دراساتسياسية

قراءة في كتاب “الدين والسياسة في أفريقيا” للدكتور حمدي عبدالرحمن

إعداد: نِهاد محمود

باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الأفريقية العليا، جامعة القاهرة

تمهيد:

حظيت مؤخرًا المكتبة العربيَّة للدراسات الأفريقيَّة بواحد من أبرز الإسهامات الفكرية وأكثرها تعمقًا فيما يتعلق بدراسة الدين والسياسة في القارة الأفريقية، وهو مؤلَّف البروفيسور حمدي عبدالرحمن حسن*: “الدين والسياسة في أفريقيا”، الصادر عن منتدى العلاقات العربية والدولية، في طبعته الأولى للعام 2023م.

سعى الكاتب خلال طرحه الموسَّع إلى التركيز على وضعيَّة الدين في السياسة الأفريقية، بل وفي حياة المواطن الأفريقي بشكل أكثر عموميَّة. ويتكشَّف خلال صفحات الكتاب البالغة 387 صفحة، كيف بات الدين مُحدِّدًا للسياسة بالقارة الأفريقية، في الكثير من الوقائع، خاصة خلال تطرُّق المؤلِّف إلى مساحات التأثير والتأثر فيما بين المتغيرين الأبرز لكتابه (الدين والسياسة)، ببعض الحالات الدراسية شديدة الخصوصيَّة في تجسيد التفاعل بين الدين والسياسة مثل: زامبيا، نيجيريا، موزمبيق، كينيا، بما يُسهِم في وضع أساس لفَهم طبيعة الوجود العام للدين في الحياة الأفريقية، وخصوصًا في شقِّها السياسي.

على صعيد الظاهرة الدينية في أفريقيا على وجه الخصوص تأتي أهمية هذا الإسهام، خاصة مع نُدرة الكتابات (العربية بشكل أساسي) حول موقع الدين في أفريقيا وخصوصًا السياسة الأفريقية. ونتذكر في هذا الإطار أنه حتى النصف الثاني من القرن العشرين، كان دور الدين في أفريقيا مهملًا إلى حد كبير. لم تكن هناك مراكز جامعية مخصصة لدراسة الدين في أفريقيا، كما لم يكن هناك سوى عدد قليل من العلماء الذين ركَّزوا في المقام الأول على الدراسات الدينية، ومعظمهم لم يكونوا مؤرخين، وكان هناك عدد قليل نسبيًّا من الدراسات الجادة حول المسيحية والإسلام والديانات التقليدية الأفريقية.

بدأ علاج ندرة الأبحاث الدقيقة هذه في الستينيات، وبحلول العقد الأخير من القرن العشرين، توسَّعت مجموعة الأدبيات المتعلقة بالدين في إفريقيا بشكل ملحوظ، كما استمدت الأبحاث والتغطية الجادة لدور الدين في المجتمعات الأفريقية في البداية زخمًا كبيرًا من المراكز الجامعية الموجودة في الغرب، لكن دون القدر ذاته من الاهتمام بالداخل الأفريقي، ربما لنقص الإمكانات، أو للانشغال في بناء دولة ما بعد الاستعمار، لكن خلاصة الأمر أن هذه الدراسات لم تحظَ بالقدر المأمول من الاهتمام حتى وقت قريب من استقلال الدول الأفريقية.

وفي هذا الإطار نود أن نشير إلى أنها ليست المرة الأولى التي يشتبك فيها الكاتب مع الظاهرة الدينية في القارة الأفريقية، التي تعدُّ ضمن شواغله وتحتل مكانة هامة بكتاباته، حدث ذلك على سبيل المثال في كتابه المعنون: “تحولات الخطاب الإسلامي في أفريقيا.. من الصوفية الإصلاحية إلى بوكو حرام”، الصادر في طبعته الأولى عام 2015م عن إصدارات مركز الأهرام للنشر، والذي ركَّز خلاله على إشكاليات وقضايا التجديد والإصلاح الإسلامي في الواقع الأفريقي (أفريقيا جنوب الصحراء)، في محاولة لفَهم بيئة وأنماط الخطاب الإصلاحي والتجديدي.

تأسيسًا على ما تمَّ بيانه سيتم تقسيم عرض الكتاب وفقًا للتسلسل الآتي:

أولًا: تقسيم الكتاب.

ثانيًا: أبرز المسائل التي توصَّل إليها الكاتب حول الدين والسياسة في أفريقيا (بشكل عام).

ثالثًا: أهم ما وَرَد حول تطور العلاقة بين الدين والدولة في الحالات التطبيقية الواردة بالكتاب (زامبيا، نيجيريا، موزمبيق، كينيا).

رابعًا: خلاصة الباحثة.

أولًا: تقسيم الكتاب

قَسَّم الكاتب إسهامه حول الدين والسياسة في أفريقيا إلى أربعة أجزاء رئيسة: جاء الجزء الأول بعنوان “الدين والسياسة والواقع الأفريقي”، وتألَّف من 3 فصول رئيسية، تناول الفصل الأول مفاهيم الدين والإلحاد في العالم المعاصر، فيما ركَّز الفصل الثاني على مفهوم السياسة واتجاهات تعريفها، أما الفصل الثالث فقد تطرق إلى طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة في أفريقيا. حاول الكاتب في هذا الجزء الاشتباك مع مضامين ثلاثة يدور حولها الكتاب، وهي الدين والسياسة وأفريقيا. طرح الدكتور “عبد الرحمن” عدة تساؤلات في إطار فَهم المفاهيم الثلاثة، منها: هل مثلًا مدلول الدين للأفريقي كمدلوله عند الأوروبي أو نظيره الآسيوي؟ وفيما يتعلق بالسياسة هل هي ملعونة حقًّا، أم أنها شرٌّ لا بد منه، وفقًا للمفهوم الميكافيللي؟ وما قصة الفصل بين الدين والدولة؟ وهل هذا الفصل يصلح لكل الأزمنة والسياقات؟

فيما يتعلق بالمتغير الآخر وهو “أفريقيا”؛ حاول الكاتب عمل تشريح حقيقي لماهيَّة القارة الأفريقية بعيدًا عن الكلمات المبتذلة اللصيقة بها، كالظلام، السفاري، العصابات، القبلية، المجاعات، وغيرها من الكليشيهات المُستَخدَمة من قِبَل المستفرقين الغرب.

وتألَّف الجزء الثاني من الكتاب الذي حَمَل عنوان “الأديان الأفريقية التقليدية”، من 4 فصول رئيسية، تناول الفصل الأول الحقائق والأباطيل حول الأديان التقليدية في القارة، أما الفصل الثاني فقد تناول العبادات والطقوس الدينية، فيما ذهب الفصل الثالث إلى الاستعمار وتراجع الأديان التقليدية، أما الفصل الرابع والأخير في هذا الجزء فقد دار حول الحركات الإحيائية للأديان التقليدية.

أما الجزء الثالث من المؤلَّف فقد ركّز على “الدين كتهديد أمني والتوظيف السياسي للدين في الإسلام والمسيحية”، وذلك عبر 3 فصول أساسية، جاء الفصل الأول حول الإسلام والسياسة في أفريقيا، أما الفصل الثاني فقد طرح قضية الجهاد المسيحي والحركات المسيحية المتطرفة في أفريقيا، فيما ذهب الفصل الأخير في هذا الجزء إلى فكرة الأديان التقليدية وقضايا العنف والسلام.

 اختصّ الدكتور “عبدالرحمن” الجزء الرابع والأخير من مؤلَّفه بدراسة عدد من الحالات التطبيقية للدين والسياسة بالقارة، والذي ركَّز على 4 دول أساسية وهي: زامبيا، نيجيريا، موزمبيق، كينيا، كما ذكرنا أعلاه. جاء الفصل الأول بعنوان: الدين والسياسة في زامبيا، أما الفصل الثاني فقد دار حول اليهودية السياسية في نيجيريا، فيما ذهب الفصل الثالث إلى الاشتباك مع حالة الدين والسياسة في موزمبيق، وأخيرًا تناول الفصل الرابع من هذا الجزء (والرابع عشر من تسلسل الكتاب ككل) الإسلام والسياسة في كينيا.

ثانيًا: وفقًا لما وَرَد بالكتاب توصَّل المؤلِف إلى عدد من المسائل ذات الصلة بالدين والسياسة في أفريقيا، نطرح أبرزها كما يلي:

أكد الكاتب في البداية على ما يحمله الدين من أهمية تظهر بشكل جلي في السياسة الأفريقية خلال تتبع عدد من ممارسات القادة الأفارقة، وهو ما يمكن تفهمه بالنظر إلى أن إحدى أبرز الخصائص المميزة للشخصية الأفريقية هي الإيمان بالله. يدلِّل على ذلك بقيمة الدين في حياة القادة الأفارقة الذي امتزج بخطاباتهم وأغلب المناسبات العامة، على سبيل المثال يقول “د. عبدالرحمن” بأن ما فعله “كوامي نكروما” على مدار 10 سنوات في غانا فيما يتعلق بتفسير تعاليم المسيح يفوق كثيرًا ما فعله المُبشرون على مدى قرن وأكثر. ووصف الكاتب هذه الظاهرة في بعض جوانبها بتديين السياسة في غانا والتي كان أبرز ملامحها تقديم الصلوات خلال المناسبات العامة بقرع الطبول وتلاوة الترانيم التي تمجد كثيرًا نكروما (كوامي، كم أنت رائع كوامي)، وغيرها من الطقوس المسيحية والإسلامية. لذا يمكن القول بتقاطع السياسة مع الدين كثيرًا في الممارسات اليومية الأفريقية، وهو ما يبرز في الأهمية الكبيرة التي تحتلها المنظمات والشخصيات الدينية التي تحظى بمكانة تفوق القادة والمسؤولين الحكوميين على نحو يصف القارة بأنها القارة الأكثر تدينًا وإيمانًا بالله في العالم.

يميِّز هذا الإسهام الفِكري الرصين محاولة الكاتب التركيز على الأديان التقليدية الأفريقية –التي تُسهِم بشكل كبير في تشكيل شخصية وثقافة ووجدان المواطن الأفريقي- بدءًا من التطرق إلى التجاهل الشديد الذي مُنيت به هذه الأديان في الكتابات الغربية السائدة عن أفريقيا خاصة في القرن التاسع عشر، وكيف اعتُبِرَ التنوع في أفريقيا أمرًا سيئًا بخلاف الهند التي اُعتُبِرَ التنوع الديني لديها أمرًا خلَّاقًا. وصولًا إلى التحليلات الأنثروبولوجية الغربية التي ركَّزت لاحقًا على الأديان التقليدية الأفريقية، ولكن بنزعة استعلائية لافتة، كدراسة “تمبل” عن فلسفة البانتو الصادرة في طبعتها الإنجليزية عام 1959م. إضافة إلى تعمُّد استخدام مُصطلحات تحمل قدرًا من الاستخفاف لمعتقدات الأفارقة التقليدية، ككلمة السحر أو جوجو التي تعني في أصلها الفرنسي دُمية صغيرة أو لعبة، ما دفع الكاتب إلى القول بضرورة تبني الأفارقة مصطلحات ومضامين أفريقية خاصة بهم في ظل المغالطات الغربية حول القارة، كما أنه يمكن إنتاج العديد من الموسوعات مثل موسوعة الدين الأفريقي وقواميس دينية مختلفة، وذلك إن أرادوا أن يتوقف العالم عن وَصف دينهم ومؤسساتهم التقليدية بمصطلحات مضللة ومهينة.

كما دعا الدكتور “عبد الرحمن” الباحثين والدارسين للدين الأفريقي التقليدي والحياة الروحية الأفريقية إلى ضرورة الارتكان إلى المصادر الأولية، والمصادر الشفوية والملاحظة المباشرة للمُمَارسين للدين الأفريقي التقليدي، على أن يقترن ذلك بأن يضع الباحثون معتقداتهم وتحيُّزاتهم المسبقة المرتبطة بأفريقيا والشعوب الأفريقية والدين الأفريقي جانبًا.

على صعيد الإسلام والسياسة في أفريقيا طرح الكاتب تساؤلًا مهمًّا مفاده: هل يؤثر حقًّا الإسلام في السياسة الأفريقية؟ ونجد أنه خلال تتبع عدد من الوقائع في القارة الأفريقية أن الإسلام ومنظماته ورجاله لا يزالوا يؤثرون بحق في السياسة الأفريقية بما في ذلك من تشريعات يتم سنُّها من قِبَل الدولة وحتى في الفعاليات التي يتم إطلاقها داخل الدولة. يجسد ذلك بشكل جلي ما حدث في جمهورية مالي بين عامي 2009 و2011م، حينما دار جدلٌ كبيرٌ حول إصلاح قانون الأسرة لموازنة الحقوق بين الرجل والمرأة، وفي نهاية الأمر تم تعديل 51 مادة تشريعية أثناء القراءة الثانية للنص في البرلمان المالي من أجل تلبية مطالب المنظمات الإسلامية. ليس هذا فحسب، فحينما كانت مالي بصدد عَقد ورشة عمل بالشراكة مع سفارة هولندا في مالي حول تدريس التربية الجنسية للمراهقين في المدارس، احتج الإمام محمود ديكو -صاحب الشعبية الكبيرة في البلاد- عبر شبكات التواصل الاجتماعي في ديسمبر 2018م، للتنديد بالأمر وبتعليم المثلية في مدارس مالي، وبالفعل قررت الحكومة تجنب المواجهة، وتم التخلي عن عَقد الورشة. يتكشَّف خلال الواقعتين السابقتين كيف يمكن أن يؤثر الدين على الدولة ككل، وكيف ينجح الإسلاميون في كل مواجهة في فَرض أفكارهم في مواجهة الدولة، ويعود ذلك بشكل كبير إلى النفوذ السياسي الكبير الذي تحظى به المنظمات الإسلامية ورجال الدين بشكل عام في أفريقيا، لاسيما مع الثقة الكبيرة التي يحتفظ بها غالبية المسلمين الأفارقة في الفاعليين الدينيين أكثر من ثقتهم بالسياسيين.

أما في الفصل التاسع (الجهاد المسيحي: الحركات المسيحية المتطرفة في أفريقيا) فأكد “عبد الرحمن” على ضرورة التركيز من الناحية الموضوعية على أن ظاهرة التطرف الديني تشهدها كل الأديان والمعتقدات، خلاف ما يحدث من الأدبيات السائدة التي تركز على دراسة الحركات العنيفة المرتبطة بالإسلام، لاسيما منذ أحداث سبتمبر 2001م، متجاهلين وجود حركات مسيحية متطرفة على سبيل المثال، لذا سعى الكاتب إلى دراسة تأثير الحركات المسيحية المتطرفة وتأثيرها على المجتمع الأفريقي، وأسباب التطرف المسيحي من الأساس في أفريقيا، ورؤية هذه الحركات للمسلم وغير المسلم (أصحاب الديانات التقليدية). ويدلل الكاتب على الجهاد المسيحي في القارة من خلال عرض ثلاث حالات أولها نيجيريا؛ حيث قضية بيافرا والتمرد المسيحي. وثانيها جيش الرب للمقاومة، الناشط في شمال أوغندا منذ عام 1986م، ثم ركز دكتور “عبد الرحمن” على أنتي بالاكا (التي تعني تقريبًا الشخص الذي لا يقهر) في أفريقيا الوسطى. كما تطرق الكاتب إلى الجهاد المسيحي ونظيره الإسلامي الراديكالي والفارق بينهما الذي يتمثل في أن حركات التمرد المسيحية في شمال نيجيريا على سبيل المثال لا تسعى إلى فرض دولة مسيحية، في حين يحلم جهاديو بوكو حرام بإقامة دولة الخلافة.

بصورة عامة افترض الكاتب أن السبب الرئيس الكامن وراء العنف الديني في أفريقيا يعود إلى فشل دولة ما بعد الاستعمار في القارة باعتباره مشروعًا وطنيًّا قيد التطوير. ما خلق المساحة للترحيب بالحركات المتطرفة التي تم النظر إليها من قبل الجمهور باعتبارها بديلًا للدولة في تحقيق الأمن والأمان.

ثالثًا: خلال الحالات التطبيقية الواردة بالكتاب حول تطور العلاقة بين الدين والسياسة في أفريقيا يمكن الإشارة إلى ما يلي:

 ركّز الكاتب بداية على زامبيا (خلال الفصل الحادي عشر: الدين والسياسة في زامبيا)، وهي حالة دراسية لها وجاهتها في الاختيار بالنظر إلى أنها الدولة الأفريقية الوحيدة التي نصَّ دستورها صراحةً على أنها أمة مسيحية (29 ديسمبر- 1991م). كما شهدت الدولة تسييسًا لبعض الطوائف الدينية كالمسيحية. ويشير الكاتب في حالة زامبيا إلى أن دور الدين في الحياة العامة لم يكن بنَّاءً على الدوام. بالرغم من إسهامات الدين في النضال ضد الاستعمار وحكم “كاوندا” الاستبدادي وصعود الديموقراطية الحديثة، إلا أنه ساهم في دعم الميول الاستبدادية التي ظهرت فيما بعد الاستعمار وما ترتب عليها من قمع وحرمان لأبسط حقوق الإنسان. لكن بالعودة إلى إعلان السلطات أن زامبيا دولة مسيحية، أرجع الكاتب ذلك إلى سببين؛ الأول: تمثل في زعم الرئيس الزامبي “فريدرك شيلوبا” أن هذا الإعلان سيُخَلِّصه من الفساد ويُسهِم في ازدهار الدولة، إضافة إلى رغبته في استمالة الدول الغربية بهذا الإعلان للحصول على دعم المانحين. أما السبب الثاني فتمثل في رغبة “شيلوبا” في مواجهة الزحف الإسلامي وتهديداته، وهو ما يؤكده بعض رجال الدين المسيحي؛ كالقس “نيفيرس مومبا” الذي رأى أن المسلمين يخططون لغزو زامبيا، وأن تهديد الإسلام في البلاد حقيقة واقعة. من جهة أخرى تطرق الكاتب إلى الخريطة الدينية في زامبيا، ثم ركز بشكل أكثر تحديدًا على الإسلام الذي وصل إلى زامبيا عبر التجار الساحليين المسلمين منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكذلك وضعية تسييس الدين لخدمة السياسة وتوظيف الدين لخدمة السياسة، التي لم تقتصر فقط على الدين المسيحي. كما ذهب الكاتب إلى الحديث حول العلاقة بين الكنيسة والدولة خلال الفترة الاستعمارية وكذلك فيما بعدها، وخلال فترة التحول الديموقراطي، ومرحلة التعددية. وأخيرًا سلَّط الكاتب الضوء على مكانة السحر والمعتقدات التقليدية في زامبيا، وأهمية استيعابها من أجل فَهم العمل السياسي واللغة السياسية الزامبية التي يلعب السحر بها دورًا كبيرًا.

أما الفصل الثاني عشر (اليهودية السياسية في نيجيريا) فقد ركَّز الدكتور “عبد الرحمن” عبره على حالة يهود الإيبو النيجيريين، الذين يصفون أنفسهم بأنهم اليهود المتجولون في غرب أفريقيا، كما يقولون إنهم تعرضوا للإبادة كحال اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، حين توفي أكثر من مليون إيبو بين عامي 1967 و1970، خلال محاولتهم غير المكتملة لاستقلال إقليم بيافرا عن نيجيريا. كما تطرق الكاتب إلى أزمة بيافرا التي اتهمت فيها الحكومة النيجيرية الإيبو بالتآمر للاستيلاء على السُلطة، في حين صَوَّر قادة الإيبو أنفسهم بأنهم كاليهود الناجين من الهولوكوست، لمزيد من التأثير والزخم الدولي. علاوة على ذلك أشار الكاتب إلى ظاهرة “يهود الإنترنت”، بما يعني أن تطور الاتصالات الحديثة أدى إلى تسارع اعتناق الإيبو لليهودية بسبب ظهور الإنترنت، كما سَهَّل عليهم التعرف إلى العبرية وممارسة الشعائر اليهودية حول العالم، ما عزز تواصل يهود الإيبو مع إسرائيل، حتى أن السفير الإسرائيلي السابق في نيجيريا “نعوم كاتس” أقرَّ علنًا بوجود تشابه في ثقافة الإيبو واليهود، لكن رغم ذلك لم تعترف إسرائيل رسميًّا بالإيبو كواحدة من القبائل اليهودية العشر المفقودة.

في الفصل الثالث عشر (الدين والسياسة في موزمبيق) ركَّز الدكتور حمدي عبد الرحمن على الخريطة الدينية في موزمبيق والعلاقة بين الكنيسة والدولة سواء قبل أو بعد الاستقلال، وكذلك تتبع مسار العلاقة بين الإسلام والدولة. كانت الخريطة الدينية مكونة من الروم الكاثوليك، أتباع المسيحية الصهيونية، الإنجيليين/الخمسينيين، الأنغليكانيين، المسلمين، وأقلية من اليهود والهندوس والبهائيين. كما تطرق إلى دور الكنيسة الكاثوليكية في البلاد التي تغيَّر وضعها فيما بعد الاستعمار، حيث أدى الاستقلال إلى أفرقة الكنيسة بترقية الأفارقة إلى مناصب السلطة في الكنيسة، لاسيما مع مغادرة رجال الدين البرتغاليين والأجانب البلاد في غضون عام من الاستقلال. ركز الكاتب لاحقًا على دور الكنيسة البارز في السياسة، كنقدها للاشتراكية والإلحاد الذي روَّجت له الدولة، حتى أنها أدت إلى توتر العلاقة بين الكنيسة والدولة. كما لعبت أدوارًا بارزة خلال أوقات الأزمات، مثل انخراط كنيسة سانت إيجيديو في تيسير عملية سلام موزمبيق وتفاوضها على تحرير عدد من المبشرين المخطوفين من قِبَل رينامو (المقاومة الوطنية الموزمبيقية) في 1987-1988م.

وحول العلاقة بين الدولة والإسلام يقول الكاتب إنها تأرجحت بين التوتر أحيانًا والوفاق أحيان أخرى، لاسيما مع ظهور الفكر الإصلاحي الجديد من قِبَل سلفية مولانا أبي بكر إسماعيل. أما على صعيد الأديان التقليدية فلا تزال في وجدان الموزمبيقيين رغم التبشير الكنسي وقبله الإسلام.

وإجمالًا أشار الكاتب إلى ما يحدث بالبلاد من خلال استغلال الدين وتوظيفه خلال أعمال العنف والحروب الدينية سواء أكانت باسم المسيحية أم الإسلام. من ناحية أخرى سعى الكاتب إلى التركيز على ما سماه “فوضى المفاهيم والتسميات”، وتوظيف الدين وفقًا للهوى والمصالح في الحروب والصراعات الأهليَّة، على سبيل المثال في الحالة الموزمبيقية يتم التعامل مع الخارجين عن القانون من المسيحيين بوصفهم متمردين فحسب دون إلصاق مصدر الأمر العنيف بالدين المسيحي، أما في حال كان الأطراف المتمردة المرتكبة للممارسات الوحشية ذاتها من القتل والنهب ترتبط بالإسلام فسرعان ما يتم وصفهم بالإرهابيين وإلصاق هذه الصفة بالإسلام (الإرهاب الإسلامي)، في تحيُّز فكري واضح، في حين أن المُدرِك لهذه الصراعات سواء أكان مرتكبوها مسيحيين أم مسلمين، يعلم جيدًا أنها ظواهر إجرامية تخفي أغراضها الحقيقية -المتمثلة في كسب الثروة والاستيلاء على السلطة- تحت غطاء استخدام الخطاب الديني للتبرير والتأثير، لاسيما مع ما يُمكِن أن يحدثه في فرض مزيد من السيطرة على قلوب وعقول الأتباع.

تطرّق الفصل الرابع عشر (الإسلام والسياسة في كينيا) إلى تعقُّد وتشابك الظاهرة الإسلاميَّة في كينيا، خصوصًا مع تنوع الاتجاهات الطائفية والمذهبية لديها. لذا فالمسلمون لا يُشَكِّلون كتلة واحدة، ما جعل السياسة الإسلامية منقسمة ومفتتة، لكن رغم ذلك شهدت الفضاءات العامة معارضة سياسية واضحة من قِبَل الجماعات والتنظيمات الإسلامية للنظام الحاكم، في حين خشيت الكنائس الجديدة وترددت في انتقاد أصحاب السلطة.

رابعًا: خُلاصة الباحثة حول الكتاب:

تكشَّف لدينا خلال تتبع الظاهرة الدينية في القارة الأفريقية وفقًا لما وَرَد بالكتاب قيمة الدين المتصاعدة في القارة، وتأثيرها اللافت على تفاعلات السياسة الأفريقية، وهو ما يؤدي بالزعماء الأفارقة الراغبين خلال سعيهم إلى ترسيخ نفوذهم بوجدان وقلوب شعوبهم، بالتسلل إليهم عبر ما يمكن وصفه بتديين السياسة (كما ذكر الكاتب على سبيل المثال في الحالة الغانية)، وهو رهان مضمون للغاية في قارة كأفريقيا تزدهر بها المساحات الدينية كثيرًا لتتماس مع كافة أوجه الحياة الأفريقية، بما في ذلك البُعد السياسي، الجانب الأبرز في حديثنا في هذا المنعطف. بناءً على ذلك لم يكن مُستغربًا التأكيد على أنه لمن يريد الفَهم الدقيق للعبة السياسية في القارة الأفريقية فلا بد من وضع العوامل الدينية في الاعتبار ليكتمل الاستيعاب للمشهد السياسي ككل.

وأخيرًا يُمَهِّد الكتاب للباحثين والمهتمين بالشأن الأفريقي الطريق لمزيد من الإسهامات الساعية إلى الاشتباك مع متغيرات الدين والسياسة في أفريقيا، ودراسة الظواهر الإنسانية في القارة بشكل عام، ولكن بعيون أفريقية خالصة، مُجردة من التحيُّزات والتوجُّهات، تعتمد على المصادر الأولية والملاحظة المباشرة قدر المُستطاع، بعيدًا عن التناول الحاصل في الأدبيات الغربية التي بدأت بالتجاهل المتعمَّد للقارة ثم تحولت إلى التعالي والاستخفاف بثرائها الديني، اللغوي، الإثني… إلخ، وصولًا إلى محاولة ترسيخ صورة ذهنية بعيدة كثيرًا عن الواقع الأفريقي، في سرد يشوبه كثير من المغالطات والتشويه، عدا قلة من الأدبيات التي لا تزال تحرص على نقل الصورة الأفريقية دون تحيُّزات وافتراضات بعينها.

* يعد البروفيسور “حمدي عبد الرحمن حسن” كاتبًا ومفكرًا مصريًّا، تشمل اهتماماته البحثية قضايا السياسة والحكم والتنمية في أفريقيا، ودراسات الصراع والأمن والتطرف الديني. يعمل أستاذًا للعلوم السياسية بجامعتيْ زايد والقاهرة. يشغل حاليًا منصب نائب رئيس لجنة دراسات الأمن والصراع والتحول الديمقراطي بالجمعية الدولية للعلوم السياسية. كما شغل منصب نائب رئيس الجمعية الإفريقية للعلوم السياسية في بريتوريا في الفترة من عام (2001-2005)، وهو أيضًا عضو المجلس الاستشاري للشبكة السويدية لدراسات السلام والصراع والتنمية.

أصدر الكاتب العديد من الكتب باللغتين العربية والإنجليزية منها: طريق القوة الناعمة دولة الإمارات العربية المتحدة وإفريقيا نحو شراكات تعاونية، الاتجاهات الحديثة في دراسة النظم السياسية، إفريقيا وتحديات عصر الهيمنة: أي مستقبل؟، إفريقيا والعولمة، المرأة والسياسة في الشمال الإفريقي، التحول الديمقراطي في العالم العربي خلال التسعينيات، المنهج في علم السياسة، قضايا في النظم الإفريقية السياسية، التعددية وأزمة بناء الدولة في إفريقيا الإسلامية، الصراع السياسي في شرق إفريقيا وانعكاساته على الأمن القومي المصري.

 

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى