قبل أن تطأ قدما كريستوف كولومبوس أرض القارة الأمريكية خلال العام 1492، وتحديدا المنطقة التي ستسمى بعد ذلك على اسمه منطقة كولومبيا، لم يكن يعلم أن هذه القارة مرت بها حضارات تضاهي الحضارات التي عرفتها باقي القارات على جميع المستويات.
حضارات عمرت لآلاف الأعوام، وعرفت بناء محافظات ومعابد ضخمة وشبكات شاسعة من الطرق والجسور، كما عرفت طرقًا متطورة في الري والزراعة والهندسة، وكانت بارعة في مختلف الفنون والعلوم، خاصة في علم الطب والفلك والرياضيات والهندسة المعمارية والزراعية، ومن هذه الحضارات حضارة المايا والإنكا والأزتيك، التي غالبا ما يتم عرضها مع بعضها ووصفها جميعها بالحضارة الأمريكية أو حضارة الهنود الحمر.
تحف تاريخية
المستعمر الأوروبي وهو يحتل هذه القارة لم يكن يعر أي اهتمام لهذه الحضارات، وصب كل اهتمامه في اتجاه استغلال خيرات هذه البلاد عن طريق السرقة والنهب والقتل وسفك الدماء، معتبرًا سكان هذه المنطقة الأصليين، أي الهنود الحمر، مجرد أشخاص بدائيين ومتوحشين Primitive and savage.
في حين أن ثمة نشأت إحدى أرقى وأقوى الحضارات التي عرفتها البشرية في كل العصور، حتى اعتبر البحث في تاريخ هذه الحضارات من أكثر البحوث والدراسات إثارة وتشويقًا في عالم الأنثروبولوجيا والدراسات التاريخية، كما اعتبرت هذه الحضارات (الإنكا والمايا والأزتيك) من أعظم التحف التاريخية أيضًا التي تركت بصماتها محفورة في الذاكرة التاريخية الإنسانية.
إن هذه الحضارات كانت بحق حضارات عظيمة شاهدة على قوة وإبداع وتفوق الإنسان، بما خلفته من آثار أذهلت كل الباحثين في هذا المجال، وجعلتهم يتوقون إلى استكشاف المزيد من خباياها التي تثير الدهشة والاستغراب، والوقوف على كل محطة من محطاتها التاريخية، فقد سادت هذه الحضارات في شمال ووسط وجنوب القارة الأمريكية، حيث أسست إمبراطورية قوية استمرت لعدة قرون، تعتمد نظامًا سياسيًّا مرِكزيًّا يستخدم شبكة من الطرق المؤدية إلى العاصمة كوسكو، كانوا على معرفة عميقة بعلم الفلك والهندسة المعمارية، حيث بنوا هرمًا هائلًا في تشيتشن إتزا، يعد من عجائب الدنيا السبع.
كما كانوا يعملون بطرق زراعة وري متطورة لإنتاج محاصيل مثل الذرة والفاصوليا والكوسا والطماطم والفلفل الحار والكاكاو (الشوكولاتة) والأفوكادو، كما قاموا بزراعة القطن الذي استخدموه في نسج المنسوجات للبطانيات والملابس، استخدموا الأصباغ النباتية لجعل ملابسهم ملونة ومزينة أيضًا بأهداب وريش ومجوهرات، بالإضافة إلى الملابس المتقنة، ابتكر المايا فنًّا جميلًا في أشكال المنحوتات والمنحوتات البارزة واللوحات الجدارية، واستخدموا أيضًا اليشم والسجاد في المنحوتات والخرز.
أضف إلى ذلك أن الهنود الحمر تفننوا في الكتابة والرسم منذ 300 قبل الميلاد، فقد كانت لهم لغة مكتوبة تعتمد الصور التوضيحية، وتضم حوالي 800 حرف، كتبوا على الألواح الحجرية وكذلك على المنحوتات والفخار والمخطوطات، ولسوء الحظ، لم يتبق منها سوى عدد قليل، حيث تم تدمير معظمها من قبل المستعمرين الأوروبيين والكهنة الكاثوليك خلال غزوهم للمنطقة في القرن السادس عشر الميلادي.
تحريف وتشويه إعلامي
كما هي عادة المستعمر الغربي عند غزوه بلدان بقية شعوب العالم، فإنه يعتمد سياسة همجية أقل ما يقال عنها إنها دونية وعنصرية تعتبر الإنسان الغربي هو الإنسان المتفوق على باقي سكان الأرض السوبرمان Superman، ومن ثم فهي لا تعترف بإنجازات وحضارات الشعوب الأخرى وتقدمهم لوسائل الإعلام على أنهم شعوب بدائية ومتوحشة ولا علاقة لها بعالم الحضارة والتحضر، فعلت ذلك مع الشعوب العربية والإسلامية ومع الحضارة الهندية والصينية والإفريقية، وفعلتها أيضًا وبشكل أكثر وضوحًا مع شعب الهنود الحمر أصحاب الأرض والسكان الأصليين للقارة الأمريكية.
ولهذا الغرض وانسجامًا مع مقتضيات هذه السياسة الهمجية، أنتجت هوليود عددًا هائلًا من الأفلام السينمائية التي تعرف باسم أفلام الويسترن Western Movies (130 فيلمًا خلال العام 1950 وحده)، وهي من أشهر وأعرق الأنماط السينمائية، وتعرف أيضًا بعدة مسميات أخرى من بينها أفلام الغرب الأمريكي أو أفلام الغرب المتوحش وأوبرا الخيول، كما اشتهرت عربيًا بمصطلح أفلام رعاة البقر.
وتقدم هذه الأفلام جميعها مع بعض الاستثناءات القليلة جدًّا، سكان القارة الأمريكية شعب الهنود الحمر، على أساس أنه شعب دموي لا يتكلم إلا بلغة الدم والقتل، وبالمقابل تحتفي هذه الفئة من الأفلام بالإنسان الغربي وتعتبره الأرقى والأفضل عرقًا وسلوكًا وثقافة وحضارة، في محاولة من المستعمر الأوروبي الإمبريالي التوسعي إخفاء حقيقة احتلاله هذه القارة ونهب خيراتها واعتدائه على سكانها الأصليين عن طريق القتل وسفك الدماء والإبادة الجماعية.
تقول الباحثة البريطانية “جوليا بويد” في بحث بعنوان (فحص صورة الأمريكيين الأصليين في الأفلام ونهوض صانعي الأفلام الهنود) “إن صورة الهنود الحمر في أفلام القرن العشرين تراوحت بين الصور النمطية، بما في ذلك الوحش المتعطش للدماء، وبين ما يمكن تسميته بـ”الوحش النبيل”، مشيرة في البحث نفسه إلى أن أصول هذه الصور النمطية تعود إلى الأدب الأمريكي الشعبي الذي يعود تاريخه إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر والذي يصور الهنود الحمر على أساس أنهم شعب متوحش وقاتل، وهو ما سجلته أيضًا الكاتبة “جاكلين كيلباتريك” في كتابها (هنود بكرات الأفلام) “إن القصص الشعبية التي تركز على وحشية الأمريكيين الأصليين كانت بمثابة منافذ للعنف والعدوان المكبوت في مجتمع أمريكي مبكر، كان يفتخر بالأخلاق والاحترام، في هذه القصص كان ينظر إلى السكان الأمريكيين الأصليين على أساس أنهم أشرار، واستمرت هذه القوالب النمطية بعد ذلك لسنوات”، بل وبالنظر إلى تصريحات عدد من السياسيين الغربيين العدائية والعنصرية، وبالنظر أيضًا إلى ما جرى وما يجري الآن في منطقة الشرق الأوسط وتحديدًا في فلسطين فإنها قابلة للاستمرار إلى حين.
وصمة عار
ومن هذه التصريحات العنصرية الهمجية البائدة ما قاله وزير الدفاع الصهيوني يوآف غلانت، الوجه الآخر للمارد الغربي “نحن نفرض حصارًا كاملًا على مدينة غزة، لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق، نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقًا لذلك”.
وهو تصريح تناقلته معظم وسائل الإعلام العربية والدولية، ويشرح بالتدقيق معنى كلمتي متوحش وبدائي، التي ظل المستعمر الأوروبي يستخدمهما إعلاميًّا في حربه ضد باقي الشعوب والأمم ومنها شعب الهنود الحمر، فسياسة الغرب الدونية العنصرية لم تتغير، بل ظلت كما هي منذ تسطيرها لأول مرة قبل أربعة أو خمسة قرون من الآن، وإنما الذي تغير هو الأدوات والآليات والخطط الاستعمارية بفعل عامل تطور الصناعة العسكرية الغربية.
ومن هذا المنطلق سيظل الأمريكيون الأصليون (الهنود الحمر) وغيرهم من الشعوب المضطهدة، وصمة عار في جبين المستعمر الأوروبي الغربي، فقد قاوموا طيلة أربعة قرون زحف هذا المستعمر التوسعي ثم توقفت المقاومة واستسلمت وانتهت تمامًا بعد مذبحة الركبة الجريحة عام 1890 التي وضعت حدًا لحروب الهنود الحمر وأنهت عصر المواطنين الأصليين، وكان من نتائج هذه المذبحة وغيرها من المذابح والإبادات الجماعية التي كان يقودها من يقدمون أنفسهم اليوم على أساس أنهم دعاة للسلام والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، مقتل ما يزيد على 100 مليون من السكان الأصليين للقارة الأمريكية وتدمير العديد من المباني الأثرية، وإتلاف الكثير من الأدوات والمواد الخزفية والصدفية والزجاجية والمعدنية وغيرها، من التي تؤرخ لثقافات وحضارات شعب الهنود الحمر.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب