تزامنا مع انعقاد الدور الثانية لمؤتمر ” قمة الديمقراطية ” في ال ٢٨ من مارس الجاري و لمدة ٣ أيام وهى المبادرة التي اطلقها الرئيس الامريكى جو بايدن لتوحيد الدول الديمقراطية واستعادة الزعامة الأمريكة في مواجهة ما أسماه صعود الأنظمة الديكتاتورية، حيث عقدت الدورة الأولى ديسمبر عام ٢٠٢١ عبر الفيديو كونفرس، تزامنا مع هذا الانعقاد دعونا نتناول ملامح الديمقراطية الأمريكية خلال عمر الولايات المتحدة غير الطويل بشكل سريع، بالإضافة الى مصيرها من وجهة نظر أبنائها من النخبة .
فخلال العامين الأخيرين من تاريخ الولايات المتحدة الامريكية اثارت قضية الديمقراطية جدلا واسعا بين النخب العالمية من السياسيين والمنظرين ومن بينهم النخب الامريكية، وذلك بعد ان شكك الرئيس السابق دونالد ترامب في نزاهة الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز بها منافسه بايدن، بل تمادى ترامب نفسه بكيل الاتهامات للديمقراطية الأميركية، ليصفها بديمقراطية العالم الثالث، وأظهر استطلاع للرأي أجرته وكالة رويترز للأنباء بالتعاون مع شركة إبسوس، أن نصف الأمريكيين يعتقدون أن تزوير الانتخابات مشكلة واسعة الانتشار.
وفى كتابه ” وداعا للحلم الأمريكي..المبادئ العشرة الأساسية في تمركز الثروة والقوة” للكاتب الامريكى نعوم تشومسكى بدأ فصله الأول بما أسماه “الديمقراطية المنقوصة”، ويوضح أن ثمة صراعا حادّا وقويّا على امتداد التاريخ الأمريكي بين الضغط من أجل حرية وديمقراطية أكثر، (وهذا متأت من الطبقة الدنيا)، وبين جهود النخبة لبسط السيطرة وفرض النفوذ من أجل ديمقراطية منقوصة، (وهذا مصدره الطبقة العليا). فرغم أن جيمس ماديسون، الواضع الرئيس لإطار الدستور، كان شديد الإيمان بالديمقراطية، فإنه شعر بأن نظام الولايات المتحدة يجب أن يصمم، وقد حصل ذلك فعلا، لكي تكون القوة في يد طبقة الأغنياء؛ و الأمثلة على هذا الصراع بين الديمقراطيتين في الحياة الامريكية كثيرة منها على سبيل المثال : قضية السجون التي تديرها شركات القطاع الخاص ، حيث تثير الكثير من الرعب في مجتمع يدعى انه ديمقراطى، فقد أشار روبين كيلي أستاذ التاريخ في جامعة كاليفورنيا لوس انج+لوس ان سُكّان الولايات المتحدة نحو 5% من العدد الإجمالي لِسُكّان العالم، لكن تَضُمُّ سُجُونُها 25% من العدد الإجمالي لمساجين العالم برقم يتجاوز ٢ مليون و ٣٠٠ الف سجين، وارجع كيلى السبب الرئيسي الى ان الولايات المتحدة تستغل قوة عمل المساجين لتعظيم أرباح الشركات العابرة للقارات، لجَعْل سعر العديد من السّلع، أقل من تكلفتها بالهند أو بنغلادش أو كولومبيا، ويتّفق الحزبان الحاكمان على تشديد القَمع بذريعة مكافحة الجرائم والمُخدّرات، ما يُفسِّرُ ارتفاع عدد السجناء بين سنتَيْ 1970 و 2005، بنسبة 700%، نتيجة سياسات مُخطّطة وبرامج مُعَدّة سَلَفًا، لتمكين الرأسمالية الأمريكية من زيادة حجم العمالة الرّخيصة. حيث يعمل أكثر من مليون سجين بدوام كامل، لصالح الشركات التي تعتبرهم عبيدًا، وليس عُمّالا، حيث يتقاضون ما بين 16 و 65 سنتًا للساعة أي أقل من الحد الأدنى للأجور بحوالي 95 مَرّة.
وبالإضافة الى هذه القضية فهناك قضية السلاح الفردى في أمريكا التي عجز المشرعون عن وضع حد لها على مدار عشرات العقود لوجود لوبى قوى هو ” الاتحاد القومى الأمريكي للأسلحة “الذى تأسس عام ١٨٧١ الذين يدفعون المال كدعاية للمرشحين لانتخابات الرئاسة و للمجالس التشريعية لدعم حملاتهم الانتخابية، مقابل منعهم من التصويت ضد مصالحهم.
وأفادت صحيفة “واشنطن بوست” عام ٢٠١٨ أن أندريه كاسبي، وهو مؤرخ متخصص في تاريخ الولايات المتحدة، كشف – في كتابه بعنوان “الأمة المسلحة، الأسلحة في قلب الثقافة الأمريكية” أن الميزانية السنوية للاتحاد القومي الأمريكي للأسلحة تقدر بـ 300 مليون دولار. وفى نفس العام كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” عن قائمة أعضاء الكونجرس الأمريكي الذين تلقوا أموالًا من “الاتحاد القومي الأمريكي للأسلحة”.
وأوردت الصحيفة أن المجازر التي تسجلها الولايات المتحدة بشكل سنوي لم تؤد إلى حظر امتلاك السلاح؛ فبحسب ما أشارت إليه شبكة “سي إن إن” عام 2015؛ يمتلك 90 بالمئة من الأمريكيين أي ما يعادل 321 مليون مواطن سلاحًا ناريًا. في المقابل؛ تقدر العديد من الجمعيات المناهضة للأسلحة النارية وجود ما بين 270 و400 مليون بندقية ومسدس في البلاد. وتلفت الصحيفة إلى أنه بينما لم يتعد عدد الشركات المصنعة للأسلحة 2222 شركة عام 2000؛ فقد قفز هذا العدد إلى أكثر من 16963 شركة عام 2020، كما قفز الإنتاج السنوي للأسلحة النارية المخصصة للبيع من 3.9 ملايين سلاح عام 2000 إلى 11.3 مليون سلاح ناري عام 2020.
بحسب موقع “ذا ترايس” المتخصص في تسليط الضوء على أزمة عنف السلاح في أمريكا؛ فقد تجاوز عدد عمليات إطلاق النار منذ بداية 2022 العمليات المسجلة في السنوات الماضية؛ بمعدل 222 هجوما ناريا في 144 يومًا من بداية العام.
وينبهنا تشومسكي في الفصل الثاني من كتابه إلى أنّ ثورة الشباب الجامعيين ومنهم السود – وخاصة في الستينات – قد ولّدت ردود فعل مخيفة بالنسبة للطبقة الأرستقراطية في البلاد التي شعرت أنّ وجودها مهدّد، ولقد كشفت عملية قتل فلويد خنقا على يد رجال الشرطة وما نجم عنها من مظاهرات عنيفة، أن النضالات التي خاضها السود في الولايات المتحدة منذ نهاية القرن التاسع عشر وطيلة القرن الفائت، ضمن “حركة الحقوق المدنية” التي تأسست منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، لم تمكن السود من وقف مسلسل التمييز العنصري ضدهم. وترتكب الشرطة الأمريكية وفق منظمة “العفو الدولية”، انتهاكات لحقوق الإنسان بمعدل متكرر بشكل صادم، لا سيما ضد الأقليات العرقية والإثنية، وضد الأمريكيين السود بشكل خاص. ففي عام 2019 وحده، شاركت الشرطة في مقتل أكثر من 1000 شخص في الولايات المتحدة الأمريكية.
الكاتب الأمريكي “ويليام بلوم” يقول في كتابه “الديمقراطية أشد الصادرات الأمريكية فتكاً”: إنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سعت الولايات المتحدة لإسقاط أكثر من 50 حكومة أجنبية منتخبة ديمقراطياً. و شنت أمريكا أو شاركت في حروب في شبه الجزيرة الكورية وفيتنام وكوسوفو وأفغانستان والعراق وليبيا وآخرها في سورية واوكرانيا، ودعمت الإرهاب فيها وأدت إلى كوارث إنسانية فادحة.
مجلة “سميثسونيان” الأمريكية قالت: على عكس ما يعتقده معظم الأمريكيين والرأي العام العالمي، فإن الحرب الأمريكية تحت شعارات مكافحة الإرهاب امتدت إلى أكثر من 40 بالمئة من دول العالم، وفى تقرير أمريكي صدر عن مشروع “تكاليف الحرب” في جامعة براون الأمريكية كشف أن ما بين 770 ألفاً و801 ألف شخص ضحايا حروب واشنطن ما بعد 11 سبتمبر.
إن التأرجح في فهم أمريكا لمصطلح الديمقراطية رافقه تأرجح في فهم مصطلحات أخرى مرتبطة بالديمقراطية روجت لها أمريكا وعملت على تعميمها على العالم ، مثل مصطلح العنف، فهناك نوع يعد إرهاباً ونوع آخر يعد ” فناً من فنون الحكم” ، ففي دراسة قام بها كل من ” نعوم شومسكي ” و” إدوارد هرمان ” حول موضوع ” القوة والعقيدة في الولايات المتحدة ” استعرضا النوعين بحيث يصبح كل من يدافع عن وطنه إرهابياً ، فالفلسطيني إرهابي ، والأفغاني إرهابي ، والعراقي إرهابي ، كل هؤلاء إرهابيون لأنهم يدافعون عن كيانهم ووجودهم . أما أي عنف يمكن أن يخدم مصلحة أمريكا التوسعية فهو عنف حميد ، مثل العنف الممارس ضد ” الهنود الحمر ” و”الزنوج” الذين شيّد الرأسماليون الأميركيون ثرواتهم الأولى على آلام الملايين منهم ، والذين اختطفوا من أرجاء أفريقية ، وكذلك الأمر بالنسبة للملايين من الأوروبيين الذين استغلوا بتجارة الرقيق الأبيض، إضافة إلى مئات الألوف من المكسيكيين والفيليبينيين الذين استغلوا في انشاء السكك الحديدية والمزارع الرأسمالية بأجور بخسة واجواء من العمل غير ملائمة “.
أصدر الكاتب “ريتشارد هاس” الدبلوماسي الأمريكي المخضرم رئيس مجلس العلاقات الخارجية في امريكا، في يناير 2023، كتاباً جديداً بعنوان: “وثيقة الالتزامات: العادات العشر للمواطنين الصالحين” ويتناول أخطر التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة. ووفقاً للكاتب، فإنه على الرغم من أن الدولة الأمريكية تواجه تهديدات خارجية خطيرة مثل الإرهاب وتغير المناخ والأوبئة المستقبلية، وغير ذلك؛ فإن أكثر التهديدات للأمن والاستقرار الأمريكي لا تأتي من الخارج، بل من الداخل، مع تنامي حدة الانقسامات السياسية التي أثارت التساؤلات حول مستقبل الديمقراطية الأمريكية ذاتها ، لذلك أوضح انه لا يمكن لدولة في حالة حرب مع نفسها أن تكون قدوة للشعوب الأخرى للاقتداء والتأثر بها.
ومع هذه الآراء الامريكية عن الديمقراطية داخل بلدهم فمن الأجدى ان تقوم أمريكا بعمل مؤتمر داخلى لاعادة صياغة مفهوم الديمقراطية بين أبنائها، وإزالة عوامل هدم هذه الديمقراطية وإعادة الحقوق لفئات شعبها من السود والمهاجرين، وووقف التسليح الفردى ورفع استغلال الشركات الكبرى للمساجين الأمريكيين، ووقف التدخل في شؤون الدول، وذلك قبل ان تصدر نموذجا منقوصا من الديمقراطية للعالم الخارجى.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب