محمد جمعة آلا يكتب.. سوريا بين رعاية الدولة والوطن المؤجل

يتحاور الساسة السوريون والقابضون على الدولة حول مفهوم بناء الدولة – والدولة أولاً. لكن هل نحن بحاجة دولة؟ ألم نكن نعيش في ظل دولة قبل 8/12/2024؟ أم أن الحق معهم نحن نحتاج إلى تجربة دولة جديدة أي إنشاء تنويعة أخرى لظواهر الدولة المختلفة؟ فإذا كانت علمانية نقلبها دينية وهكذا نقدم للسوريين دولة جديدة وانتهى.
عندما خاض الغرب مغامرة إنشاء الدولة بعد انهيار الإمبراطوريات والتي سميت بـ “الحداثة” كان يلزم عقوداً زمنية طويلة ليقدموا لشعوبهم مفهوم الدولة، أي مرت الدولة بتقاطعاتٍ متنوعة من أول مشرّعيها ميكافيلي صاحب الدولة القومية إلى هوبز صاحب الدولة الإستلائية وانتهاءً بهيغل أبرز منقحي الدولة، وجميع هؤلاء الفلاسفة قدموا الدولة وشرحوها، ولكن ما يلفت النظر أن هؤلاء الفلاسفة كانوا يدركون أن الدولة من حيث التعريف هي جهازٌ عنفي متسلط يحمي الجماعة وينظمها بالقوة، وهو ما سيكون مسار جدل لدى الفيلسوف الفرنسي ليو ألتوسير.
اقرأ أيضا: الشام والعراق في أسبوع.. إطلاق مؤتمر الحوار الوطني بسوريا ودمشق وبيروت تبحثان تطوير العلاقات
في مواجهة قوة الدولة العنيفة اقترح هؤلاء الفلاسفة ما سيسمى بمفهوم الوطن. ففي مقابل قوة الدولة كان يستلزم اختراع جهازٍ أخلاقي يستطيع أن يحد الدولة ويرسم حدوداً لها، أي أن يُنشأ في مواجهة الليفيثان قوة معنوية تسمى الوطن وأفراداً أحرار يُسمون مواطنين، ومن ثم كان اختراع الوطن عابراً لجميع الهويات والأيديولوجيات والديانات والنزاعات. إنها تلك القوة التي تجعل الفرد يمارس عملية إنتماء داخل جغرافية معينة، وهذا الشعور ينشأ معها مسؤولية من قبل الفرد تجاه هذه الجغرافية، وهذه العلاقة التبادلية ستسمى الوطن والمواطنة. إن كتابات جميع الفلاسفة السياسيين من هوبز إلى فوكو تستهدف الحد من سطوة الدولة وذلك من خلال تنمية الشعور بالوطن.
ما فعله الشرقيون بعد سقوط آخر الامبراطوريات العثمانية أنهم استوردوا الدولة الغربية بما هي كذلك، أي بعيداً عن كل التقاطعات التي مرت بها ومجرداً من مفهوم الوطن. بمعنى أننا في اللحظة التي قررنا فيها إنشاء وطن لم نفعل سوى استيراد دولة الغرب إلى ذاتيتنا المنهكة وسميناها بالدولة القومية. يرفض الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر أي مماهاة بين الدولة والوطن، فهو يعتقد أن الدولة هي دائماً نمط من السيادة على الوجود، أما المعنى الحقيقي للوطن فهي رعاية الوجود. أي أن دولنا ماتزال محتكرة داخل سياق كيفية السيادة على الموجودات. فما يزال النظام الجديد قي سوريا مثلاً يبحث عن الاستمرارية أو الكيفية التي يضبط فيها الموجودات. لم يكن من العبث أن رفضت سلطة دمشق كل اتجاه مهما كانت فكرته من أن يستقل أو يمارس نفسه بحرية مادام يهدف إلى إنشاء دولة فإن السيادة هو المشروع الوحيد الذي يقدمه، لكن والسؤال هنا ما هو الوطن؟ يجيب التونسي فتحي المسكيني ليقول: أن هذا السؤال لم يصبح لدينا سؤالاً فلسفياً بعد؟ أي لم نخض مغامرة التنظير حوله، وذلك أسوة بغيرنا من الثقافات. فالوطن لدينا ما يزال يحمل البعد الهووي المتمثل في الملّة “الطائفة” أو الجهاز القومي “القومية”، أي مايزال ممزوجاً ومصحوباً بالرائحة الكريهة للدولة أو الأيديولوجيات. إن أوطاننا لا تنتمي إلى الزمن الذي هو العصر، بل إلى الأبد، الذي هو الهوية وإلى الدولة الوطنية التي هي في كل مرة قومية فريدة. لذلك دائماً ما نفشل في إنشاء وطن جدير بالإنتماء. إن ما تريده السلطات السورية هو إعادة إنتاج الدولة بكل حمولتها العنفية الأبدية وترفض أي تغيير على شكل هذه الدولة. ومن ثم تنفر من جميع المطالب والخطابات الداعية إلى اللا المركزية أو الاستقلالية أو الإدارة الذاتية، أي ترفض جميع المحاولات لإدخال الوطن إلى الدولة. وبالمجمل فإذا لم يخض الإنسان السوري تجربة مساءلة الدولة تحت محكمة الوطن فإن كل مطالبة بالحرية داخل هذه الدولة سيبقى مجرد وعد.