الرئيسيةرأي

 د. نهلة الحوراني تكتب.. عطر

(1)

لم يستطع التوقف عن الحديث مع نفسه لساعة كاملة هذا المساء على غير عادته.. هو شخص يعاني من الخرس مع ذاته. ليس هناك ما يشجعه على الحديث معها. يومياته متشابهة. لا تجيد تقديم المفاجآت ولا تلقيها. ألوانه كألوان الباستيل. تراب وماء وسماء. ثم سماء وماء وتراب. لا جديد في إنسانيته غير أنه يتقدم في الزمن. وهو جديد لأنه لا يملك تحريكه ولا إيقافه. هذه المرة تحدث كثيرًا عن رائحة عطر سجين المصعد. عطر من البرتقال واللافندر معًا. سحر نساء المتوسط الأسود كما سمع أحد الكتاب يسميه ذات مرة. كيف يشغل العطر رجلًا في الأربعين من عمره. تخيل صاحبة العطر. تخيل لون شعرها الأحمر المتمرد في قصة قصيرة تتناسب مع قوة العطر. تخيلها مدخنة ممنوعة من ممارسة التدخين في المصعد. لذا كانت عصبية وربما خرجت من المصعد قبل الطابق الذي تريد الوصول إليه بطابق أو أكثر حتى تتنفس بسيجارتها الشهباء متعة مؤقتة قوية. امرأة ممتعة وقوية وقصيرة. القصيرات يجدن التعامل بطموح مع كل المتع. عيناها براقتان بقوة لدرجة لم يهتم معها بلونها. لكنهما تضيئان خديها المفعمين بثورة الكرز..

(2)

صاحبته ضوضاؤه لليلة الثانية على التوالي.. “يا رب.. هو أنا اتكتب عليا أتحرق بنار البرتقالة دي؟! لازم ألاقيها”. تحدثه هذه الأشياء الباردة حوله منذ عامين، منذ ماتت زوجته، أن لديه قصة يعيشها مع البرتقالة المتمردة. اتصل بالبواب: “هاظبطك لو عرفت مين الست اللي بتطلع قبلي كل يوم في الأسانسير”. استخدم البواب كثيرًا كمنبر مخابرات حين كانت زوجته هنا. لطالما مثلا معًا عصابة هادئة و”بتاكل عيش من غير دوشة”. عادا للعمل من جديد. اسمها “ليلى”.. دارت برأسه أفكار “ليلى يعني نشوة الخمر.. وبعدين يا برتقالة”. عادت من فرنسا من أيام. لهذا عطرها قاتل. إذن هي صاحبة الشقة التي تعلوه مباشرة. لم يشعر بنفسه إلا وهو أمام باب شقتها. لم يعلم ماذا يفعل. تسمر أمام الباب. ثم عاد مرة أخرى لفراشه يواصل الحديث مع ذاته.

 

(3)

في الليلة الثالثة أحضر له البواب رقم “الموبايل”.. “آلو” “أنا حسين جارك اللي تحت منك.. ممكن أطلع مع البواب نشوف المطبخ.. أنا عندي بحيرة بتسقط عليا يا افندم” “حضرتك مصمم؟ ما ينفعش تتصرف من عندك؟” “ما ينفعش أسقط من عندي مع الأسف وإلا أكيد كنت ريحت ليدي زي حضرتك” بعد أقل من دقيقة فتحت له الباب. أنيقة كزهرة نار في غلالة نوم من الأورجانزا الحمراء. كانت تتكئ على عكاز. لم يخبره البواب بذلك. كان مصابًا بارتباك شديد. كانت كما تخيلها تمامًا. كل العطور لا تجيد الكذب. إلا أن العطر كان يقترب ويبتعد تبعًا لقامتها التي تطول وتقصر حسب خطوتها العرجاء. صوتها المجروح يشي بأنها أطفأت آخر سيجارة للتو. لم تكن جميلة في عينيه أبدًا مع أن ملامحها كما تخيلها. ملأت عصبيتها دون صوت عالٍ المكان حيوية. بدا وكأنها لا تراه. عاين المطبخ واستأذن واعدًا أن يحل الأمر بأيسر السبل.

 

(4)

في الليلة الرابعة هدأ حواره مع نفسه. لكن ظل العطر يشغله كثيرًا. نظر لهاتفه. لم يجد أي رغبة في الاتصال بها مع أن حجته حاضرة. شعر بالإحباط. هي كما تخيلها لكن ليس كما يريدها. ألح العطر على وحدته. سمع رنين هاتفه. كانت هي: “أرجوك ما تفهمنيش غلط. بس فعلًا عايزة اعرف اسم البرفان بتاعك”، ضحك كثيرًا قبل أن يبدأ قصة عرف أنها قدره الجديد. فالأقدار الحقيقية دائمًا مثالية، لكن بطريقتها لا طريقتنا.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى