د. علي عمر التكبالي يكتب.. لن يبكوا عليك طويلا يا درنة
حينما تكون المأساة أكبر مما يحتملها وطن ممزق، وأوسع من أن يلمها كلام منمق يرفض القلم أن يستكين بين أصابعك وقلبك، وأنت تبث لواعجك لتقول لمن ينتظر كلامك: “سنجتاز هذه المرحلة الحزينة”.
ما حدث فاق في حجمه الكثير من المآسي التي مرت ببلادنا، ليس في حجم دمارها فحسب، ولكن في مقدار رجتها التي فضحت الجميع، وأحرجت الجميع، وأخرست الجميع.
- اقرأ أيضا: درنة «كان هنا بشر»
وبالرغم من أن كل أرض معرضة للكوارث الطبيعية التي قد تضرب في كل لحظة، إلا أنه بإمكان الراصد أن يرى أنه كانت هناك فسحة من الوقت قد أتيحت لتنبيه المعرضين لهذه الطامة للاحتماء أو الإجلاء، ولكن ذلك لم يحدث. وبإمكان الباحث أن يسبر الغور ويستفسر لماذا ذلك لم يحدث؟ هناك أصوات خافتة تريد أن تومئ من بعيد لجهات فاعلة أوصت بعدم الإجلاء، وهناك من يقول إن عدم دراية الأهالي، وتبلد المسؤولين هو الذي أدى إلى حدوث البلاء.
أما الجهة الفاعلة التي منعت إخلاء الأهالي فلا يمكنني التأكيد عليها نظرا لأن الكائدين كثر، والصائدين في الماء العكر رموا بصناراتهم منذ الفجر.
لمناقشة هذه المأساة التي أظن أن عدد المتوفين من جرائها، بغض النظر عن المقللين من هولها، قد يصل إلى 20000، علينا أن نتحلى بالمسؤولية، والنقد الموضوعي الذي يهدف إلى التدبير والتفكير دون التجني والتصغير.
تمتد درنة عبر منطقة ضيقة تتخللها وديان متفرقة، إلا أن الوادي الكبير الذي يمر عبر وسط المدينة قادما من المرتفعات الجنوبية هو الذي يحمل معظم مياه الأمطار التي تنساب من كل فج وشق إلى الجهة الشمالية، ثم يطرحها الى البحر.. وسد أبو منصور بالذات هو الذي بني لاعتراض هذه المياه ومنع فيضانها على المدينة.
بعد فترة نسبية من الركود اطمأن الناس وشعروا بالأمان من غدر المياه التي اعتادت أن تقض مضجعهم، وتشتت جموعهم، فكان زحف السكان على كل المنطقة، ومن ثم البناء العشوائي في مجرى الوادي.
وفي حركة فجائية مفجعة أرادت الطبيعة أن تقول إنه لا أمان لي، وإن ما يلجمني ليست حساباتكم ولا توقعاتكم، فانطرحت على البسيطة المضطربة تصعد تلا، وتهبط وهدا حتى صدمت سدا واهنا وقف طويلا يعاني صفعات الزمان، وخربشات التعرية المؤلمة، حتى بات يترنح منذرا بقرب سجوده أمام مثابرة آلام الشتاء القارس، والصيف القائظ.
وسقط السد المنيع شهيدا بعد تضحيات مؤثرة، ونداءات متكررة.
سوف نبكي موتانا، وندفن أسانا، ثم ننسى ما ألمَّ بنا قابلين ما كتبه الله لنا. وسوف نحاسب أكباش الفداء الذين سيقدمون قربانا عوضا عمن أهملوا وأفسدوا وسرقوا ومن ثم قتلوا، وسوف نستمع إلى الأصوات التي تنادي بإعادة البناء، وتعويض البؤساء، ويخرج منا من ينادي بالعفو والصفح وقبول القضاء، ونتدحرج مع دوامة الزمن في فخ الحذاق والسراق والفساق وسادة النفاق ونحن نصدق تبريرات المرتشين والخائفين والمطبلين. سينسى الكثيرون الفاجعة، ويتبادلون النكات الساخرة حول مصطفى الحلاق حينما يزور قبر أسرته البائدة، وعائشة التي تنوح في كل مناسبة، والطفل يوسف وهو ينادي بلا صوت على أمه وأبيه في هبة العاصفة. وسوف تلعق درنة جراحها للمرة الثانية التي سيسببها بعض أبنائها المتحالفين مع جلاديها. هكذا علمتنا الأيام في البلدان التي ليس بها عدل ولا سلطان.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب