د. عبدالرحمان الأشعاري يكتب.. السويد والمصحف الشريف وحرية التعبير
الكاتب باحث وإعلامي مغربي ومدير مركز العرب في المغرب
أقدم عراقي متطرف مقيم بمملكة السويد بصفة لاجئ سياسي، أمام مرأى ومسمع من الجميع، سلطات هذا البلد أولا ومنظمات إنسانية وحقوقية وإعلام محلي ودولي ثانيا، يوم 28 يونيو/حزيران 2023، على حرق نسخة من القرآن الكريم قبل أن يدوس عليها مرات عدة أمام المسجد الكبير في العاصمة ستوكهولم.
ووسط حراسة مشددة من الشرطة والأمن السويدي، ارتكب المدعو سلوان موميكا البالغ 37 سنة والفار من بلاده إلى دول الاتحاد الأوروبي قبل سنوات، هذا الفعل الجرمي في الوقت الذي تحيي فيه الشعوب الإسلامية في كل أنحاء العالم عيد الأضحى المبارك وفيما كان موسم الحج في الديار المقدسة يقترب من نهايته، في إشارة إلى التمادي والإمعان المقصود في ازدراء مشاعر وشعائر المسلمين.
عنف وكراهية
وليست هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها الرموز الدينية الإسلامية للإساءة والحرق والإهانة في مملكة السويد، فقد سبق المسمى سلوان موميكا، متطرف آخر أشد خطرا، وهو زعيم حزب “سترام كورس” اليميني المتشدد الحامل للجنسيتين الدانماركية والسويدية راسموس بالودان، المعروف بعدائه الشديد للإسلام والمسلمين، بحيث تقدم هذا المتطرف بطلب للسلطات السويدية للتظاهر في خمس مناطق متفرقة بالعاصمة ستوكهولم لإحراق القرآن الكريم في كل منطقة، مشيرا في تدوينات عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى أن “الغرض من هذه التظاهرات هو السخرية من الإسلام”.
وتعود ظاهرة حرق نسخ من القرآن الكريم، وفق ما يقول باحثون، إلى “تصاعد المخاوف من تنامي “خطر” المد الإسلامي في القارة العجوز”، وأشاروا إلى أن “حرق المصحف عمل ممنهج ومقصود ويخلق التطرف، والغرب يريد بالأمة الإسلامية الانحطاط ونشر الرذيلة”، مبينين أن الاحتجاجات العربية والإسلامية المناهضة للإساءة للرموز الدينية الإسلامية “نجحت في تدويل قضية حرق المصحف الشريف”.
غير أن الدول الغربية لا تريد الاعتراف بذلك، وتعتبر الأمر يدخل في نطاق حرية التعبير والرأي وحقوق الإنسان، في حين أن الأمر بعيد كل البعد عن كل ذلك، إذ هو مجرد اعتداء وعنصرية ودعوة صريحة للتحريض على العنف ونشر البغض والحقد والكراهية بين المجتمعات الإنسانية.
ولذلك ظلت المجتمعات الغربية وعلى رأسهم المجتمع الأمريكي، تلصق صفة الإرهاب بكل المسلمين دون أن تفرق بين المتطرف وغيره وبين الإسلام كدين والمسلمين، ولم تسلم من ذلك حتى الرموز الدينية بما فيهم الرسول الأمين محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بحيث نعت عليه الصلاة والسلام في أكثر من مرة بـ”الإرهابي”، في منابرهم الصحفية وفي رسوماتهم وعبر شاشاتهم التلفزيونية والسينمائية بدعوى حرية الرأي والتعبير، في حين أن هذه الأخيرة لا تعني أبدا النيل من مقدسات الآخرين، بل تعني الوقوف عند حدود حرية آراء الآخرين ومعتقداتهم، ثم إن قضية ازدراء الأديان والتطاول على الرسل وعموم الرموز الدينية لجميع الأديان، تعد جريمة يعاقب عليها القانون الدولي والإنساني.
ذلك أن السماح بالتطرف الديني والغلو والاعتداء على المجتمعات الأخرى والإساءة إلى رموزها الدينية والعقائدية، من شأنه أن يولد أولا التطرف بكل أشكاله وأنواعه ويهدد ثانيا حاضر ومستقبل العلاقات الإنسانية القائمة منذ قرون خلت بين مختلف الأمم والشعوب.
غضب وشجب دولي
أدانت معظم الدول العربية والإسلامية وغيرها هذا الفعل الجرمي والإرهابي، وعبرت عن غضبها الشديد لسماح حكومة السويد لذلك المجرم المتطرف بحرق المصحف الشريف أمام أنظار الجميع.
ففي المغرب، استدعت وزارة الخارجية القائم بالأعمال السويدي في الرباط، كما جرى استدعاء السفير المغربي بالسويد للتشاور “لأجل غير مسمى”، بحسب وكالة المغرب العربي للأنباء.
وجاء في بيان لوزارة الخارجية المغربية أنه “تم التعبير للدبلوماسي السويدي خلال هذا الاستدعاء عن إدانة المملكة المغربية بشدة لهذا الاعتداء، ورفضها هذا الفعل غير المقبول”، ووصف البيان هذا العمل بـ”العدائي غير المسؤول”.
وفي مصر قالت الخارجية المصرية في بيان: “تعرب جمهورية مصر العربية عن بالغ إدانتها لقيام أحد المتطرفين بإحراق نسخة من المصحف الشريف بالعاصمة السويدية ستوكهولم، في فعل مخز يستفز مشاعر المسلمين حول العالم في أول أيام عيد الأضحى المبارك، ويتنافى مع قيم احترام الآخر ومقدساته، ويؤجج من مشاعر الكراهية بين الشعوب”.
وأضاف البيان: “تعرب مصر عن بالغ قلقها إزاء تكرار حوادث إحراق المصحف الشريف وتصاعد ظاهرة الإسلاموفوبيا وجرائم ازدراء الأديان مؤخرا في بعض الدول الأوروبية، مؤكدة رفضها التام لكافة الممارسات البغيضة التي تمس الثوابت والمعتقدات الدينية للمسلمين”.
من جهته، قال بيان وزارة الخارجية السعودية إن “هذه الأعمال البغيضة والمتكررة لا يمكن قبولها بأي مبررات، وهي تحرض بوضوح على الكراهية والإقصاء والعنصرية”.
فيما حذر بيان الخارجية الكويتية من أن ما حدث “خطوة استفزازية خطيرة من شأنها تأجيج مشاعر المسلمين حول العالم”، داعيا المجتمع الدولي والحكومة السويدية إلى “تحرك سريع لنبذ مشاعر الكراهية والتعصب ووقف هذه الإساءات”.
وشددت الخارجية اليمنية على أن “تعمد استفزاز مشاعر المسلمين حول العالم في مناسبات إسلامية مقدسة من قبل حركة متطرفة بغيضة، يستلزم محاسبة ومعاقبة كل من يشجع ويقف خلف هذه الإساءات المتكررة”.
وفي الأردن، قالت الخارجية في بيان إن “إحراق المصحف الشريف هو فعل من أفعال الكراهية الخطيرة، ومظهر من مظاهر الإسلاموفوبيا المحرضة على العنف والإساءة للأديان، ولا يمكن اعتباره شكلا من أشكال حرية التعبير مطلقا”، داعية إلى “وقف مثل هذه التصرفات والأفعال غير المسؤولة، ووجوب احترام الرموز الدينية، والكف عن الأفعال والممارسات التي تؤجج الكراهية والتمييز”.
كما أكدت الخارجية الفلسطينية أن “الاعتداء على القرآن الكريم من قبل متطرف حاقد، تعبير عن الكراهية والعنصرية واعتداء صارخ على قيم التسامح وقبول الآخر والديمقراطية والتعايش السلمي بين أتباع الديانات كافة”، مؤكدة أن “هذا العمل العنصري يتناقض تماما مع حرية التعبير عن الرأي”.
بدوره أدان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حرق المصحف، ونقلت وكالة سبوتنيك عنه قوله خلال زيارة لمسجد “الجمعة” في دربند: “روسيا تكن احتراما شديدا للقرآن الكريم ولمشاعر المسلمين الدينية، وعدم احترام هذا الكتاب المقدس في روسيا يعتبر جريمة”، مضيفا “في بلدنا هذه جريمة (حرق القرآن)، بموجب الدستور والمادة 282 من القانون الجنائي لروسيا، هذه جريمة، عدم الاحترام والتحريض على الكراهية بين الأديان، وسنلتزم دائما بهذه القواعد التشريعية”.
كما نددت الولايات المتحدة بإحراق المصحف الشريف، مجددة في الوقت ذاته التأكيد على دعمها انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية فيدانت باتيل في تصريح صحفي بواشنطن “لطالما قلنا إن إحراق نصوص دينية سلوك عديم الاحترام ومسيء، وما قد يكون قانونيا ليس بالضرورة لائقا”.
إساءة أم حرية تعبير؟
الولايات المتحدة الأمريكية التي شجبت واقعة حرق المصحف الشريف معتبرة ذلك سلوكا غير محترم، عادت بعد أربعة أيام من تلك الجريمة، لكن هذه المرة بوجه آخر مغاير تماما لترفض التصديق على مشروع قرار تقدمت به باكستان لمجلس حقوق الإنسان في جنيف، نيابة عن منظمة التعاون الإسلامي لإدانة أعمال الكراهية الدينية مثل حرق المصحف الشريف.
بل إن الولايات المتحدة الأمريكية ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما قادت يوم التصويت على المشروع القرار، حملة بمعية دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا تدعو من خلالها الأمم المتحدة صراحة إلى التصويت ضد مشروع القرار الباكستاني، معتبرة أنه يعرض حرية التعبير للخطر.
وفي هذا الصدد، قالت السفيرة الأمريكية ميشيل تايلور “نأسف لاضطرارنا للتصويت ضد هذا النص غير المتوازن، لكنه يتعارض مع مواقف اتخذناها منذ فترة طويلة بشأن حرية التعبير”.
أما نظيرها الفرنسي جيروم بونافون، فقد أشار إلى أن حقوق الإنسان تحمي “الأشخاص وليس الأديان أو المذاهب أو المعتقدات أو رموزها”، فيما اعترف السفير البريطاني سايمون مانلي -مثل عدد من الدبلوماسيين الغربيين الآخرين والأمم المتحدة- بأن حرية التعبير يمكن تقييدها في حالات استثنائية، وقال “نحن لا نقبل بالقول إن الهجمات على الدين بحكم تعريفها تشكل دعوة إلى الكراهية”.
غير أن السفير البلجيكي مارك بيكستين دو بويتسويرف باسم الكتلة الأوروبية استصعب الأمر، وقال إن “مسألة تحديد الخط الفاصل بين حرية التعبير والتحريض على الكراهية معقدة جدا”.
أما مفوض هيئة الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك فيرى أن “خطاب الكراهية بجميع أنواعه يتزايد في كل مكان”، ودعا في هذا الإطار إلى مكافحته، ليس من خلال التصويت على مشروع القرار الذي تقدمت به باكستان، ولكن من خلال عنصري الحوار والتعليم.
ومن أبرز ما جاء في مشروع القرار، إدانة كل عمل متعمد علني يستهدف المقدسات خصوصا حرق نسخة من القرآن الكريم، كما نص على وجوب اعتماد الدول قوانين وتشريعات لملاحقة من يرتكب أفعالا تذكي روح العداء للإسلام ولعموم الأديان، وهو ما دفع الدول الغربية لرفض هذا المشروع القرار.
إن رفض مثل هذا المشروع القرار سيدفع بالتأكيد متطرفين آخرين إلى الإساءة للرموز الدينية وهو ما سيؤدي حتما إلى اتساع دائرة الحقد والغل والكراهية بين الشعوب والأمم واستفحال ظاهرة التطرف وتوغلها بين صفوف المجتمعات، ذلك أن التطرف والعنف لن يولد إلا التطرف والعنف، ومحاربة التطرف والإرهاب لا تكون إلا بسن قوانين صارمة ورادعة، ووضع إستراتيجيات متكاملة وطويلة المدى.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب