دراساتسياسية

فرانكفونية أشيل مبيمبي تقضم فكر ما بعد الاستعمار

إعداد/ محمد الشرقاوي

باحث ماجستير بكلية الدراسات الأفريقية العليا

يعد المفكر الكاميروني أحد مؤسسي دراسات مرحلة ما بعد الاستعمار، ركزت أعماله على نقد العنف الاستعماري وتأثيراته على المجتمعات الأفريقية، لكن التجربة أظهرت تناقضًا بين النقد والممارسة، حيث انتقد بشدة السياسات الفرنسية في أفريقيا، ووصفها بالاستعمارية الجديدة، ومع ذلك، قبل  بالمشاركة في القمة الفرنسية الأفريقية عام 2021، التي اعتبرها البعض محاولة من ماكرون لإعادة رسم العلاقة بين فرنسا وأفريقيا لصالح فرنسا، وهو ما تناقض مع مواقفه السابقة، وخدمت أجندة إيمانويل ماكرون بدلاً من خدمة مصالح الشعوب الأفريقية.

ركز مبيبمي على مفهوم “ما بعد الاستعمار”، لكنه تجاهل الذاكرة الاستعمارية لفرنسا في أفريقيا، وبدلاً من التركيز على الحديث عن الماضي الاستعماري، فضل التركيز على بناء علاقات جديدة بين فرنسا وأفريقيا، يرى منتقدوه أن هذا التجاهل للماضي الاستعماري يخدم مصالح فرنسا، ويعيق تحقيق العدالة التاريخية للشعوب الأفريقية، وفي حين ذهب البعض إلى انتقاد تركيزه على النخبة الفكرية والسياسية في أفريقيا، وتجاهله لمعاناة  الناس العاديين، وبعيدة عن الواقع الشعبوي.

أشيل مبيمبي نتاج التجربة

تتناول هذه الجزئية أبرز العوامل المرجعية التي شكلت إطارًا فلسفيًّا للنسق الفكري لأشيل مبيمبي، وكيف ساهمت نشأته في تشكيل أفكاره تجاه الاستعمار، واشتباكه مع الفكر الغربي.

 

  1. النشأة والخبرات الشخصية

يعد أشيل مبيبمي أحد أبرز المفكرين في أفريقيا، الذين لعبوا دوراً رئيسيًا في تطوير الفكر حول العنصرية وتأثيراتها على الذاتية عرف برفضه لجميع أشكال العنصرية، وبالتالي تكمن اهتماماته البحثية في العلوم الاجتماعية والتاريخ والسياسة الأفريقية.

ويبحث مبيمبي في مرحلة “ما بعد الاستعمار”، في تأثيرات الفكر الغربي على القارة الأفريقية وتأثيرات الإرث الاستعماري في دول القارة، وبالتالي استمرار التبعية الفكرية، غير أن أشيل مبيمبي اهتم بشكل خاص بظهور «الثقافة الأفريقية العالمية»، إلى جانب الممارسات الفنية المرتبطة بها، والتركيز على الطبيعة الخاصة للمجتمعات الأفريقية.

ولد أشيل في وُلد مبيمبي بالقرب من أوتيلي في الكاميرون سنة 1957، ببلدة تبعد ستين كيلومترا عن ياوندي، وقضى طفولته في مزرعة والده ضمن عائلة مسيحية قومية. وظلت بعض المشاهد المروعة من عنف الاستعمار مرسخة في ذهنه، لاسيما خلال حرب التحرير الكاميرونية بين 1955 و1962 حيث قتل عمه إلى جانب الزعيم الثوري الوطني روبين أم نيوبي؛ الذي تم سحل جثته عبر القرى بهدف ترهيب السكان.

وتولدت من هذه الفترة الصعبة رغبة مبيمبي، بالتخصص في مادة التاريخ، فانتقل إلى باريس لمواصلة دراسته الجامعية، ولأن الرواية التاريخية الرسمية في الكاميرون تغاضت عن شخصية روبين أم نيوبي، ظل مبيمبي ساعيًا إلى إحياء ذاكرة الزعيم الثوري، لكن سلطات بلاده رفضت أفاكره وطاردته إلى أن قررت نفيه مدة عشر سنوات لا لشيء سوى أنه نشر في كتابه الأول مشتقات من نصوص كتبها روبين أم نيوبي، وانعكس هذا القرار على حياته الشخصية إذ إن السلطات منعته من حضور جنازة والده، ما دفعه لعدم السفر نهائيا إلى الكاميرون.

يعد مبيبمي أستاذ في مؤسسة الابتكار الجديدة من أجل الديمقراطية، حصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة السوربون في باريس عام 1989، كما حصل على شهادة D.E. دكتوراه في العلوم السياسية في معهد الدراسات السياسية (باريس). وفي الفترة من (1988-1991) عمل مبيبمي أستاذاً مساعداً للتاريخ في جامعة كولومبيا بنيويورك، بينما في الفترة من (1991 – 1992) زميل أبحاث أقدم في معهد بروكينغز في واشنطن، ثم أستاذا مشاركاً للتاريخ في جامعة بنسلفانيا (1992-1996).

كما تولى منصب الأمين التنفيذي لمجلس تنمية بحوث العلوم الاجتماعية في أفريقيا (CODESRIA) في داكار بالسنغال في الفترة من (1996-2000)، ثم أستاذًا زائرًا في جامعة كاليفورنيا، بيركلي في (2001)، وفي جامعة ييل (2003)، وفي جامعة كاليفورنيا في إيرفاين (2004-2005)، وفي جامعة ديوك (2006-2011)، وفي جامعة هارفارد (2006-2011).

حصل المفكر الكاميروني على الدكتوراه الفخرية من جامعة باريس الثامنة بفرنسا، ودبلوم الدراسات المتعمقة من معهد الدراسات السياسية في باريس والجامعة الكاثوليكية في لوفان (بلجيكا)، وشغل أيضًا كرسي ألبرت الأكبر في جامعة كولن (2019)، وكان أستاذًا فخريًا في مركز جاكوب فوجر-زينتروم بجامعة أوغسبورغ الألمانية.

يعد مبيمبي أحد مؤسسي وشخصية رئيسية في ظهور موجة جديدة من النظرية النقدية الفرنسية، خلال فترة وجوده في فرنسا، كان لجان مارك إيلا وجان ليكا وجان فرانسوا بايارت تأثير عميق عليه. مبيمبي هو أستاذ باحث في التاريخ والسياسة في معهد ويتس للبحوث الاجتماعية والاقتصادية في جوهانسبرغ، جنوب أفريقيا، وأستاذ زائر في قسم الدراسات الرومانسية في معهد فرانكلين للعلوم الإنسانية.

كتب على نطاق واسع عن السياسة والفلسفة المعاصرة، بما في ذلك في مرحلة ما بعد الاستعمار (مطبعة جامعة كاليفورنيا، 2001)، ونقد العقل الأسود (مطبعة جامعة ديوك، 2016)، والسياسة الميتة (مطبعة جامعة ديوك، 2019) وخارج الليل المظلم، بالإضافة إلى مقالات عن إنهاء الاستعمار (مطبعة جامعة كولومبيا، 2020)، وكتب في الأصل باللغة الفرنسية، وتُرجمت إلى 13  لغة (الإنجليزية، الألمانية، الإسبانية، البرتغالية، الإيطالية، الهولندية، البولندية، السلوفينية، الدانماركية، السويدية، الرومانية، العربية، الصينية). كتابه الأخير هو مجتمع الأرض (طبعات La Decouverte، باريس، 2023).

حصل على تصنيف A1 من المؤسسة الوطنية للبحوث بجنوب أفريقيا، وهو عضو في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، وهو أستاذ باحث في التاريخ والسياسة في معهد ويتس للبحوث الاجتماعية والاقتصادية  (WISER)جامعة ويتواترسراند بجنوب أفريقيا. وهو أيضًا مدير مؤسسة الابتكار من أجل الديمقراطية.

كما حصل المفكر الكاميروني على عدة جوائز، منها في 2015 جائزة الإخوة شول، عن كتابه «نقد العقل الزنجي»، والذي ينتقد فيه توسع الرأسمالية العالمية اعتماداً على تجارة العبيد، مؤكداً أن الفكر العنصري لم يختف بعد من العقل الغربي، وفي 2018 حصل على جائزة إرنست بلوخ، وتعتبر هذه الجائزة من أهم الجوائز الثقافية في ألمانيا، كذلك جائزة Gerda Henkel  لعام 2018.

إشكالية الهوية والتعايش

يرى المفكر الكاميروني أن الطرح التقليدي لإشكالات كبيرة مثل الهوية وانزلاق الديمقراطيات إلى السلطوية والعنف المتزايد على الطبقات الهشة والهجرة والتعايش مع المحيط الحي، يصعب دراسته في إطار اختصاص علمي واحد، وذلك انطلاقًا من دراساته للمجتمعات الخارجة من الاستعمار في أفريقيا، وكيف مارست السلطات عنفها عليها.

وقال مبيمبي إنه لاحظ أن هذه الظاهرة ليست نابعة من هذه القارة، بقدر ما هي نتاج استخدامها من قبل الاستعمار كمختبر لدراسة نظام آخر للاستغلال أكثر شراسة، لكن هذا السياق تغير مرة أخرى بالدخول في عصر الحاسوب الذي أضاف إلى الآليات الاستعمارية التقليدية، آلية جديدة أكثر شراسة وعنفا، بقدر ما هي مخفية وراء تطبيقات حاسوبية افتراضية.

وبحسب مبيبمي، فإن مفهوم “التوحش” ولد من رحم ظاهرة العنف المتزايد المدعوم بالتقدم في مجالات الذكاء الاصطناعي وظاهرة التغير المناخي المدمر، وهو مفهوم إجرائي يسمح بطريقة ديناميكية بتفسير تصدع العالم، وهو ما يتجلى بمواصلة دول الاستعمار القديم لأفريقيا بطرائق مختلفة، إذ لم نعرف حتى الآن سوى الآلام الجسدية والمعنوية، تحت عناوين مثل سياسات تقشفية برعاية المؤسسات المالية الدولية، وتخزين النفايات السامة، وتسمم البيئات الحية.

و«التوحش» في عقل مبيمبي قائم على فلسفة مفهومها «الغلبة للأقوى»، وتتمحور حول من يحق له أن يملك الأرض وما عليها، وبالتالي فإن التوحش يتلخص في التخلص من الأضعف الذي ينظر له بأنه يشكل عبئا على الأرض والميزانيات الوطنية، مما أدى إلى إعادة توزيع غير متكافئ لوسائل الإنتاج حول العالم، ويرعى ذلك القوى المالية مسنودة بالتكنولوجيا الرقمية وأنماط الحروب الجديدة، من خلال استهداف الجسم والأعصاب، تمامًا كما كان يستهدفها المستعمر قديمًا بصورة بدائية.

وبالتالي فإن ممارسات مثل العنصرية والعبودية لم تعد لها الدلالات ذاتها، ويفسر التوحش ذلك باختفاء «السيد» الذي لم يعد مجسدًا في شخص أو جهة محددة يمكن التعامل معها، ولكن تأثيره ما زال موجودًا وبصورة أقوى وأشد حيث لا يدري أحد.

الابن الفكري لـ”روبين أم نيوبي”

ولد أشيل مبيبمي في عام 1957، خلال حرب التحرير الكاميرونية، وهي حرب استمرت تداعياتها لوقت طويل، واستمرت المشاهد المروعة محفورة في ذاكرة العائلات الكاميرونية، ومنها عائلة أشيل مبيمبي، والتي دفعت ابنها – عم مبيمبي- ثمناً لهذه الحرب وغيره من الأشخاص، إلى جانب الزعيم الثوري الوطني روبين أم نيوبي؛ الذي تم سحل جثته عبر القرى بهدف ترهيب السكان.

ومن تلك الفترة الصعبة نشبت رغبته بالتخصص في مادة التاريخ، فانتقل إلى باريس لمواصلة دراسته الجامعية. وفيما تغاضت الرواية التاريخية الرسمية في الكاميرون عن شخصية روبين أم نيوبي، ظل مبيمبي ساعيا إلى إحياء ذاكرة الزعيم الثوري. لكن سلطات بلاده رفضت أفاكره وطاردته إلى أن قررت نفيه مدة عشر سنوات لا لشيء سوى أنه نشر في كتابه الأول مشتقات من نصوص كتبها روبين أم نيوبي. وانعكس هذا القرار على حياته الشخصية إذ إن السلطات منعته من حضور جنازة والده، ما دفعه لعدم السفر نهائياً إلى الكاميرون.

وتأثر مبيمي بالزعيم نيوبي كونه أول زعيم سياسي أفريقي دعا لاستقلال بلاده أمام الأمم المتحدة، وبالتالي كانت هناك حرب ضده تحديداً، فقد حشدت فرنسا قوات لمطاردته، لقد كان أول من تم هدمه على وجه التحديد لأنه كان في طليعة معركة الاستقلال الأفريقي؛ لم ترد فرنسا أن يكون نجمه ساطعاً في التاريخ.

يقول كتاب «حرب الكاميرون»، والذي ألفه توماس ديلتومب ومانويل دوميرغ وجايكوب تاتسيتسا، إنه بين عامي 1955 و1964، قُتل عشرات آلاف الأشخاص من أعضاء الحزب أو مجرد مدنيين، وهي حرب «مرّت بصمت، مُحيت من الذاكرة» إلا أنها استمرت بعد استقلال الكاميرون الذي أُعلن في الأول من يناير 1960، حيث تواصل قمع القوميين في ظلّ نظام الرئيس أحمدو أحيدجو (1960-1982).

وسعى نيوبي وغيره من القوميين الكاميرونيين إلى إعادة توحيد الأراضي المقسمة، فبدأ في عام 1945، بعد وقت قصير من الحرب العالمية الثانية، في تأسيس اتحاد نقابات متحد التجارة، وأصبح أول أمين عام لهذه المنظمة العمالية، وحارب من أجل ظروف أفضل للعمال الكاميرونيين وربط أوضاعهم السيئة بالنظام الاحتلالي.

وبعد ثلاث سنوات، تم تأسيس اتحاد الشعب الكاميروني في عام 1948 وسرعان ما أصبح أحد أهم الأحزاب السياسية القومية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وأصبح «أم نيوبي» زعيماً لهذا الحزب، حيث شغل منصب أمينه العام، وهو المنصب الذي جعله أبرز زعيم استقلال في بلده. وفي الأعوام 1952 و1953 و 1954، سافر أم نيوبي إلى نيويورك، للمثول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث ندد مرارًا بالحكم الاحتلالي الفرنسي في الكاميرون ودعا إلى إعادة التوحيد الفوري للكاميرون الفرنسية والبريطانية، وطالب بمهلة زمنية محددة للاستقلال ودعا إلى جمعية تشريعية كاميرونية. وردت الإدارة الفرنسية ببدء اضطهاد أعضاء الاتحاد في عام 1955، وقد قُبض على العديد منهم أو قُتلوا، ونُفي بعضهم إلى دول أخرى، ونظم روبن حركة مقاومة غير عنيفة تشبه إلى حد كبير الحركة التي قادها غاندي في الهند في الغابة الاستوائية الكاميرونية واستمرت في المطالبة بالاستقلال والدعوة إلى انتخابات ديمقراطية، وكرس حياته للنضال من أجل استقلال الكاميرون، حتى قتل على يد الجيش الفرنسي في 13 سبتمبر 1958، بالقرب من بلدة بومنيبل.

* قراءة في عقل مبيمبي

تستعرض هذه الجزئية الرؤى الفكرية لأشيل مبيمي وإسهاماته الفكرية الخاصة بمرحلة ما بعد الاستعمار في أفريقيا.

مؤسسًا لدراسات ما بعد الاستعمار

يعد أشيل مبيمبي أحد أبرز المؤسسين لدراسات ما بعد الاستعمار في العصر الحديث، حيث ركزت أعماله على العنف الاستعماري، والمقاومة والنضال الأفريقي من أجل الاستقلال، الأمر الذي قاده إلى إعادة التفكير في مفهوم «ما بعد الاستعمار»، ومن بين كتب مبيمبي، التي تناولت مرحلة ما بعد الاستعمار، وتمت ترجمتها إلى العديد من اللغات، وأبرزها الفرنسية: (في مرحلة ما بعد الاستعمار 2000/2001، والسياسة الميتة 2016/2019، وخارج الليل المظلم 2010/2021، والمجتمع الأرضي: تأملات في المدينة الفاضلة الأخيرة 2022، والوحشية 2020/2024)، وجميعها غطت مجموعة واسعة من المواضيع، بما في ذلك التناقضات المتأصلة في الديمقراطية والعرق والانتماء العرقي والسياسة الحيوية وسياسات الهوية داخل الدول الأفريقية.

وضمن هذه الإسهامات حاول أشيل مبيمبي تجديد وإعادة تفسير فهم السلطة والذاتية في أفريقيا المعاصرة، ففي كتابه «في مرحلة ما بعد الاستعمار»، خرج من تغيير النظرة إلى أفريقيا، والابتعاد عن الطريق المسدود لنظرية ما بعد الاستعمار إلى طريقة تفكير أكثر ديناميكية تأخذ في الاعتبار تعقيدات أفريقيا ما بعد الاستعمار، وتمثلت البادرة المركزية لعمله في تحديد المجتمعات التي خرجت مؤخرًا من تجربة الاستعمار والعنف الذي يمثل السمة الرئيسية لهذه التجربة، وك الهدف من عمله هو تغيير النظرة إلى أفريقيا والابتعاد عن الطريق المسدود لنظرية ما بعد الاستعمار إلى طريقة تفكير أكثر ديناميكية تأخذ في الاعتبار تعقيدات أفريقيا ما بعد الاستعمار.

  • نقد العقل الزنجي:

يعد كتاب «نقد العقل الزنجي» أحد الإسهامات الفكرية التي قدمها المفكر الكاميروني آشيل مبيمبي، في نقد ثقافة الكراهية ضد الأفارقة، وتأثيرات الاستعمار الأوروبي على الطبقات الاجتماعية في أفريقيا، ويتناول هذا الكتاب ستة عناوين رئيسية حول العقل الزنجي يستهل بها «العِرْق» ويختمها بـ«الذات» متناولا قضايا عميقة جدًا. وهو يُمسِك بخيطِ التاريخ بدءً من «تحوّل إسبانيا والبرتغال من مستعمرات محيطة للعالم العربي إلى محرّك للتوسع الأوروبي ما وراء الأطلسي بتدفق الأفارقة على الجزيرة الأيبيرية».

يقول مبيمبي في كتابه: «لقد كان الزنجي الوحيد من بين كافة البشر الذي صير لحمه سلعة. زد إلى ذلك أن الزنجي والعرق لم يكنا إلا شيئًا واحدًا في مخيال المجتمعات الأوروبية حيث شكلا معًا منذ القرن الثامن عشر قبوًا غير معترف به وغالبًا منكرًا انتشر انطلاقًا منه المشروع المعرفي الحديث – لكن أيضًا مشروع الحكم – ذلك ما يجعلنا نتساءل عم إذا كان تراجع أوروبا إلى مصاف مقاطعة بسيطة من هذا العالم وزوال العنصرية سيؤشر على تحلل أحد دولها الكبرى ألا وهو الزنجي؟ أو بالعكس بعد ذوبان هذه الصورة التاريخية ألن يتحول جميعنا إلى زنوج العنصرية الجديدة التي تصنعها على مستوى الكوكبي السياسات الليبرالية الجديدة والأمنية وحروب الاحتلال الجديدة والسلب وممارسات خلق المناطق؟».

يرى مبيمبي أن الطبقات الاجتماعية تم تقسيمها، وتمّ مَنْزَلَتها منذ زمن بعيد، ما بين أناس أحرار وآخرين سُمّوا بالعبيد تقوم بالخدمة وبسائر الأعمال التي يأنف الإنسان الحر من ممارستها، وبالتالي كان العبيد ملكًا يُباع ويُشترى بيْع الأموال المنقولة، ويتصرف صاحب العبد به تصرفه بملكه الخاص.. ولم يخوّل القانون العبد حق إبداء رأيه في مستقبله، لأنه بضاعة مملوكة، كالماشية، مؤكداً استمرار مأساة الرق وتحديدًا في العِرق الزنجي بشكل يندى له الجبين، مدللاً: “ففي بحر قرن واحد فقط (1580– 1680) شُحِن مليون ونصف المليون من الرقيق إلى الأمريكتين! وخلال ثلاثة قرون، استُنزِفَ من أفريقيا 40 مليون إنسان من الرقيق، 90 % منهم شباب”.

ويرى أيضاً أن الأوروبيين ممن أسماهم «أدعياء العلم»، ساهموا في تأسيس ثقافة الكراهية ضد السُّوْد، حتى أن لويس أجاسيز عالم الطبيعة والأحياء في جامعة هارفاد خرج خلال القرن التاسع عشر بنظرية “الأنواع الثمانية” في الجنس البشري، مضيفاً أن الاعتقاد في أوروبا يرى أن الإنسان الأسْوَد لا يرقى إلى كونه إنسانًا بل هو في أقصى حدوده «سلالة حيوانية متقدمة»… وكانت المبادئ الخاصة بحقوق الإنسان لا تُطبّق على الزنوج لأن جمجمتهم لا تَسَعَ ما كانت تَسَعه جماجم البِيْض. لقد شكل الحضور «الزنجي» في أوروبا والعالم الجديد شكَّل مع مرور الزمن «حركات الأفارقة الأحرار»، أولئك المعمّرين الجدد الذين كانوا بالأمس زنوجا فقراء… وكان خروج الظرف الزنجي خارج حدود الدولة إذن، مؤسسًا للحداثة، وقال مبيمبي إن: “النظرة الغربية السلبية تجاه الزنوج حصل لها “انقلاب راديكالي” في بداية القرن العشرين، بعدما تناولته الحركات الطلائعية بالإضافة إلى «أزمة الوعي التي غرق الغرب فيها في بداية القرن»، وكانت إعادة تقييم مساهمة أفريقيا في مشروع إنسانية مستقبلية على خلفية تجديد النقد الجمالي والسياسي المناهض للاستعمار.

  • ما بعد الاستعمار: أفريقيا والبحث عن الهوية المسلوبة:

يقول مبيمبي: “القوى الاستعمارية تملك خاصية إخفاء معاناة البشر ودفنها في دائرة لا نهائية يقع مركزها في مكان آخر”.

يضم كتاب «ما بعد الاستعمار: أفريقيا والبحث عن الهوية المسلوبة» بين جنباته مجموعة من المقالات التي تدرس الواقع السياسي والاقتصادي والفكري في المجتمعات الأفريقية ما بعد الاستعمار، أو في “أفريقيا الجديدة”، واستعرضت آليات عمل الأنظمة السياسية في بعض دولها، لا سيما الدكتاتورية منها، بالإضافة إلى البحث في آليات القوة الاستعمارية، والترابط الوثيق بين العنف والبيروقراطية، ووسائل السيطرة والهيمنة، والطرق المتبعة للمحافظة عليها، وذلك بالإضافة إلى الإضاءة على تأثير جميع ما سبق على الحياة والعمل السياسيين في أفريقيا ما بعد الاستعمار، ومناقشته لتداعيات سوء إدارة الدولة ومواردها في بعض الدول الأفريقية، وفي مقدمتها الكاميرون.

وعرض مبيمبي خلال كتابه للعواقب بعيدة المدى، التي تمخضت عن التأثيرات النظرية والعلمية للعنف والتطرف، اللذين مارستهما القوى الاستعمارية ضد الشعوب الأفريقية في مراحل زمنية مختلفة، مستنداً إلى وقائع تاريخية حقيقية وقعت للمجتمعات الأفريقية، وارتكبت فيها القوى الاستعمارية أفعال تدميرية، كذلك ناقش “التأسيس المعرفي للعنف”، والحق في غزو الآخر واستعماره استنادًا إلى تنظيرات معرفية تقوم على مفهوم الاختلاف وثنائية الحر/ العبد، أو الأبيض/ الملون، وذلك من خلال البحث في آليات القوة الاستعمارية، والترابط الوثيق بين العنف والبيروقراطية، ووسائل السيطرة، والهيمنة، والطرق المتبعة للمحافظة عليها، والطرق التي يضفي المستعمر من خلالها الشرعية القانونية على ممارساته العنيفة، عبر دلالات لغوية ونماذج تشرحها وتبررها، بالإضافة إلى الإضاءة على مختلف الوسائل التي يلجأ إليها عادةً لضمان بقاء العنف وانتشاره بصورة قانونية.

وتحدث مبيمبي عن استغلال المستعمر لجسد الأفريقي، واستخدامه في أعمال تعود عليه بالنفع وزيادة الإنتاج وجني الأرباح، وذلك بعد ضبطه وإخضاعه عبر تعنيفه، والضرب بالسياط غالبًا، بهدف ضمان طاعته، يكشف مبيمبي في هذا الكتاب عن بعض العواقب البعيدة المدى الناتجة عن التأثيرات النظرية والعملية للعنف والتطرف اللذان يمارسهما المستعمر مع الأفارقة من خلال التطرق الى واقع تاريخية صحيحة وقعت للمجتمعات الإفريقية حيث ارتكب المستعمر أفعال تدمير لها خاصية إخفاء معاناة البشر ودفنها في دائرة لا نهائية يقع مركزها في مكان آخر.

وبحسب المفكر الكاميروني، فإن السيادة الاستعمارية ارتكزت في أفريقيا على 3 ضروب رئيسية: الأول: هو التأسيس المعرفي للعنف من خلال الحق في غزو الآخر واستعماره عن طريق التنظير المعرفي للاختلاف العرقي والتشديد على ثنائية الحر/العبد او الأبيض/ الملون. والثاني: هو إضفاء الشرعية القانونية على العنف بإضفاء دلالات لغوية ونماذج شارحة لتبرير هذا العنف. والثالث: هو التأسيس لبقاء العنف وانتشاره وديمومته من خلال إنتاج صور خيالية تأخذ طابعًا ثقافيًا وتاريخيًا واجتماعيًا، وكل من يخالف هذه الضروب التي تحولت إلى بروتوكولات أو بديهيات أو مسلمات فهو متوحش وخارج عن القانون، بل هو حيوان كون الحيوان لا يملك قدرات بل رغبات ودافع إضافة الى افتقاره إلى رؤية صحيحة عن العالم.

* الديمقراطية تحتضن جسدها الليلي

تناقش هذه الجزئية مفهوم سياسة الموت عند أشيل مبيبمي، وهي أحد الأفكار التي نظّر لها المفكر الكاميروني، ضمن منهجيته وأفكاره التي تخصصت في فترة ما بعد الاستعمار:

  • سياسة الموت / السياسة الميتة:

يضع أشيل مبيمبي، في كتابه «السياسة الميتة –  Necropolitics»، نظرية لنسب العالم المعاصر، كونه عالم يعاني من عدم المساواة المتزايدة باستمرار، والعسكرة، والعداء، والإرهاب، فضلاً عن عودة ظهور النزعات العنصرية والفاشية والعنصرية، والقوى القومية مصممة على الإقصاء والقتل، ويجيب في الكتاب عن التساؤل: كيف بدأت الديمقراطية في احتضان جانبها المظلم -ما يسميه «جسدها الليلي»- والذي يقوم على الرغبات والمخاوف والتأثيرات والعلاقات والعنف الذي دفع الاستعمار؟ وقد أدى هذا التحول إلى تفريغ الديمقراطية، وبالتالي تآكل القيم والحقوق والحريات التي تحتفل بها الديمقراطية الليبرالية بشكل روتيني، ونتيجة لذلك، أصبحت الحرب سر عصرنا في مفهوم السيادة الذي يعمل على إبادة كل من يعتبرون أعداء للدولة.

ويعتمد مبيمبي على مناقشات ما “بعد فوكو” حول السياسة الحيوية والحرب والعرق بالإضافة إلى فكرة فانون عن الرعاية باعتبارها نقطة ضعف مشتركة لاستكشاف كيف يمكن أن تتحقق مفاهيم جديدة للإنسان تتجاوز الإنسانية. وستسمح لنا هذه المفاهيم الجديدة بمواجهة الآخر ليس كشيء يجب استبعاده، بل كشخص نبني معه عالمًا أكثر عدلاً، ويُقدم مبيمبي حجة بأن مفهوم «القوة الحيوية» كما يفهمه “فوكو”، يصبح غير قادر على التعامل مع الأشكال المعاصرة للهيمنة والإخضاع والعنف، ويرى فوكو أن القوة الحيوية تشير إلى التمرين السيادي للسلطة في تحديد من سيعيش ومن سيموت، والسمة الأساسية للقوة الحيوية هي عنصر العنصرية الكامن فيها لأنها تهدف إلى تحديد الحدود وتقسيم الناس إلى فئات وفئات فرعية.

وفقاً لمبيمبي، فإن سياسة الموت في العالم المعاصر تستلزم إخضاع الحياة لقوة الموت، كونه يتم نشر أنواع مختلفة من الأسلحة لتحقيق أقصى قدر من الدمار للأشخاص وخلق عوالم الموت، وأشكال جديدة وفريدة من نوعها للوجود الاجتماعي حيث يتم إخضاع أعداد كبيرة من السكان لظروف الحياة، ويمنحهم صفة الأحياء والأموات، ووفق الكتاب، فإن السياسات النكروية “الموت” تستلزم اقتصادًا ًميتًا، حيث ستنتج الرأسمالية الحديثة في الوقت الحاضر فائضًا من السكان لا يمكن استغلاله بعد الآن، ولكن يجب إدارتهم بدقة من خلال تعرضهم لأخطار ومخاطر مميتة، ولعل ما يسمى بـ«أزمة المناخ»، وأيضاً تعتمد السياسة الميتة على حبس مجموعات سكانية معينة في أماكن معينة: المعسكرات. بالاعتماد على رؤى أجامبين، حيث يعتقد مبيمبي أن شكل المعسكر (اللاجئين، السجون، الضواحي ، الضواحي، الأحياء الفقيرة ) أصبح وسيلة سائدة لحكم السكان غير المرغوب فيهم. ويتم عزل هؤلاء في أماكن محفوفة بالمخاطر وعسكرية حتى يمكن السيطرة عليهم ومضايقتهم واحتمال قتلهم. إنها “حالة دائمة من العيش في الألم”.

وهناك سمة ثالثة و”رئيسة” للسياسة الميتة هي “إحداث الموت على نطاق واسع»، وقد تم تطوير هذا الجانب، بشكل خاص، ومن الممكن تفسير هذه الخاصية، من خلال تسليط الضوء على مجموعة من السمات :

  1. إرهاب الدولة:

تضطهد الدولة وتسجن وتقضي على مجموعات معينة من السكان حتى يمكن تحييد النزاعات السياسية والاجتماعية. ولا يتم تطبيق هذه التكتيكات القمعية من قبل الأنظمة الشمولية فحسب، بل أيضًا من قبل الدول الليبرالية وغير الليبرالية المعاصرة.

  1. الاستخدام المشترك للعنف:

في كثير من الحالات، لا تمتلك الدولة احتكار العنف مع جهات خاصة أخرى (أي الميليشيات والقوات شبه العسكرية) وتتقاسمه عن طيب خاطر، مما يزيد من تداول واستخدام الأسلحة في المجتمع. وبالتالي، فإن الأخير منقسم بين «أولئك المحميين بسبب السلاح والذين ليسوا كذلك».

  1. رابط العداوة:

وفقا لمبيمبي، في مجتمع يحدد فيه حيازة الأسلحة وعدم حيازتها القيمة الاجتماعية للفرد، يتم تدمير جميع الروابط الاجتماعية. ومن ثم فإن ارتباط العداوة يجعل «فكرة أنه لا يمكن اكتساب ا4cلسلطة وممارستها إلا على حساب حياة شخص آخر».

  1. الحرب:

«لقد أصبح الإكراه في حد ذاته سلعة سوقية».. في أيامنا هذه، أصبحت الحرب والإرهاب أسلوبين للإنتاج في حد ذاتهما، وبالتالي فإنهما بحاجة إلى توليد أسواق عسكرية جديدة.

  1. نهب الموارد الطبيعية:

من أجل استغلال الموارد الطبيعية القيمة، يتم تهجير السكان والقضاء عليهم (أي السكان الأصليين في غابات الأمازون المطيرة) من خلال التعاون النشط والخفي بين الدولة والقوات العامة والشركات الدولية والمنظمات الإجرامية.

  1. أساليب القتل المختلفة:

التعرض للموت متعدد: التعذيب، والتشويه، والقتل الجماعي، والقضاء على التكنولوجيا الفائقة من خلال «ضربات الطائرات بدون طيار» التي تمثل أشكالًا مختلفة للأجهزة السياسية الميتة.

  1. مبررات أخلاقية مختلفة:

وفقًا لمبيمبي، يتم تبرير الفظائع لأسباب مختلفة مثل: القضاء على الفساد، وأنواع مختلفة من «الطقوس العلاجية»، و«الرغبة في التضحية»، و«الأخرويات المسيحانية»، وحتى «الخطابات النفعية الحديثة»، و«المادية والاستهلاكية»، وبالتالي فإن سياسة الموت تنطوي على ترسيخ مغلق للأجهزة السياسية والاقتصادية والعسكرية، الموجهة نحو القضاء على السكان البشريين. ولكن إلى جانب هذا الجانب، يتم نشر السياسة الميتة أيضًا من خلال “جرعات صغيرة” من الموت تشكل الحياة اليومية للأفراد.

جنبا إلى جنب مع عمليات القتل والإبادة الجماعية، يرى مبيمبي أن السياسة الميتة تنطوي على مراقبة الأفراد ليس لأغراض الانضباط، ولكن لانتزاع أقصى قدر من المنفعة منهم، كما هو الحال في حالة العبودية الجنسية. 13 إن غرس تلك  «الجرعات الصغيرة» من الموت في الحياة اليومية للعديد من الأفراد يأتي أيضًا من “العنف الاجتماعي والاقتصادي والرمزي غير المحدود” الذي يدمر أجسادهم وقيمة وجودهم الاجتماعي، ويرى مبيمبي أن الاضطهاد العرقي الذي ترتكبه القوات الحكومية الرسمية ضد مجموعات سكانية معينة، أم ما يسمى باستراتيجية “المجازر الصغيرة” التي تُرتكب يومًا بعد يوم، وغياب السلع الاجتماعية الأساسية (مثل الصرف الصحي والإسكان) تؤدي إلى نوع من الوجود “تكمن قيمته في هذا النوع من الحياة. «من الموت يمكن أن يلحق به».

تتكون السياسة الميتة في القدرة على تصنيع حشد كامل من الناس، الذين يعيشون على وجه التحديد على حافة الحياة، أو حتى على حافتها الخارجية – الناس الذين تعني الحياة بالنسبة لهم الوقوف في وجه الموت باستمرار، وهذه الحياة، إذن، حياة زائدة عن الحاجة، وثمنها زهيد جدًا لدرجة أنه لا يوجد لها نظير، سواء كان سوقيًا أو إنسانيًا، لا أحد يحمل حتى أدنى مشاعر المسؤولية أو العدالة تجاه هذا النوع من الحياة، أو بالأحرى، الموت. وتستمر السلطة السياسية الميتة عن طريق نوع من الانقلاب بين الحياة والموت، كما لو كانت الحياة مجرد وسيلة للموت.

في ظل سياسة الموت اليومية، تعيش مجموعة كبيرة من السكان في ظروف محفوفة بالمخاطر للغاية، وبالتالي يمكن استغلالها والقضاء عليها “بشكل طبيعي”. يشير مبيمبي إلى العنصرية باعتبارها المعيار الرئيسي الذي يسمح بتنفيذ سياسة الموت والتوسع في المجتمع. إلى جانب «العنصرية الهيدروليكية» التي تحدد العنصرية المؤسسية (الدولة والقانون والإدارة)، يهتم مبيمبي بما يسمى «العنصرية النانوية» المنتشرة في العلاقات الاجتماعية اليومية، والتي تهدف إلى الوصم والإيذاء والإذلال. ومن لا يعتبر منا”، مع الأخذ في الاعتبار أشكال العنف السياسية والاجتماعية والرمزية الحالية المنتشرة في جميع أنحاء العالم، فإن فكرة مبيمبي عن السياسة الميتة تمثل فئة إرشادية ذات صلة بالفكر النقدي المعاصر.

هل انقلب مبيبمي على أفكاره؟

يعد المفكر الكاميروني أشيل مبيمبي، أحد أبرز المفكرين الأفارقة الذين أسسوا لدراسات ما بعد الاستعمار في العصر الحديث، انتقد بأعماله العنف الاستعماري، وتاريخ المقاومة الأفريقية والنضال من أجل الاستقلال، مدفوعاً بذاكرة شعبية وأحداث عاشها، وتزامنت مع نشأته وحرب التحرير الكاميرونية. تلك النشأة دفعته إلى إعادة التفكير في مفهوم «ما بعد الاستعمار»، وهو ما قدم له في إسهاماته الفكرية، والتي غطت موضوعات تناقش التناقضات المتأصلة في الديمقراطية والعرق والانتماء العرقي والسياسة الحيوية وسياسات الهوية داخل الدول الأفريقية، في محاولة تجديد وإعادة تفسير فهم السلطة والذاتية في أفريقيا المعاصرة.

وخرج مبيمبي بأفكاره من تغيير النظرة إلى أفريقيا، والابتعاد عن الطريق المسدود لنظرية ما بعد الاستعمار إلى طريقة تفكير أكثر ديناميكية تأخذ في الاعتبار تعقيدات أفريقيا في هذه الفترة والتي عرفت بما بعد الدراسات الكالونالية، والتي تمثلت فيها البادرة المركزية في تحديد المجتمعات التي خرجت مؤخرًا من تجربة الاستعمار والعنف.

ورغم ما مثله المفكر الكاميروني من مكانة في العقل الأفريقي، والأوساط الأدبية، إلا أن تحركاته بعد سنين من التأصيل لدراسات ما بعد الاستعمار، أظهرت خلاف ما قدم، بظهوره منظراً للسياسات الماكرونية في أفريقيا، والتي تبناها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، متغاضياً عن الذاكرة الاستعمارية لباريس في بلاده الأصلية، وبدلاً من الحديث عن الذاكرة الاستعمارية لفرنسا ودراسات ما بعد الاستعمار، قبل مبيمبي طلب الرئيس ماكرون بالدعم والتوسط بين باريس وشباب إفريقيا لتحقيق الأهداف الفرنسية في إعادة تحديد رسم العلاقة بين أفريقيا وفرنسا، عبر توليه مهام هندسة القمة الفرنسية الأفريقية في نسختها الـ 28 في عام 2021،  والتي كانت محاولة لتقريب العلاقات مجدداً.

ويعاب على المفكر الكاميروني على دخوله كجزء من المناورة الفرنسية تجاه أفريقيا، حيث اعتبره سياسيون بمثابة بوابة لتمرير الرسالات الماكرونية إلى الشباب الأفريقي، متغاضياً عن التدخل الفرنسي في السياسات الداخلية للدول خاصة دول جنوب الصحراء، وعلى رأسها بلاده، والتي ظهرت تداعياتها في الأشهر الأخيرة برفض واضح للأنظمة التي تحافظ على علاقاتها مع باريس، خاصة انقلابات النيجر ومالي في 2023.

ويدلل على ذلك ما قاله مبيمبي في تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية: “إذا نجحنا (بمدينة) مونبلييه في تجاوز الحديث عن تبادل الاتهامات أو النكران فنكون قد عبدنا الطريق أمام ثورة ثقافة صغيرة”، ما يعني أن الفيلسوف الكاميروني الذي أمضى نحو ثلاثين عامًا من حياته الأكاديمية بين دول، مثل الكاميرون وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والسنغال وجنوب إفريقيا، متحدثاً عن دراسات ما بعد الاستعمار، من من موقف المناضل ضد الاستعمار إلى متبني موقف التساهل مع فرنسا.

ويرى نقاد أن مبيبمي ليس بالمناضل الشرس تجاه سياسات ما بعد الاستعمار، لكون انتقاداته السياسة الإفريقية لفرنسا أو الاختلالات بين الشمال والجنوب غالبًا ما تكون غامضة؛ إذ يشعر القارئ لكتاباته أنه اجتهد كثيرًا في صياغة عباراته حتى لا يفهمه أحد، فالمفكر الكاميروني “مونغو بيتي” يرى أن المفكرين الفرنكوفونيين هم الأضعف دائمًا من بين جميع المثقفين المستعمرين؛ فمنذ الحرب الباردة وانهيار المعسكر الشيوعي لجأت فرنسا إلى القمم والمؤتمرات الوطنية لتشديد قبضتها والحفاظ على الوضع في مستعمراتها من خلال تقديم وجوه افتُرِضت أنها جديدة ولكنها مجهّزة في السرّ لفترة طويلة، بحسب الروائي السنغالي بوبكر بوريس ديوب؛ بأن مشاركة مبيمبي في القمة سوى مزحة سيئة.

وأظهر مبيمبي نفسه ذلك في تصريحاته، بقوله: ” يعتقد الكثيرون أن الوقت قد حان لإنهاء هذا النوع من المواقف (الفرنسية التي تعيق التنمية والحكم المدني)، والتوجه نحو الاستثمار في المؤسسات، بدلاً من الاستمرار في الاعتقاد بأن الرجال الأقوياء فقط هم من يمكنهم الحفاظ على الاستقرار والأمن (في إفريقيا)”.

 

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى