د. سمير الوصبي يكتب.. الشيخ زايد والتنمية الاجتماعية لدولة الإمارات العربية المتحدة
في اليوم الوطني الإماراتي
يشهد الواقع على ما وصلت إليه دولة الإمارات العربيَّة المتحدة من رقيٍّ حضاري، حيث عكست بحق رؤية الأب المؤسس الشيخ زايد – رحمه الله – فتشكَّلت الدولة الاجتماعيَّة، وكان بحق رمزًا على أهميَّة الالتزام الشخصي وعلى المستوى الحياتي في تقبُّل الأعباء وأداء الواجبات والاعتراف بالآخرين.. بيد أن هذه المقالة ترمي إلى إيضاح الرؤى التنمويَّة للشيخ زايد. وإذا كانت عمليات التنمية البشريَّة تستهدف كل البشر، فإن الأفراد يشكِّلون المجتمع. ومن ثم فإن احتياجهم صوب العناية والرعاية العقليَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة أحد الأركان الأساسيَّة لبناء التنمية الإنسانيَّة، وهذا هو محور المشروع الحضاري للشيخ زايد -رحمه الله.
إحداث الوحدة الإقليميَّة
«ليست عندنا مشكلة إقليميَّة بين أبناء الإمارات الذين استقبلوا جميعًا قيام الاتحاد بحماسة شديدة إيمانًا منهم، بل ما يمكن أن تعبر عنه معاني الاتحاد والوحدة بين أبناء الوطن أو أحد الذين عاشوا ظروفًا واحدة، ويتطلعون إلى ظروف مشتركة أفضل. نحن نعتقد أن الإقليميَّة الوحيدة التي يحس بها المواطن في بلادنا هي انتماؤه للأمة العربيَّة، وللوطن العربي، وليست هناك مشكلة من هذا القبيل بين أبناء الإمارات».
هنا نلمس مدى إدراك الشيخ زايد -رحمه الله- طبائع الناس وخلفياتهم، فكان خطابه السياسي موجهًا لمجموع من آمن بالوحدة، فالفاعلية والمردودية والاستجابة المطلوبة لا تكون إلا مع من لديه القابلية للتفاعل الإيجابي مع المشروع السياسي، ألا وهو الوحدة الإقليميَّة للأمة الإماراتيَّة، وتبرز العبقريَّة الفكريَّة في وضع الافتراضات وإيجاد الحلول في خطوة استباقية استشرافية لمواجهة الرهانات والإكراهات، وفي هذه الناحية يفترض ويجيب الشيخ زايد -رحمه الله- عن الأسئلة التي قد تكون مداخل للتشكيك في جدوى الاتحاد بالقول: «وقد يكون من الأفضل لو وضع السؤال عن الخطوات التي تتخذ لتعميق مفاهيم الوحدة بين الناس، وفي هذا المجال فإن أجهزة الدولة كلها تعمل. إن أي نظام للحكم لا يمكن أن يحمل المسؤوليَّة إلا إذا كانت دعائمه الأساسيَّة قائمة على التنمية والبناء الاقتصادي السليم، وذلك في مختلف القطاعات والنشاطات. ومعنى ذلك أن إمارات الاتحاد يلزمها أن تمضي في برامج التنمية الاقتصاديَّة لتدعم بجهودها الذاتيَّة وبالجهود الاتحاديَّة دولتها الجديدة».
وفي خطاب العيد الوطني الذي ألقاه الشيخ زايد -رحمه الله- سنة 1972م، حدد الإطار المرجعي للوحدة الإقليميَّة بالقول:
“لقد كانت أهداف سياستنا تتحرك في أربعة اتجاهات:
أولًا: حل الخلافات بين دولة الإمارات العربيَّة المتحدة وبين الدول المجاورة بالطرق الوديَّة والسلميَّة.
ثانيًا: توسع قاعدة الاتحاد، وذلك بترك الباب مفتوحًا أمام دول المنطقة التي تريد الانضمام إليه.
ثالثًا: دعم القضايا العربيَّة والتنسيق مع الدول العربيَّة الشقيقة في السياسة الخارجيَّة والاقتصاديَّة وفي كل المجالات.
رابعًا: الانفتاح على العالم ومشاركة جميع الدول في المجالات الدوليَّة والالتزام بميثاق الأمم المتحدة.
لقد عاشت المنطقة في عزلة تامة لسنوات طويلة، بسبب ظروف خارجة عن إرادة أبنائها، وعندما بدأنا سياسة الانفتاح لم نكن نريد سوى إعادة الأمور إلى طبيعتها.. فأرضنا جزء من الوطن العربي، وشعبها جزء من الأمة العربيَّة، وهو يتطلع إلى مشاركة أشقائه بالعالم العربي في مسيرة التقدُّم، كما أن رغبته قويَّة في مشاركتهم العمل المخلص من أجل تحقيق الوحدة الشاملة في المستقبل بإذن الله.
أود أن أقرر هنا حقيقة قد تغيب عن الأذهان. وهي أن عزلتنا في الماضي لم تكن سوى قشور على السطح لأسباب لا دخل لنا فيها، كما قلت – تمامًا كالعزلة التي كانت تعيشها مناطق أخرى من العالم العربي لأسباب قاهرة.. ولكننا لم نتخلَّ أبدًا عن عروبتنا.. وظلت مشاعرنا كعرب حيَّةً نابضةً رغم كل الظروف.
وقد حافظنا على تقاليدنا العربيَّة الأصيلة بكل ما نملك من جهد.. والدليل على ذلك أنه ما إن زالت الأسباب حتى وجدنا الأشقاء في العالم العربي نقف معهم جنبًا إلى جنب.. نقوم بواجبنا ونتحمل مسؤولياتنا تجاه أمتنا.. فكل ما بدأ في الماضي من عزلة لم يكن سوى قشور.. ما إن زالت حتى ظهر المعدن الحقيقي لشعبنا وهو عربي أصيل العروبة”.
هذا الخطاب يبرهن على امتلاك الشيخ زايد -رحمه الله- استراتيجية سياسيَّة وتصورًا وتنظيرًا واقعيًّا لمشروع الوحدة التي أنجزت وتحققت عبر مرتكزين اثنين؛ هما: ثروة الدولة وتحقيق التنمية، والاتحاد والتعاون الخليجي.
عبقريته تتجلى في تسخير ثروة الدولة لتحقيق التنمية، وترسيخ وحدة الاتحاد والتعاون الخليجي لتحقيق التكامل الاقتصادي والوحدة الإقليميَّة، في بُعدٍ وتصورٍ شمولي لمفهوم الوحدة الممتدة التي لا تقتصر حدودها على دولة الإمارات أو دول مجلس التعاون، بل لها أفق العالم العربي بدعم قضاياه والإسهام في تنميته.
أولًا: ثروة الدولة وتحقيق التنمية
قناعة راسخة لدى الشيخ زايد -رحمه الله- فيما يتعلق بثروة الدولة، فهي مسخَّرة لخدمة وإسعاد الأمة الإماراتيَّة؛ فالثروة شيء مشترك الملكيَّة بين مواطني الشعب توظف لغاية واحدة؛ وهي خدمة الصالح العام، وكَمَوْردٍ مهمٍّ للتنمية الشاملة والتقدم والازدهار، مبينًا دوره الوظيفي فيها كأمين وراعٍ وقائد، وهي ألفاظ تحمل دلالات ومعاني سامية ونبيلة، كالثقة والإخلاص والتفاني في العمل مع الجهد والاجتهاد اللازمين، وقد صرح بذلك في مناسبات عدة بالقول: «بالنسبة للثروة فإنها مِلْك للأمة الإماراتيَّة بأسرها، وليست مِلكًا لفرد. وما القائد إلا أمين على الأمة وثروة الأمة، ويجب على الأمين أن يرعى الأمانة كما يريد الله. إن قائد أي أمة ليس سوى فرد من أفرادها، ومن هنا يجب على القائد أن يكون أمينًا على أمته تمامًا كما هو أمين على أسرته. إن هذه هي طريقتنا، وهذه هي سياستنا، وهذا أملنا، وما نهدف إليه لتحقيق السعادة والرفاهية للشعب كل الشعب».
وكان الشيخ زايد -رحمه الله- حريصًا على التواصل الدائم والمستمر مع المواطنين والمسؤولين، لأنه مؤمن بمواثيق البيعة والتكليف الذي على عاتقه من مسؤوليات جسام، فعمق الفهم للتواصل مع مكونات وهيئات المجتمع والدولة برهان على الوعي السياسي لمفهوم الحكم، فهو يرى أن عزلة الحاكم وعدم انشغاله بهموم وقضايا المجتمع هي نهاية المسار وقتل للمشروع السياسي “صناعة الاتحاد وبناء الوحدة الإقليميَّة”، فهو القائل: «إن أي حاكم إذا ركبه الغرور وعزل نفسه عن شعبه، فهذه لحظة النهاية بالنسبة إليه». والبديل هو التواصل السياسي الفعَّال الذي يعد وسيلة أساسية في إيجاد حلول للمشكلات وتجاوز الصعاب التي تواجه المجتمع والدولة على حدٍّ سواء، هذا ما يفسر كثرة اللقاءات التي كان يجريها، والظاهر الجلي أن الحكمة من كل ذلك هي القيام بواجبات الحكم، وهي السهر على تلبية الحاجيات الضروريَّة وتدعيم ركائز الدولة عبر أقطابها؛ كالتعليم والصحة والزراعة والصناعة رغبة منه في تحقيق التنمية وازدهار الأمة الإماراتيَّة. يقول -رحمه الله- مبرزًا الأهداف والغايات من هذه اللقاءات: «في لقاءاتي مع المواطنين والمسؤولين أتَّبع دائمًا سياسة الباب المفتوح والمصارحة التامة، وقد استمددت هذا من آبائنا وأجدادنا. إن اللقاء بين القائد والشعب في مفهومي هو لقاء بين الأب وأبنائه، وأي ابتعادٍ من القائد عن الشعب يبعد عنه الصورة الواقعيَّة لاحتياجات شعبه، وبذلك يحصل النفور، والابتعاد من قبل الشعب تجاه القائد المغرور. إن القائد الحقيقي هو الذي ينظر إلى شعبه نظرته إلى أفراد أسرته، يلاحظها دائمًا ويتابعها ويسأل عنها. ومن البراهين الواضحة لالتقاء القائد بالشعب هو الحوار المفتوح الذي أدعو دائمًا إليه.
وإنني أكرِّر دائمًا أنني رب أسرة واحدة تكون دولة الاتحاد. الحاكم يجب أن يلتقي بأبناء شعبه باستمرار، يجب ألا تكون بينه وبينهم حواجز مهما تكن الظروف، وإلَّا فكيف يعرف احتياجاتهم، ويحس بشعورهم ويلبي بالتالي مطالبهم؟ إن الحاكم -أي حاكم- ما وُجد إلا ليخدم شعبه ويوفر له سبل الرفاهية والتقدم، ومن أجل هذا الهدف يجب أن يعيش بين شعبه، ليتحسس رغباته، ويعرف مشاكله، ولن يتحقق له ذلك إذا عزل نفسه عنهم. إن الغرور قاتل.. ومهما تبلغ درجة المعرفة عند الحاكم أو الشخص فإن الغرور يبعده عن الصواب، ويبعده عن الطريق الصحيح.. إن سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كان خير البشر، وخير الرسل، وكان يلتقي بالناس ويتكلم معهم، وكان أي فرد يستطيع أن يتوجه إلى حيث يجلس (صلى الله عليه وسلم) ويسأله ما يشاء.. ونحن لسنا ملائكة، ولسنا بأنبياء، فلماذا لا نفتح للجميع الأبواب ونلتقي بالجميع؟».
ثانيًا: الاتحاد والتعاون الخليجي:
- تأسيس دولة الإمارات وصنع الاتحاد
بعد تولِّي سموه مقاليد الحكم في إمارة أبوظبي، بدأ يتطلع إلى الوحدة مع أشقائه في الإمارات المتصالحة، وكان شديد الإيمان والثقة بفكرته هذه التي طالما سكنت وجدانه.
وفي يناير عام 1968، أعلن البريطانيون نيتهم بالانسحاب من الإمارات المتصالحة بحلول عام 1971م، وقام الشيخ زايد إثر ذلك، بالتحرك سريعًا لتعزيز الروابط مع إمارات الساحل المتصالح، ورأى الحاجة إلى إقامة كيان سياسي موحَّد له كلمة قوية ومسموعة في المحافل الدوليَّة، وقادر على تقديم الحياة الأفضل لمواطنيه.
وفي 18 فبراير 1968م، اتفق المغفور لهما بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان، والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي على تشكيل وحدة بين الإمارتين، وتنسيق الأمن والدفاع والخارجية وتوحيد الجوازات بينهما. ووجها دعوة إلى تشكيل اتحاد يشمل بقية الإمارات الخمس المتصالحة إضافة إلى قطر والبحرين.
وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ ومع اقتراب موعد الانسحاب البريطاني، اجتمع حكام الإمارات السبع المتصالحة لبحث قيام الاتحاد، ومن أقوال الشيخ زايد حينها: «هذه فرصة هيأها الله تعالى لنا، فرصة وجودنا اليوم في مكان واحد، إن قلوبنا جميعًا عامرة والحمد لله بالإيمان، بمبدأ الوحدة، فلنجعل إذن من اجتماعنا فرصة تاريخيَّة لتحقيق أملنا المنشود».
ويعود الفضل في قيام الدولة إلى حماسة الشيخ زايد والآباء المؤسسين لتشكيل الاتحاد، وتعاملهم مع التحديات والصعوبات بحكمة وبروح من الانسجام والتعاون.
وفي الثاني من ديسمبر عام 1971م، أعلن عن قيام دولة الإمارات العربيَّة المتحدة، وضمت ستًّا من الإمارات المتصالحة وهي أبوظبي، ودبي، والشارقة، وعجمان، وأم القيوين، والفجيرة. وتقديرًا لجهوده ودوره القيادي وحنكته، اختار أصحاب السمو حكام الإمارات الشيخ زايد لرئاسة دولة الإمارات العربيَّة المتحدة، ليصبح بذلك أول رئيس للدولة، وهو المنصب الذي أكسبه لقبه الدائم “الأب المؤسس”. وفي وقت لاحق، انضمت إمارة رأس الخيمة إلى الاتحاد بتاريخ 10 فبراير عام 1972م.
2- تأسيس مجلس تعاون الخليج:
بعد التجربة الناجحة لاتحاد الإمارات، وما شهدته من تطور كنتيجة طبيعيَّة لجهود مؤسسها، نظر الشيخ زايد إلى منطقة الخليج ككل، التي تجمعها عادات واقتصاديات وثقافة مشتركة. ورأى سموه بعين بصيرته ضرورة تشكيل مجلس تعاوني لتنسيق الجهود ومواجهة التحديات الجديدة في المنطقة.
كان لدى المغفور له “الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان” قناعة كبيرة بفوائد توحيد دول الخليج انطلاقًا من إيمانه بما تحقق من اتحاد إمارات الدولة السبع عام 1971، الذي شكَّل فعليًّا النواة لتكوين مجتمع خليجي عربي واحد تتشارك دوله في العوامل التاريخيَّة، والجغرافية، والسياسيَّة، والاقتصاديَّة، والثقافيَّة.
وأسهم الشيخ زايد في تحويل فكرة مجلس التعاون لدول الخليج العربيَّة إلى واقع ملموس، بداية من أول اجتماع عُقد بهذا الخصوص في أبوظبي عام 1976 مع المغفور له الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح أمير الكويت الراحل، وانتهاء بالتوقيع على صيغة تأسيس مجلس التعاون في أول قمة ترأسها سموه في أبوظبي في 25 و26 مايو 1981، بهدف تحقيق التنسيق والتكامل والترابط في جميع الميادين بين دول الخليج الست، وصولًا إلى الوحدة وفق ما نص عليه النظام الأساسي في مادته الرابعة.
إن الاهتمام بالتنمية الشاملة وتحقيق النهضة الحضارية للأمم والشعوب، وفي ظل تعدد المرجعيات الفكريَّة والأقطاب الآيديولوجية داخل النظم الاجتماعيَّة والسياسيَّة يفرض انتقاء نموذج قيادي للحكم يحقق العدالة الاجتماعيَّة للجماعة البشريَّة؛ فكانت التجربة السياسيَّة الاجتماعيَّة التي أسس لها الشيخ زايد -رحمه الله- جديرة بالبحث العلمي، ومن خلال هذا السياق، ندرك أهميَّة هذه الدراسة البحثية، استكشافًا لخطوات التخطيط الفكري، واستقراءً لآليات التدبير الاجتماعي؛ فالقائد الاجتماعي الواعي بحجم المسؤوليَّة الملقاة على عاتقه يكون مهيَّأً لاستقبال خبرات مهنيَّة تمكِّنه من استيعاب الواقع الإنساني والاجتماعي والثقافي، وفي حالة مستمرة من الاستجابة النشطة لمثيرات الارتقاء بالممارسة في جانب التسيير والتدبير الاجتماعي؛ فالقائد الاجتماعي لا تتحقق له إنسانيته المنشودة إلا إذا كان مشاركًا نشطًا في صميم عمليَّة أنسنته وأخلاقه المهنيَّة ومهارته التدبيرية للشأن العام بوصفه عضوًا مؤثرًا داخل المنظومة الاجتماعيَّة.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب