إعداد- د. مصطفى عيد إبراهيم – خبير الشئون الدولية
مقدمة:
استحوذت مفاهيم القوة وطرق قياسها على مساحات كبيرة من الاهتمام والبحث في العلوم الاستراتيجية والعسكرية والسياسية وحتى أيضا العلوم الاجتماعية، وحيث ان العلاقات الانسانية على المستوى الفردي، او العلاقات الدولية على مستوى الدول والمنظمات، يحكمها اطر من الدفوع او الدوافع، نجد ان القوة بمصادرها وانواعها المختلفة تعد محركا رئيسيا في هذه الدفوع وتلك الدوافع. ولا يقتصر الامر حين النظر الى القوة على انها تلك العملية العضلية التي تتخذ من البطش والظلم والجور سبيلا، بل لابد وان تتسع النظرة العقلانية للتحليل في استيعاب ان القوة هي متطلب اساسي للتمكين من البقاء والاستمرار والتحديث والتوزان، سواء تم تحقيق تلك الامور مجتمعة او فرادى.
وعلى صعيد اخر ترتبط القوة ايضا بالفراغ الاستراتيجي، وهي تلك المساحات التي تتواجد داخل الدول ذاتها او ما بين الدول وبعضها وتؤثر في تفاعلات الدول على المستوى الداخلي او المستوى الخارجي، وتتناسب القوة تناسبا عكسيا مع مساحات الفراغ الاستراتيجي للدول، وبقدر ما تستطيع الدول ملئ فراغتها الاستراتيجية بقدر ما تكتسب قدرة على التاثير في مجالتها الحيوية بدوائره المختلفة في شكل من اشكال العلاقة الطردية.
القوة بين الثابت والمتحرك:
ذكر الدكتور “لويد جنس” في كتابه مكونات القوة الوطنية بانه ليس هناك من مفهوم اكثر اهمية في فهم السياسة الخارجية من مفهوم القوة، ورغم ذلك ليس هناك من مفهوم اثار الجدل حول معناه وكيفية قياسه كما اثارها ويثيرها هذا المفهوم والذي يمكن اختزاله في انها القدرة على التحكم في سلوك الاخرين او التاثير عليه وهو ما قد يخلق تباينا بين القدرة على التصرف وبين الممارسة الفعلية للقوة، ثم جاء “جوستاف ناي” ليضع معايير تقسيمية جديدة في القوى حيث اوضح ان هناك قوى صلبة وقوى ناعمة واخرى ذكية، وبذك تم صياغتها على نحو يميل الى التقسيمات الثابتة التي تضع اسس وظيفية اكثر منها اسس تفاعلية، بحيث يسهل هذا التقسيم البناء المؤسسي الوظيفي الذي يمكن القيام بدوره في بناء القوة الداخلية للدولة، او في عمليات المواجهة لعناصر القوى من الدول الاخرى.
الا ان واقع الامر في فترات ما بعد صياغة “ناي” لرؤيته في انواع القوة والتي تسيدت الساحة الاستراتيجية والسياسية منذ تدشين تلك الرؤية وحتى الان، بات يساورنا الشك حول مدى التقيد بتلك الرؤية التي وإن كانت ضرورية، فان ضروريتها باتت لا تتعدى كونها تسهل عمليات التقسيم الوظيفي والهياكل التنظيمية. حيث ان العالم بتفاعلاته المضطردة الان، لم يعد يقبل تقسيمات او تصنيفات محددة المعالم للقوة، وباتت المناطق الرمادية والرؤيات الضبابية هي سيدة المواقف وهو ما دفع مراكز البحوث الى طرح نوع اخر من الدراسات التي اطلق عليها الدراسات المستقبلية، في محاولة منها للمساعدة في اتخاذ قرارات لا تعتمد على رد الفعل بقدر ما تعتمد على تبني مواقف استباقية.
وفي هذا السياق، لم يعد مقبولا على نطاق المنطق والسياسة والعلوم الاستراتيجية ان ننظر الى الاعلام، على سبيل المثال، على انه قوة ناعمة فقط، تحاول التاثير من خلال خلق انطباعات وتغيير توجهات المتلقيين والرأي العام، بل بات قوة “غير ناعمة” لاعتمادها على قوة صلبة اقتصادية كبيرة، وهو ايضا ما ينطبق على التقسيمات الاخرى للقوة، وعليه فان مصطلح ” القوة الهجينة”، بات من التعبيرات والاصطلاحات التي تلقى قبولا اكثر لدى المهتمين والعاملين في هذا المجال، فبقدر ضبابية المواقف، بقدر ما نجد ان الصور الهجينة سواء للقوى او للتهديدات او للتوجهات العالمية هي التي تسود، مما يحتم اجراء عملية تغيير جوهرية في عمليات تقييم التهديدات وانتهاز الفرص سواء على المستوى الداخلي او المستوى الخارجي.
واصبح النظر الى القوة من خلال مصادرها المختلفة من كتلة حيوية وقدرات عسكرية وعلمية وتكنولوجية ومعرفية وسياسية ودبلوماسية واجتماعية وغيرها، باعتبارها هي المنصة الرئيسية التي ينطلق منها صواريخ التأثير، فاذا كان هذا الصاروخ عسكريا محضا، كانت القوة صلبة عسكرية بحكم الانطلاق والاستقبال، واذا كان هذا الصاروخ يحمل توجهات اعلامية كانت قوة صلبة بحكم منصة الانطلاق ناعمة بحكم جهة الاستقبال، او فيما يعرف بالقوة الهجين التي يمكن ايضا ان تكون قوة هجين ثنائية الابعاد او ثلاثية الابعاد او قوة هجين متعددة الابعاد، وان ادارة استخدام القوة ما بين الردع او التعاون او التحالف او العداء او الصراع، هو ما يسمى بذكاء القوة، من خلال الادارة السياسية لتلك القوة، القادرة على ان تصنع توليفة مركبة تستطيع ان تجلب افضل النتائج، حيث يمكن ان يكون لدى دولة معينة امكانيات وقدرات عسكرية هائلة، ولكنها لا تحسن استخدامها من حيث الوقت والمكان والفعالية، مما يعني ذكاء القوة يكمن في ادارتها وليس فيها في حد ذاتها، وانه حتى بافتراض تواجد اسلحة ذكية، فان الذكاء في اختيار الضحايا يعد تصنيفا تنافسيا في مجال الصناعات العسكرية، الا ان استخدامه في المكان والتوقيت والفعالية يظل مرتبطا بذكاء الاستخدام.
القوة والفراغ الاستراتيجي:
ظهرت فكرة الفراغ الاستراتيجي في خمسينات القرن الماضي، وكانت على المستوى العالمي، اي انها كانت بادرة من الولايات المتحدة الامريكية لوضع شكل جديد من أشكال ادارة النظام العالمي الذي استقرت ملامحه بعد ان وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها، وتشكلت قوة جديدة، وتورات اخرى، بما يعلن عن ميلاد رئيس جديد لمجلس ادارة العالم وأعضاء جدد في هذا المجلس بأدوار جديدة ومغايرة للادوار التي سبقت تلك الحرب، وهو ما ولد صراعات للاستحواذ على مساحات الفراغ الاستراتيجي في العالم والتي تتناسب اهميتها مع الموقع الجغرافي والموارد المادية والبشرية في كل محيط أو دائرة من دوائر هذا الفراغ الاستراتيجي وايضا مع كم الارادة المتوافر لدى الولايات المتحدة للسيطرة والهيمنة على المساحات الاكبر من الفراغات الاستراتيجية بالعالم.
والحقيقة ان الطرح الامريكي لم يخلق المبدأ او الفكرة، ولكنه تعامل معها على نحو مؤسسي من خلال طرح ما سمي بالمبادئ او العقائد الامريكية، والتي تتضمن الرؤية السياسية او العسكرية في التعامل مع الفراغ الاستراتيجي على مستوى العالم، من خلال النظرة الكونية لملئ هذا الفراغ، وهو ما يعني ايضا الاعتماد على الحلفاء او تاجيج الصراعات والنزاعات كوسيلة في ادارة ملئ او سد الفراغ الاستراتيجي.
كما ان الطرح الامريكي قد جاء انعكاسا من ادراك الفطرة البشرية في تعاملها مع ضروريات البقاء والاستمرار، حيث ان العلاقات ما بين الدول والتي تتخد شكل تعاون او تنافس او تحالف او عداء بارد، او صراع مسلح، كلها تحدث بفعل محاولات ملئ الفراغات، حيث ان تلك الفراغات هي التي تعطي ميزة لدولة على اخرى، او اسبقية لدولة على اخرى، او تاثير لدولة على اخرى، وان امتلاك القوة مع حسن ادارتها تمكن من الاستحواذ على اكبر مساحة ممكنة من الفراغ الاستراتيجي خاصة في المحيط الحيوي للدولة وهو الذي يؤثر على نحو مباشر على الامن الوطني والامن الانساني لتلك الدولة.
وبعيدا على الطرح الامريكي، الذي ساهم على مأسسة الفكرة، وليس على خلقها، والذي يتسم بالكونية في الاداء والعالمية في السيطرة والنفوذ. بات لزاما علينا ان ننظر لفكرة الفراغ الاستراتيجي على المستوى الاقليمي في الشرق الاوسط، والمحيط الحيوي العربي، والمحيط الحيوي الاسلامي، والتعاون والتنافس والصراع فيما بين الدول التي تتضمنها تلك المحيطات الحيوية المختلفة للسيطرة على الفراغ الاستراتيجي بالمنطقة.
محددات ملئ الفراغ الاستراتيجي:
القوة الداخلية كمصدر رئيسي من تمكين الدولة من التحرك.
قوة الفاعلين الاخرين ومدى القدرة على استخدامها.
الرغبة او الارداة السسياسية في ملئ الفراغات.
ادارة القوة على نحو يعظم من فاعلية استخدامها.
التكلفة والعائد من ملئ الفراغ.
القدرة على الدخول في تحالفات من عدمه.
مساحات وهوامش الفراغ المتاح والمسموح به.
العلاقة بين الفراغ الاستراتيجي وتداعياته على الامن الوطني.
الفاعلين من غير الدول والفراغ الاستراتيجي:
ان العلاقة ما بين القوة وبين ملئ الفراغ الاستراتيجي تكمن في علاقة طردية، حيث تزيد مساحة الاستغلال في الفراغ الاستراتيجي بقدر ما يتوافر من قوة وفي اطار المحددات السابق الاشارة اليها اَنفا، ولقد بات من المستقر في الادبيات السياسية ان الدولة هي التي تحتكر القوة في النشأة والاستخدام، ولكن المتغيرات الدولية المعاصرة اثبتت خطأ تلك الفرضية التي تم الاعتماد عليها لعقود، ان لم يكن لقرون، واصبح عالم اليوم يتسم بخاصية عم قدرة الدول الوطنية” وحدها” على احتكار القوة بمفردها، حيث بات هناك فاعلين من غير الدول تزاحمها في هذا الامر على نحو يمكن ان نطلق عليه بانها ظاهرة المنافسة الاحتكارية في امتلاك القوة، والاشكالية في هذا الامر انها لا تقتصر فقط على الشركات متعددة او متعدية الجنسيات، او الفضاء الالكتروني، ولكن تكمن الاشكالية في التنظيمات والجماعات الارهابية التي باتت تمتلك من ادوات القوة وحسن اداراتها على نحو يمكنها من ملئ فراغات استراتيجية وعلى نحو يهدد السلم والامن الدوليين.
وتجدر الاشارة في هذا السياق، ان جدلية ظهور هؤلاء الفاعلين من غير الدول وسبل نموها وقدرتها على الاستمرار والتأقلم والتكيف قد تحتاج لمدخل اخر من مداخل التحليل والبحث، الا ان ما استقرت عليه اوضاع عالم اليوم، ان هؤلاء الفاعلين باتوا يشغلون حيزا هاما في الفراغ الاستراتيجي خاصة مع تزايد اعداد الدول العاجزة والدول الفاشلة والدول المنهارة.
وان هؤلاء الفاعلين من غير الدول والتي تتبني فكرا متطرفا وعمليات ارهابية باتت تسيطر على مساحات من الكتل الحيوية للدول وعلى نحو يعيد رسم الخرائط الطبيعية والتركيبات الديموجرافية، وليس فقط لاستغلال الفراغ الاستراتيجي الممكن والمحتمل فيما بين الدول وبعضها، وعليه فانها باتت تؤثر على شرعية النظم، وعلى شكل التحالفات التكتيكية والتحالفات الاستراتيجية، ، واستطاعت بفعل تواجدها ان تغير من معادلات الشكل التقليدي للعلاقات بين الدول، كما انها اثرت ايضا على المبادئ الدولية لحقوق الانسان، وعلى شكل واداء عمل المنظمات المدنية، وعلى فعالية القانون الدولي الانساني، وهو ما ينبء بارهاصات تشكيل نظام عالمي جديد في خلال عقدين من الزمان، مع الاخذ في الاعتبار ان نظام عالمي جديد لا يعني بالضرورة نظاما افضل او اسوأ من النظام الحالي ولكن هو نظام مغاير عن النظام الحالي من خلال القوانين والمعاهدات الحاكمة والفاعلين في هذا النظام وبما يؤثر على طبيعة الفراغ الاستراتيجي.
متطلبات ملئ الفراغ الاستراتيجي:
ان تحدد الدولة على سبيل الدقة والموضوعية مساحات ودوائر الفراغ الاستراتيجي المحيطة بها.
تحديد اولويات تلك الدوائر وفقا لتأثيراتها على الامن الوطني والانساني.
تحديد نقاط التماس مع العناصر الاخرى ( سواء دول او غير دول).
تحديد نقاط التماس مع الدول الكبرى.
ان تدرك عناصر القوة المتاحة لها.
ان تحدد افضل السبل لملئ الفراغ الاستراتيجي وفقا للتحليلات العلمية والواقعية( سوات، بيستل، دايم) ومن خلال خبراء في المجالات المختلفة وعلى مستويات عليا.
اعداد تقييم للتهديدات على المستوى الداخلي والاقليمي والدولي.
مظاهر وجود الفراغ الاستراتيجي:
اندلاع الصراعات.
زيادة وتيرة النزاعات سواء الحدودية أو غيرها من النزاعات.
عدم القدرة على تسوية النزاعات.
الميل الى أقلمة أو أدولة النزاعات.
عدم القدرة على تعظيم أشكال التعاون البيني.
الاختلالات السياسية او المذهبية او الثقافية او الاقتصادية.
عدم القدرة على تكوين التحالفات.
المساحات والهوامش واماكن التماس والنزاع بين الدول الكبرى.
الفراغ الاستراتيجي بين قوة الدولة ” المشاغبة” وقوة الدولة ” العاجزة أو الفاشلة”:
الحقيقة ان مفهوم القوة تحكمه خاصية هامة تكمن في ان القوة تتسم بالنسبية، فعندما يتم وصف دولة بانها قوية، يتبادر الى الذهن، قوية بالنسبة لمن، وان القوة المطلقة يعد امرا منافيا لسنة الكون، حتى ان الولايات المتحدة الامريكية لم تنجح مهمتها في الصومال، وان هذا يخلق ضروريات التفاعل ما بين الدول وبعضها البعض، حيث ان القوة المطلقة قد تلغي هذا التفاعل، كما أن تلك النسبية والاختلال ما بين عناصر القوة الحقيقية وادارة هذه القوة، قد تخلق نوعا من القوة الزائفة التي تعمل على خلق او الى وجود حالة من الفوضي او الارتباك بما يجعلها مؤثرة على نحو سلبي في المشهد الاقليمي او الدولي من خلال قوة زائفة، وهو ما تقوم به دولة مثل ايران، حيث ان ادارة القوة لديها تعتمد على نحو اساسي على منطق الدولة المشاغبة، وليست الدولة المسؤولة، وعليه فان قوتها تظهر بانها اكبر من طاقتها الاستعابية، لما يمكن ان تحدثة من فوضى غير مسؤولة. اما الدول العاجزة فهي نماذج تفتقر عناصر القوة الناجمه من انهيار مؤسساتها المختلفة، كما انها تفتقر القدرة على ادارة ما لديها من عناصر للقوة، وما بين هذا وذلك تقوم الدولة المشاغبة باستغلال مساحات اكبر من الفراغ الاستراتيجي للاستحواذ على درجات اكبر من الفراغ ” المتاح”، والتاثير والفاعلية على الساحة الاقليمية وربما الساحة الدولية.
وختاما، ان القوة يسعى اليها كل فرد كما تسعى اليها كل دولة، وان الفراغات الاستراتيجية متواجدة سواء على المستوى الداخلي او على المستوى الخارجي، وان كلاهما محركا ودافعا لاستمرار الحضارة الانسانية عبر العصور المختلفة، وبقدر ما تمتلك من قوة، وبقدر ما تدركها، وبقدر ما تعرف مواطن القوة والضعف، والفرص والتهديدات، وبقدر الادارة الجيدة لعناصر القوة، وبقدر معرفة مساحات الفراغ الاستراتيجي، والقدرة على ادارة اسلوب استغلال تلك الفراغات، بقدر ما تكون مؤثرا على الخريطة الجيواستراتيجية الاقليمية والدولية.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب