تقدير موقف

إدريس أحميد يكتب.. الذكرى الثمانون… روسيا في مواجهة الناتو: استعراض قوة أم بداية نظام عالمي جديد؟

في الثامن من مايو 2025، وقفت روسيا الاتحادية على موعد جديد مع التاريخ، محتفلة بالذكرى الثمانين للانتصار على النازية. لم يكن العرض العسكري الضخم في الساحة الحمراء مجرد طقس تقليدي، بل كان استعراضًا مدروسًا لقوة الدولة الروسية وإعادة تأكيد على موقعها في النظام العالمي المتغير.

ليبيا تنافس دولي

ملحمة ستالينغراد… وذاكرة الانتصار

تعود الذكرى إلى أيام عصيبة في الحرب العالمية الثانية، حين أوقف الجيش الأحمر زحف النازيين على أبواب ستالينغراد، في مقاومة بطولية أذهلت العالم. رغم التفوق الألماني في العدة والعتاد، قدّم الروس ملايين الشهداء دفاعًا عن أراضيهم، وكان ذلك بداية النهاية للجيش النازي.

ذلك الانتصار، الذي استكمل بسقوط برلين في مايو 1945، لم يكن فقط لحظة تاريخية، بل تحول إلى ركيزة في الذاكرة الوطنية الروسية، وسردية حيوية تُستعاد كلما حاول الغرب عزل موسكو أو تقويض دورها.

من النصر إلى الانقسام: الحرب الباردة وتشكيل المعسكرين

ما بعد النصر، تبيّن سريعًا أن تحالف الحلفاء لم يكن متماسكًا. فقد شهد العالم انقسامًا حادًا قاد إلى نشوء معسكرين متصارعين: أحدهما بقيادة الولايات المتحدة وحلف الناتو، والآخر بقيادة الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو. وهكذا بدأت الحرب الباردة التي قسمت العالم لعقود، وفرضت خريطة تحالفات لا تزال آثارها حاضرة حتى اليوم.

ومع سقوط الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينيات، تغيرت موازين القوى، إذ التحقت دول المعسكر الشرقي السابق بالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ما اعتبرته موسكو تهديدًا لأمنها القومي، وزاد من نزعتها الدفاعية والهجومية في آن.

ألمانيا… من الشراكة إلى المواجهة

شهدت العلاقات الألمانية–الروسية تحولًا جذريًا بعد الحرب الروسية–الأوكرانية. فبعد سنوات من التعاون في عهد أنجيلا ميركل، خاصة في مجال الطاقة، سلكت برلين طريق المواجهة الصريحة، مقدمة دعمًا عسكريًا كبيرًا لكييف.

ومع فوز فريدريش ميرتس في الانتخابات التشريعية، بدا واضحًا أن ألمانيا تُعيد صياغة سياستها الخارجية، متجاوزة تحفظات المستشار المنتهية ولايته أولاف شولتس بشأن تسليح أوكرانيا بأسلحة بعيدة المدى، مثل صواريخ “تاوروس”. وتُقرأ هذه المواقف ضمن رؤية ألمانية لقيادة أوروبا أمنيًا، وفرض توازن استراتيجي جديد بعد عقود من الانكفاء.

بريطانيا وفرنسا… تشدد لا لبس فيه

تُكمل لندن وباريس المشهد الأوروبي المتشدد، حيث قادت بريطانيا الدعم العسكري المفتوح لأوكرانيا، واعتبرت روسيا “تهديدًا وجوديًا” للنظام الأوروبي. أما فرنسا، فرفعت خطابها، ولوّحت بإرسال قوات تدريب إلى أوكرانيا، في تطور نوعي في الموقف الأوروبي.

هذا التشدد يعكس قناعة غربية متزايدة بأن أي تساهل مع موسكو قد يُكلف القارة ثمناً باهظًا، لا سيما مع تراجع الدور الأمريكي وغياب الرؤية الموحدة داخل الناتو.

موسكو تحتفل… وتُعلن عن مرحلة جديدة

وسط هذا التصعيد، جاء العرض العسكري في موسكو بحضور قادة الصين وبمشاركة عربية بحضور الرئيس السيسي، والمشير خليفة حفتر، وتشكيل من الجيش المصري، وزعماء دول “بريكس”، ليكون رسالة سياسية–عسكرية مفادها أن روسيا ليست معزولة، بل تقود محورًا دوليًا جديدًا يعيد رسم معادلات القوة والنفوذ في النظام العالمي. إنها رسالة تذكير بأن زمن الأحادية القطبية قد انتهى، وأن موسكو قادرة على الصمود، والمناورة، والتأثير.

في الختام… روسيا ورسائل القيادة في عالم متغيّر

إنّ إصرار روسيا الاتحادية على حسم المواجهة مع حلف الناتو، واستعراض قوتها العسكرية والسياسية في الذكرى الثمانين للانتصار على النازية، ليس مجرد فعل رمزي، بل هو إعلان واضح عن رغبتها في استعادة دورها القيادي في العالم. ومن خلال تحالفها مع الصين ودول “البريكس”، تسعى موسكو إلى تشكيل قطب دولي منافس للهيمنة الغربية، في لحظة مفصلية من التحولات الجيوسياسية والاقتصادية.

فهل نحن أمام نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يعيد توزيع النفوذ؟ أم أن العالم مُقبل على مرحلة طويلة من الصراع البارد المفتوح؟ الأكيد أن ما بعد احتفالات موسكو لن يكون كما قبلها، وأن موقع روسيا في هذا النظام الجديد سيكون رهن ما ستؤول إليه معركة أوكرانيا، وقدرتها على الثبات في وجه الضغوط الغربية، وبناء تحالفات مستدامة خارج الفضاء الأطلسي.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى