تحليل يكتبه: عبد الغني دياب- مدير وحدة الدراسات بمركز العرب للأبحاث
يبدو أن الحرب السودانية الأهلية لن تضع أوزارها قريبا، فالأطراف السودانية المتصارعة (الجيش السوداني/ قوات الدعم السريع) لم تلتزم بشكل كامل حتى الآن بهدنة كاملة، ولم يدخلا في تفاوض مباشر رغم تعدد المبادرات الدولية والإقليمية لإنهاء المقتلة الدائرة في البلاد منذ 15 أبريل الجاري، وما يعقد الأمور أكثر أن أطرافا دولية وإقليمية يبدوا لها يد فيما يحدث على الأراضي السودانية.
قبل اندلاع المواجهات المسلحة بين قوات الجيش السوداني ومجموعات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، كانت المكونات السياسية السودانية ومعها الجيش على موعد من عقد اتفاق إطاري لإنهاء الخلفات الداخلية والبدء في مرحلة انتقالية تقود البلاد لانتخابات وتسلم الحكم في النهاية للمدنيين، إلا أن الجيش اشترط دمج ميليشيات الدعم السريع في القوات النظامية وهو ما دعا حميدتي للتنصل من الاتفاق وسرعان ما حشد قواته بالقرب من المقرات الرئيسية والاستراتيجية في العاصمة وما حولها من المدن ليطلق واحد من أخطر المواجهات المسلحة التي شهدتها البلاد.
صراع أمريكي روسي على أرض السودان
قبل هذه الأحداث بأيام قليلة كان دقلو ذاته يلعب دورا بارزا لتقريب وجهات النظر بين النخبة العسكرية السودانية وروسيا للموافقة على بناء قاعدة عسكرية روسية في منطقة بورتسودان الاستراتيجية المطلة على البحر الأحمر، ونجح بالفعل في استصدار موافقة مبدئية على توقيع اتفاقية عسكرية بين موسكو والخرطوم.
الاتفاق المزمع كان ينص على أن تستضيف بورتسودان 300 عسكري روسي على أن تمتد الاتفاقية لمدة 25 عاما قابلة للتمديد مستقبلا، لكن يبدو أن الأمر لم يلق قبولا لدي واشنطن وعدد من العواصم الغربية، حتى أن وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، طالب في تصريحات له نشرتها وكالة “نوفوستي” الروسية، الولايات المتحدة الأمريكية بعدم التدخل في الأزمة السودنية الحالية، وترك الأطراف السودانية المتصارعة للتفاوض فيما بينها.
روسيا تتهم أمريكا بتقسيم السودان
وقال لافروف، إن على طرفي النزاع في السودان التفاوض في ما بينهما، حيث “لا خير في الهندسة الجيوسياسية”، مذكّرا الأمريكيين بأنهم هم من قسموا السودان بتدخلاتهم، إلى السودان وجنوب السودان.
وتابع لافروف: “هل تذكرون كيف تطورت الدولة السودانية؟ أولا كان دولة موحدة، ثم ظهر السودان وجنوب السودان. كل هذا حدث أمام أعيننا عندما أدرج الزملاء الأمريكيون تقسيم السودان بين أولوياتهم. الأمريكان المبادرون لهذا الطلاق، كان عليهم أن يساعدوا الدولتين الجديدتين على التعايش، وتطوير الاقتصاد، وضمان رفاهية مواطنيهما. لكن شيئا ما لم يعجب الأمريكان، الذين أعلنوا فرض عقوبات على قيادتي السودان وجنوب السودان”.
قطع عسكرية أمريكية على سواحل السودان
تصريحات لافروف تزامنت مع دخول قطع عسكرية أمريكية لميناء بورتسودان بحجة إجلاء الرعايا الأمريكيين من البلد المنكوب والذي سحبت غالبية دول العالم رعاياها منه بينما فر المئات من سكانه إلى دول الجوار، خصوصا مصر التي استقبلت الآلاف خلال الساعات الماضية عبر المنافذ البرية الرابطة بين البلدين.
وفي إطار ذلك أكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أن قافلة دبلوماسية أمريكية تعرضت لإطلاق نار بعد يومين من اندلاع القتال في أحياء الخرطوم المكتظة بالسكان.
حرب بالوكالة في السودان
تحت العنوان السابق نشرت صحيفة ذا فويس البريطانية تقريرا لها قالت فيه إن المخاوف تتزايد من أن السودان الآن في حالة حرب باردة بالوكالة بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث وسع الكرملين نفوذه غربا في نفس الوقت الذي وسع فيه حلف الناتو نفوذه شرقا مع انضمام فنلندا إلى الحلف.
وذكرت شبكة سي إن إن الأمريكية أن روسيا تهرب الذهب من السودان لتمويل حربها في أوكرانيا، وأن قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي والتي أسسها الزعيم السابق عمر البشير، هي حليف روسيا في السودان وعدو الولايات المتحدة.
وعطفا على ذلك قال كيم سيرسي أستاذ التاريخ بجامعة لويولا بشيكاغو إن الانقلاب الذي نفذته قوات الدعم السريع لم يحدث في فراغ،”لم يحدث من تلقاء نفسها. لديك قوى خارقة مختلفة تشارك”.
تصريحات الخبير الأمريكي تقابلها تحليلات محلية تقول إن قوات الدعم السريع عندما انقلبت على البشير الذي أسسها وساهمت في عزله من منصبه كان لدى قائدها طموحاته الخاصة، وهو ما دفعه لتأجيج الصراع لعرقلة انتقال البلاد لحكم مدني تتقلص فيه المزايا الممنوحة لقواته.
تنافس قديم بين موسكو وواشنطن
ذا فويس تستدل على تحليلها بان السودان الذي شهد عددا كبيرا من الانقلابات العسكرية منذ استقلاله في خمسينيات القرن الماضي، لطالما كان مسرحا للمنافسة والحروب المحلية المدعومة من قبل وكلاء الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، حيث أنفقت أمريكا مليار دولار على أسلحة للحلفاء السودانيين.
وبعد نهاية الحرب الباردة ، استضافت السودان أسامة بن لادن قبل انتقاله إلى باكستان وتصعيد حرب القاعدة على الغرب، مما جعل الولايات المتحدة تشعر بقلق متزايد وتشارك في شؤون السودان.
التدخلات الخارجية تشكل مستقبل السودان
في المقابل أشارت الباحثة الأمريكية كاترينا دوكسي هي مديرة مساعدة وزميلة مشاركة في مشروع التهديدات عبر الوطنية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن العاصمة، في مقال لها نشره موقع مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، المقرب من الاستخبارات الأمريكية، إلى أن الولايات المتحدة كانت تراقب أنشطة شركة فاغنر الروسية في السودان طوال العام السابق، مشيرة إلى أن الشركة العسكرية الروسية الخاصة كانت حاضرة في الداخل خلال الفترة الماضية.
وتقول الباحثة إن الصراع العنيف على السلطة في السودان بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع متجذر بعمق في السياسة الداخلية السودانية، ومع ذلك فإنه يخلق فرصا للجهات الفاعلة الأجنبية للتدخل لتشكيل مستقبل سياسي يفضي إلى مصالحهم الخاصة.
البشير يمكن الروس من ثروات السودان
وتشير الباحثة إلى أن فاغنر دخلت السودات منذ ديسمبر 2017 لتقديم الدعم السياسي والعسكري للرئيس آنذاك عمر البشير.
وفي الشهر السابق عن هذا التاريخ، تفاوضت موسكو على سلسلة من الصفقات الاقتصادية والأمنية مع البشير لتسهيل هذه الشراكة -وهي اتفاقيات تضمنت بشكل خاص مجموعة من امتيازات تعدين الذهب لشركة إم-إنفست ، وهي شركة روسية مرتبطة بفاغنر.
واستمرت أنشطة فاغنر في السودان حتى بعد انقلاب أبريل 2019 الذي أطاح بالبشير من السلطة. وبدلا من ربط نفسها بشكل لا ينفصم بثروات الإدارة الحاكمة، ظلت فاغنر قابلة للتكيف مع الحكومة الانتقالية، حتى أنها دعمت تحركات بعض المقربين منها خلال الفترة الماضية داخل السلطة السودانية.
قاعدة بورتسودان القشة التي قسمت ظهر السودان
ويبدوا أن الموجهات بين روسيا والولايات المتحدة في السودان ترتبط أكثر بالقاعدة البحرية التي ترغب روسيا في تدشينها على البحر الأحمر، فلطالما رغبت روسيا في الوصول إلى البحر الأحمر والحصول على موطئ قدم هنا.
وفي أواخر عام 2020، توصلت موسكو والخرطوم إلى اتفاق لإنشاء قاعدة بحرية روسية في بورتسودان. وفقا للاتفاقية ستستضيف القاعدة المحتملة مركزا لوجستيا بحريا وساحة إصلاح، وما يصل إلى 300 فرد، وأربع سفن بحرية، بما في ذلك السفن التي تعمل بالطاقة النووية.
لكن بعد هذا التاريخ بأشهر أوقفت الحكومة الانتقالية السودانية خططا لإنشاء القاعدة البحرية تحديدا في أبريل 2021 ، ويرجع ذلك جزئيا إلى الضغوط الأمريكية، وحتى بعد حل الحكومة المدنية عام 2021، ظلت السلطات العسكرية مترددة في إحياء الصفقة.
ولا تزال روسيا مهتمة بإقامة منفذ على البحر الأحمر وتأمل على الأرجح في التوصل إلى نتيجة سياسية قد يسمح فيها الفصيل الحاكم بمضي الخطط الأساسية.
ووفقا لكاترينا دوكسي، ستؤثر نتيجة الصراع المستمر على السلطة في السودان على مستقبل كل من هذه المصالح الرئيسية، ونتيجة لذلك من المرجح أن يحاول الروس تشكيل النتيجة لصالحه.
اهتمام أمريكي متزايد بالسودان
الحديث عن الدور الروسي لا يعفي الولايات المتحدة من الاتهام بالتدخل في السودان، فمنذ اليوم الأول لسقوط نظام البشر عملت واشنطن على اجتذاب السودان نحوها متخذة من الملف الاقتصادي بابا للانفتاح على السودان المأزوم اقتصاديا، من خلال بعض المساعدات المباشرة وغير المباشرة. التي تقدر بقيمة 1.1 مليار دولار. حيث حصل السودان على قرض قصير الأجل مع واشنطن بقيمة 1.2 مليار دولار بالتزامن مع توقيع اتفاق تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
كما ساهمت أمريكا في تمكين السودان من الحصول على تمويل يقدر بـ”مليار دولار” من البنك الدولي. إضافة إلى المساعدات الإنسانية لمواجهة التحديات المتعلقة بتدهور الاقتصاد. وتفشي جائحة كوفيد-19، والفيضانات. إلا أن أغلب هذه المساعدات لا تزال تصنف كمساعدات مشروطة في إطار تقديم ضمانات للحفاظ على المسار الانتقالي في البلاد.
إضافة لذلك كان مطلب توحيد الجيش السوداني هو الآخر أحد المطالب الأمريكية ففي وقت سابق وأثناء زيارة مطولة للخرطوم، دعت سامنثا باور، المدير التنفيذي للوكالة الأمريكية، إلى انشاء جيش سوداني موحد تدمج فيه قوات الدعم السريع وقوات الحركات المسلحة يخضع لقيادة سياسية وعسكرية واحدة. كشرط أساس لاستمرار دعم الإدارة الأمريكية للحكومة الانتقالية، بما يحقق الاستقرار في السودان، وهو الطلب الذي ترفضه ميليشيات الدعم السريع المدعومة من روسيا.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب
