احتضان من قبل الكبير المركزي. يمدنا الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا ببعض النتائج القائمة على التفكير اليونانية ليقول أن: “المقارنة بين الأكثرية والأقلية هي بالتثبيت من حيث المقدرة “الإقتدار””. ويوسع هذه النتيجة لتشمل حتى عالم الحيوانات فليس لأنك الأكبر هذا يعني أنك الأصلح للحكم أو السيطرة، أي ليس تبعاً للماهية وهنا يركز سبينوزا على مفهوم القدرة أي أن كل كائن مهما صغر حجمه أو قلّ عدده يجدر بأن يُعتبر موجوداً كاملاً من حيث قدرته على إنشاء نفسه وإظهار ذاته داخل هذا الوجود. وبالعموم فإن الموقف من الأكثرية والأقلية بقي عند اليونان ظاهرة أبستمولوجية امتدت نوعاً ما إلى أفق الأنطولوجيا ولم تكسب هذه الصبغة كثافتها إلا بعد ظهور الأديان الكبرى والدولة القومية. حيث اتخذ موضوع الأكثرية والأقلية بعداً عدمياً وادعاءً أخلاقياً. في مقابل هذه المواقف يقدم لنا أوجلان حكماً سيسيولوجياً فيرى أن تغيير النظرة إلى كينونة الآخر باعتباره أقلية أو أكثرية من أكثر المواقف الأخلاقية خسةً، وأن إزالة هذه النظرة من أفق الوجود بات من الضرورات الحتمية الاجتماعية والأخلاقيات.

ومن ثم فإن النتيجة ومن خلال مقترحات هؤلاء الفلاسفة فإن الأقليات أو الأصغر ليس عيباً أنطولوجياً أو مأزقاً سيسيولوجياً أو فجوة إبستمولوجيا لبناء الأمم، بل على العكس هي من الأمور المدعاة للصحة الاجتماعية وتدخل ضمن حقول التعارف الحر، وأي رؤية للأقليات بعين الرقم “العدد” أو الحجم كما يحدث في سوريا عموماً، سوف لن يفلت من تحويل هذه الأقليات إلى مأدبة شرهة للأغلبية.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى