الرئيسيةدراساتسياسية

الرأي العام في القارة الإفريقية: آفاق الواقع والتحديات الرئيسية

إعداد: محمود سامح همام – باحث سياسي متخصص في الشؤون الإفريقية

يُعَدُّ فهم الرأي العام وتحليله ليس مجرد أداة للتواصل، بل هو جسرٌ يربط بين القيادة والشعب، ويُشكِّل أساسًا لتحقيق التقدم والعدالة في المجتمعات الحديثة، كما الرأي العام أحد الركائز الأساسية التي تُؤثِّر على تشكيل السياسات العامة وتوجيه القرارات المجتمعية في مختلف المجالات. فهو انعكاس لتوجهات الأفراد والجماعات، وتعبير عن تطلعاتهم، وآرائهم تجاه القضايا التي تمس حياتهم اليومية ومستقبلهم. منذ القدم، كان للرأي العام دورٌ حاسم في تشكيل مصير المجتمعات؛ ففي الحضارات القديمة، كاليونانية والرومانية، كان النقاش العام في الساحات العامة يُعبِّر عن إرادة الشعب ويؤثر في القرارات السياسية.

التنافسية الآسيوية القارة الأفريقية

ومع تطور المجتمعات وزيادة وعي الأفراد، ازداد اهتمام العالم بدراسة الرأي العام باعتباره قوة مؤثرة في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، أو في إحداث التغيير. وقد لعبت وسائل الإعلام التقليدية والحديثة دورًا محوريًا في نقل الأفكار والمعلومات، مما ساهم في تكوين الرأي العام وتعزيز دوره في التأثير على القضايا الكبرى. واليوم، تُولي الحكومات والمؤسسات الدولية اهتمامًا كبيرًا لفهم اتجاهات الرأي العام لتحسين أدائها وتلبية تطلعات الشعوب.

اقرأ أيضا: التعقيدات الأمنية في مالي وانعكاساتها على الأمن القومي الجزائري.. دراسة للباحث محمود سامح همام 

وفي سياق ما ذُكر، تطمح الدول الأفريقية إلى تعزيز مكانتها على الساحة الدولية لتصبح لاعبًا رئيسيًا في عالم اليوم. وفي هذا الإطار، أطلق الاتحاد الأفريقي “أجندة 2063” للتنمية المستدامة، التي تُعد خارطة طريق استراتيجية تهدف إلى تحقيق تنمية شاملة ومستدامة في مختلف القطاعات. وتُشكل هذه الأجندة مرجعًا أساسيًا للدول الأفريقية لتوجيه سياساتها وخططها التنموية بما يُسهم في دفع عجلة التقدم على مستوى القارة. (1)

ولضمان نجاح هذه الأجندة وتحقيق أهدافها، تُعد قنوات التواصل المباشر بين الحكومات والشعوب أمرًا حيويًا. إذ يُمكن من خلال هذه القنوات قياس مدى رضا المواطنين عن تلك الخطط التنموية، وتقييم مستوى اقتناعهم بجدواها، فضلًا عن دراسة تأثيرها الفعلي على تحسين حياة الأفراد. هذا التفاعل المستمر بين الحكومات والمجتمعات يُعد عاملًا أساسيًا لضمان استمرارية التنمية وتحقيق نتائج تعكس تطلعات الشعوب واحتياجاتها الحقيقية.

 واقع قياس الرأي العام في أفريقيا

لم تشهد الدول الأفريقية جنوب الصحراء اهتمامًا بقياس الرأي العام إلا مع بداية التحولات الديمقراطية التي شهدتها القارة في تسعينيات القرن العشرين. فقد جاءت هذه المرحلة كتطور تاريخي حمل معه تغييرات جوهرية في بنية النظم السياسية، مع إدخال التعددية الحزبية وتراجع السيطرة المطلقة للأحزاب الحاكمة على وسائل الإعلام. هذا المناخ الجديد أتاح لبعض الصحف والمنظمات إمكانية إجراء استطلاعات رأي لقياس رضا المواطنين عن الأوضاع السياسية والانتخابات، كما ظهر جليًا في تجارب مثل الكاميرون. (2)

لقد برزت الحاجة إلى قياس الرأي العام في هذه المرحلة كأداة أساسية لفهم مواقف الشعوب وانطباعاتها تجاه الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي كانت تُطرح كجزء من عمليات التحول الديمقراطي. إلا أن واقع قياس الرأي العام في الدول الأفريقية يختلف جذريًا عن نظيره في الدول المتقدمة. فالأخيرة تمتلك تقاليد راسخة في هذا المجال، حيث يُعد الرأي العام جزءًا أساسيًا من ممارساتها الديمقراطية الحديثة.

كما تتسم المجتمعات المتقدمة بخصائص تُمكّنها من قياس الرأي العام بدقة وفعالية، أبرزها المركزية الثقافية التي توحد القيم والمفاهيم العامة، والموضوعية في جمع وتحليل البيانات، والحرية الإعلامية التي تسمح بتداول الأفكار دون قيود. في المقابل، تفتقر العديد من الدول الأفريقية إلى هذه المقومات، ما يجعل قياس الرأي العام فيها تحديًا مرتبطًا بتباين المستويات الثقافية، وضعف المؤسسات الإعلامية المستقلة، وغياب الثقة بين المواطنين والنظم الحاكمة، إن تعزيز ثقافة قياس الرأي العام في أفريقيا يتطلب جهودًا مشتركة لتعزيز الشفافية، ودعم المؤسسات البحثية المستقلة، وضمان حرية التعبير كجزء لا يتجزأ من عمليات الإصلاح السياسي والاقتصادي في ظل التحول الديمقراطي. (3)

” أفروباروميتر: منصة جديدة لصوت الشعوب الأفريقية ”

قبل خمسة وعشرين عامًا، شهدت القارة الأفريقية تطورًا غير متوقع أعاد تشكيل فهمنا العميق لها. لم يكن هذا التطور مرتبطًا بانتخابات تاريخية للمعارضة أو فضائح سياسية تكشف سوء الإدارة الحكومية. بل تمثل في إطلاق مبادرة بحثية أفريقية رائدة تُعرف باسم “أفروباروميتر”، التي أصبحت اليوم المرجع الأساسي لاستطلاعات الرأي في أكثر من أربعين دولة أفريقية، وجاءت هذه المبادرة بفضل رؤية طموحة لثلاثة أكاديميين بارزين: مايكل براتون، وإي. جيماه-بوادي، وروبرت ماتيس. كانوا جميعهم متفقين على هدف واضح: تأسيس مسار تنموي أفريقي يعتمد على فهم حقيقي لآراء المواطنين وتطلعاتهم. بعد أن شعروا بالإحباط من التحليلات السطحية التي غالبًا ما تُهمل صوت الأفارقة أو تفترض مسبقًا ما يعتقدونه، شرعوا في تمكين المواطنين من التعبير عن آرائهم بشأن القرارات التي تؤثر على حياتهم.

وعلى صعيد أخر، نجح “أفروباروميتر” في تغيير قواعد اللعبة، حيث أتاح لأول مرة إمكانية تقييم تصريحات القادة بشأن احتياجات شعوبهم استنادًا إلى بيانات موثوقة تم جمعها بطريقة علمية عبر دول متعددة. ورغم التحديات الكبيرة، مثل إجراء استطلاعات دقيقة في بيئات استبدادية أو مضطربة، تمكن المشروع من الصمود والتوسع.

وفي سياق متصل، أحد أبرز إنجازات المشروع هو إجراء مقابلات مباشرة مع عينات تم اختيارها عشوائيًا من 1200 شخص على الأقل في كل دولة، مع ضمان استخدام لغتهم الأم في الحوار. ورغم الصعوبات التمويلية واللوجستية، أصبح “أفروباروميتر” مصدرًا موثوقًا يوفر رؤى عميقة حول مختلف القضايا، بدءًا من العلاقات العرقية وصولًا إلى تصورات الشعوب حول القوى العالمية، وإن نجاح هذه المبادرة يعكس قدرتها على إعادة تعريف العلاقة بين القادة الأفارقة وشعوبهم، من خلال تعزيز ثقافة صنع السياسات المستندة إلى الحقائق والاحتياجات الحقيقية للمواطنين. (4)

 

 تحديات قياس الرأي العام في أفريقيا

البيئة السياسية والقمع

  • الأنظمة الاستبدادية: العديد من الدول الأفريقية ما زالت تخضع لحكم أنظمة استبدادية تُقيّد حرية التعبير وتمنع إجراء استطلاعات الرأي التي قد تكشف عن آراء معارضة. هذه البيئة تجعل من الصعب على المواطنين التعبير عن آرائهم بحرية خوفًا من القمع أو الانتقام.

غياب الثقة بين المواطنين والحكومة: يفتقر كثير من المواطنين للثقة في الهيئات التي تجري الاستطلاعات، خشية استخدام آرائهم ضدهم، مما يؤدي إلى تقديم إجابات غير صادقة أو الامتناع عن المشاركة. (5)

 التحديات اللوجستية والبنية التحتية

ضعف البنية التحتية: في العديد من المناطق الريفية والنائية، يمثل الوصول إلى المستجيبين تحديًا كبيرًا بسبب ضعف شبكات الطرق، وانعدام وسائل النقل، وغياب التكنولوجيا اللازمة لجمع البيانات.

التنوع اللغوي: أفريقيا تضم آلاف اللغات واللهجات المختلفة. إجراء مقابلات مع المواطنين بلغتهم الأم يتطلب توفير باحثين ومترجمين متخصصين، مما يزيد من تكلفة وتعقيد الاستطلاعات.

الكهرباء والإنترنت: ضعف توفر الكهرباء والاتصال بالإنترنت في العديد من المناطق يعوق استخدام الأدوات التقنية الحديثة لجمع وتحليل البيانات.

 

  • التحديات الثقافية والاجتماعية

 

التقاليد الاجتماعية: في بعض الثقافات الأفريقية، يُعتبر التعبير عن الرأي بشكل صريح، خاصة تجاه القضايا السياسية، أمراً غير معتاد أو مرفوض اجتماعيًا.

 

الهرمية الاجتماعية: وجود أنظمة تقليدية أو قَبَلية قد يؤثر على نتائج الاستطلاعات، حيث يميل الأفراد إلى تبني آراء قادتهم أو شيوخهم دون التعبير عن آرائهم الشخصية.

 

الأمية: النسب العالية للأمية في بعض الدول تُعقّد عملية جمع البيانات، حيث تتطلب الاستطلاعات تكييف الأدوات والأسئلة بما يناسب الجمهور غير المتعلم. (6)

 

  • التمويل والموارد

 

نقص التمويل: تحتاج استطلاعات الرأي إلى موارد مالية كبيرة لضمان الدقة والحياد. ومع ذلك، تعاني معظم المبادرات البحثية في أفريقيا من نقص التمويل، مما يدفعها إلى تقليص حجم العينات أو الاعتماد على أساليب غير شاملة.

 

الاعتماد على التمويل الخارجي: غالبًا ما تعتمد مراكز الأبحاث الأفريقية على الجهات المانحة الأجنبية، وهو ما قد يثير تساؤلات حول حيادية الاستطلاعات وأهدافها. (7)

 

  • ضعف المؤسسات الإعلامية والبحثية

 

غياب الشفافية: تعاني بعض المؤسسات الإعلامية والبحثية من غياب الاستقلالية والشفافية، حيث قد تكون خاضعة لتأثير الحكومة أو جهات خاصة، مما يُضعف مصداقيتها.

 

نقص الكوادر المؤهلة: هناك نقص في الخبراء والمتخصصين القادرين على تصميم وتنفيذ وتحليل استطلاعات الرأي وفق المعايير العلمية. (8)

 

  • الظروف الأمنية والصراعات

 

النزاعات المسلحة: تشهد بعض الدول الأفريقية صراعات وحروبًا أهلية تجعل من المستحيل الوصول إلى مناطق معينة لإجراء استطلاعات الرأي.

 

عدم الاستقرار السياسي: التغيرات السياسية المفاجئة والانقلابات تُعقد من إمكانية إجراء استطلاعات طويلة الأمد أو موثوقة. (9)

 

  • تأثير وسائل الإعلام

 

الدعاية السياسية: تسيطر بعض الحكومات على وسائل الإعلام، مما يؤدي إلى تزييف المعلومات وتوجيه الرأي العام بطرق تتعارض مع الحقائق.

 

الانتشار المحدود للإعلام المستقل: ضعف الإعلام الحر والمستقل يجعل من الصعب إيصال نتائج الاستطلاعات إلى الجمهور أو استخدامها في توجيه السياسات العامة. (10)

 

  • التحديات المنهجية

 

اختيار العينات: في القارة التي تتميز بتنوعها السكاني والثقافي الكبير، يمثل تصميم عينات تمثيلية تحدياً كبيراً لضمان شمولية النتائج.

 

التأثير الخارجي: وجود مراقبين أجانب أو أسئلة ذات صياغة معينة قد يؤثر على إجابات المستجيبين، ما يؤدي إلى انحراف النتائج. (11)

 

ختامًا، نجد أن القارة الأفريقية تشهد تحولات كبيرة في كيفية تعاملها مع مسألة استطلاعات الرأي العام، رغم التحديات العديدة التي تواجهها. بينما تظهر بعض الدول تقدمًا ملحوظًا في هذا المجال، تبقى العديد من البلدان الأفريقية تكافح من أجل بناء نظم قوية وموثوقة لقياس الرأي العام. هذا التفاوت بين الدول يعكس واقعًا سياسيًا واجتماعيًا معقدًا، حيث تظل بعض الحكومات متمسكة بالسلطة بشكل يعيق المشاركة الحرة والشفافة للرأي العام، مما يخلق حالة من الشك وعدم الثقة في نتائج استطلاعات الرأي، مع ذلك، تشير هذه الدراسة إلى أن المستقبل يحمل فرصًا واعدة لتطوير هذه المنهجيات، من خلال زيادة الوعي العام بأهمية استطلاعات الرأي في دعم السياسات والقرارات الحكومية، وتعزيز الاستقلالية للمؤسسات البحثية المحلية. إذا استطاعت الحكومات الأفريقية أن تخلق بيئة سياسية تضمن حرية التعبير وتؤمن بالاستفادة من رأي الشعب في صياغة السياسات العامة، فسيكون الرأي العام أداة أساسية لبناء الديمقراطية والتنمية المستدامة في القارة.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

قائمة المراجع

 

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى