د. سيد عيسى يكتب.. رسائل روحانية من فريضة الحج
أيام قليلة تفصلنا عن أداء فريضة إسلامية جامعة، وهي الحج، التي فرضها الله -عزَّ وجلَّ- على القادر الذي يستطيع نفقات الحج، والحج عبادة جامعة ورحلة روحانية ممتعة وتجمُّعٌ رائعٌ بين المسلمين من كل بقاع الأرض، لغات مختلفة وعادات وتقاليد أكثر اختلافًاـ ومع ذلك يجتمعون في لباس واحد ويرددون نداءً واحدًا وهو (لبيك اللهم لبيك)، تجدهم سواسية كأسنان المشط، الوزير بجانب الخفير، والصغير مع الكبير، والغني بجوار الفقير، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى والإخلاص، والعمل الصالح.
إنه مشهد جامع مهيب تتجلَّى فيه الروحانيات وتتعلق فيه القلوب بربها، فهؤلاء تركوا الدنيا بكل ما فيها من أموال وبنين وزينة، وجاءوا إلى الله خاضعين ملبين طالبين منه العفو والمغفرة، مستجيبين لنداء الله الخالد “وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ”.
ثم تبدأ رحلة المناسك من الصلاة عند مقام إبراهيم كما قال الله تعالى في كتابه العزيز “وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى”، ثم يطوفون بالكعبة على نسق واحد مثل طواف الملائكة في السماء تصديقًا لقوله تعالى: “ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ”.
وتستكمل الرحلة الإيمانية العظيمة بالسعي بين الصفا والمروة استجلابًا للرزق وأخذًا بالأسباب كما جاء في قول الله تعالى: “إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ”.
وفي المناسك تجد تقبيل حجر، وفي نفس الوقت يرجمون آخر اتباعًا للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، إنها مقتضيات الإيمان، وهنا في هذا المكان العظيم، يتذكر الإنسان أنه في أطهر بقاع الأرض وأشرف الأماكن، ففي تلك البقعة هبط الوحي من السماء، وهي مصدر الإيمان، ففيها هبط جبريل عليه السلام، وفيها رفع سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام قواعد بيت الله الحرام، قال الله تعالى “وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”.
من أهم الجوانب الروحية في الحج بعيدًا عن المناسك إذابة الفوارق بين الناس، والسمو على كل مباهج الدنيا، ففي هذا المكان تختفي الطبقات وتذوب الفوارق بين كل الناس، فلا غني ولا فقير، ولا حاكم ولا محكوم، إنها العبادة الجامعة التي يكتمل بها الدين، وفي هذا اليوم والمشهد أكمل الله -عز وجل- الرسالة الإسلامية آخر رسائل السماء إلى الأرض، كما جاء في قوله عز وجل “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا”.
في النهاية أقول إن الحج عبادة تحتوي على رسائل واضحة ينبغي للإنسان أن يعرفها ويدرك معناها، ففي تلك العبادة الكل سواسية، الكل جاء لله -عز وجل- لا يشغل باله سوى رضا الله -عز وجل-، ترك الدنيا بكل ما فيها وجلس يتأمل المشهد الذي يحيطه، الكل لهم لباس واحد وتلبية واحدة مهما اختلفت اللغات وتباينت الأجناس، فالجميع جاء لرضا ربه.. اللهم يا رب العالمين ارزقنا حج بيتك الحرام مرات عديدة حتى نعيش هذا المشهد الذي يغسل القلوب.. كل عام وأنتم بخير.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب