لم يكن نجيب محفوظ الروائى الوحيد الذى تناول شهر رمضان فى أعماله مثل «الثلاثية والمرايا وخان الخليلى»، لكن الكثير من الأدباء صنعوا من «رمضان» خلفية زمنية روحانية لأحداث رواياتهم، واستغل بعضهم ميل الوجدان الشعبى للشهر، فجعلوا الأحداث الوطنية التى سردوها فى رواياتهم تدور خلاله.
ومن هؤلاء كاتبنا الكبير إحسان عبد القدوس فى رائعته «فى بيتنا رجل»، فقد أضفى على الأحداث تلك الروحانيات المعروفة عن الشهر الكريم، رغم أنه لم يتطرق إلى عادات الناس فيه إلا نادرا، وقد بدأ السطر الأول من الرواية بقوله: بأحد أيام شهر رمضان، والساعة الخامسة مساء، قبل الإفطار بساعة ونصف الساعة، وكان راقدا فى فراشه بإحدى غرف مستشفى قصر العينى…».
هكذا يهيئ الكاتب ذهن قارئ الرواية منذ بدايتها أن الأحداث تدور فى شهر رمضان.ورغم أن عبد القدوس لم يتحدث عن الاستعداد لرمضان أو ليلة الرؤية، كما فعل نجيب محفوظ فى خان الخليلى، فإنه كان حريصا على ربط أحداث روايته بعادات رمضان الدينية، فبطل الرواية «إبراهيم حمدى» يختار وقت المغرب لتنفيذ مخططه بالهرب من المستشفى، حيث كان يعالج خلال فترة سجنه، مستغلا انشغال الحرس بتناول طعام الإفطار: «وانتظر حتى انتهى المؤذن من أذان المغرب، ثم فتح باب غرفته، والتقى بالجنديين وقد جلس كل منهما على مقعد وركن بندقيته على الحائط، وتوسطهما مقعد ثالث وضعا عليه طعام إفطارهما، وصاح أحد الجنديين بمجرد أن رآه: ـ اتفضل يا سى إبراهيم بيه.وقال إبراهيم، وهو يضغط على كلماته كأنه يخشى أن تفر منه وتكشف عن نياته: ـ عشت.. أما أروح أدور على واحد من الدكاترة يكون فاطر زيى.
ثم اتجه إلى الغرفة التى يجلس فيها الضابط، وكان هو الآخر يتناول إفطاره، وصاح فى لهجة حلوة بريئة، فيها من الحلاوة والبراءة أكثر من اللازم.. صاح وهو واقف على بابها: بالهنا والشفا.
وصاح الضابط: تعالى يا إبراهيم.. تعالى اقعد معايا.
وضع إبراهيم ضحكة بين شفتيه، وقال: لا.. ما اقعدش مع صايمين زى حضرتك».
فالكاتب لديه إصرار على أن يكون شهر الصيام بطلا من أبطال الرواية، رغم أن القارئ يدرك منذ اللحظة الأولى أن الأحداث يمكن أن تدور فى غير وقت رمضان، ففى خضم الأحداث كان الكاتب يعود إلى أسرة محيى الدين زاهر كل فترة ليصف نشاطهم اليومى، فيصف ما يفعله أفرادها وقت الإفطار: «وانطلق صوت مدفع الإفطار، بينما كان مقرئ الإذاعة لم يختم التلاوة بعد، وقال محيى وهو يقوم من على مقعده: أظن المدفع ضرب.
وقال والده دون أن يتحرك: استنى لما نسمع الأذان.وارتفع صوت الأذان، وظل الوالد لا يتحرك إلى أن انتهى الأذان، ثم قام ووقف للصلاة… والتفوا وقوفا حول المائدة، ثم جاءت الأم تحمل طبقا كبيرا من الأرز، ناولته لسامية لتضعه على المائدة، وهى تقول: اقعدوا يا ولاد على بال بابا ما يصلى. ثم لمحت محيى وهو يمد يده إلى سلطانية المخلل، فنهرته قائلة: ما تفطرش على مخلل، خاف على معدتك يا ابنى، ده حتى حرام عليك، السُنة بتقول إننا نفطر على بلح».أما بعد الإفطار: «كانت العائلة مجتمعة كعادتها عقب الإفطار والراديو يلقى عليهم أغانيه… كان الأب فى جلبابه الأبيض الفضفاض وفوق رأسه الطاقية الخفيفة التى لا يخلعها إلا ليضع مكانها الطربوش… وبين يديه جريدة الأهرام… وأمامه مائدة عليها كوب شاى فارغ… وكانوا كلهم صامتين، صمتا هادئا مريحا، كل منهم متفان فى هضم طعام إفطاره بعد صيام يوم طويل، وكأن معداتهم تبتسم وهى تقوم بعملية الهضم، وترسل ابتسامتها إلى شفاههم ليحمدوا بها الله». وهكذا، فقد نجح إحسان عبد القدوس، رغم قلة المواقف التى ذكر خلالها شهر رمضان، أن يقنع القراء تماما بأنه يعيش، مع أبطال الرواية، الجو الروحانى للشهر الكريم.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب