تقدير موقف

الدور العربي في الأزمة الليبية: من التباين إلى فرص الحل المشترك

أ. إدريس أحميد – صحفي وباحث في الشأن السياسي المغاربي والدولي

شكّلت ليبيا لعقود طويلة جزءًا حيويًا من الفضاء العربي، بعلاقات سياسية واقتصادية وثيقة مع معظم الدول العربية، إلا أن التغيرات التي عصفت بالمنطقة منذ عام 2011، خصوصًا ما عرف بـ”الربيع العربي”، كشفت عن انقسامات حادة في المواقف تجاه الأزمة الليبية. اليوم، وبعد أكثر من 14 عامًا من الفوضى والانقسام، يطرح تساؤل مهم نفسه: هل ما يزال بالإمكان استعادة دور عربي موحد في ليبيا؟ وهل نشهد نضجًا في الرؤية العربية نحو حل ليبي – ليبي مستقر؟

لبنان

أولًا: ليبيا والدول الخليجية قبل 2011

السعودية

تميزت العلاقات الليبية–السعودية خلال العقود الماضية بالتقارب السياسي في بعض المراحل، والتوتر في أخرى، لكنها لم تصل حد القطيعة. وقد جمعت بين البلدين ملفات مشتركة ضمن إطار الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، دون أن تنعكس الخلافات الفكرية بين القيادتين على العلاقات بشكل جذري.

الإمارات

العلاقات الليبية–الإماراتية كانت على قدر كبير من الودّ، خاصة على مستوى التعاون الاقتصادي والاستثماري. وقد كانت الإمارات من الدول الخليجية القليلة التي احتفظت بعلاقات مستقرة مع ليبيا حتى عام 2011، حيث تحول موقفها إلى دعم المؤسسات واستقرار ليبيا بدعمها القوات العربية الليبية المسلحة والمؤسسات الوطنية .

قطر

عرفت العلاقات بين ليبيا وقطر تعاونًا متينًا قبل الثورة، خصوصًا في المجال الاستثماري والإعلامي، وشاركت قطر في العديد من المشاريع داخل ليبيا. إلا أن انخراطها العلني في دعم الثورة الليبية إعلاميًا وماليًا وعسكريًا غيّر المشهد، وأثار ردود فعل متباينة في الداخل الليبي.

ثانيًا: مواقف الدول الثلاث بعد الثورة

تباينت أدوار السعودية، الإمارات، وقطر بعد 2011:

قطر دعمت الثورة والثوار بشكل علني، ولعبت دورًا نشطًا في تقديم الدعم للفصائل المسلحة التي أطاحت بالنظام السابق.

الإمارات أيدت استقرار ليبيا من البداية وسعت إلى ذلك من خلال داعمًا للجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر ، وحاليًا ترتبط بعلاقات مع كل الأطراف الليبية، وبإمكانها لعب دور كبير في إيجاد حل للأزمة الليبية.

السعودية بقيت في موقع المتابع الحذر، ثم دعمت جهود مصر نحو وقف الحرب والانخراط في التسوية السياسية، دون انغماس مباشر في الصرا

ثالثًا: مصر… من الانشغال إلى التأثير

ما قبل 2011

العلاقات الليبية–المصرية قديمة واستراتيجية، امتدت لعقود وشملت تعاونًا اقتصاديًا وأمنيًا عميقًا، فضلًا عن الروابط الجغرافية والديموغرافية.

أثناء الثورة وبعدها

انشغلت مصر بثورتها عام 2011، لكن مع تعافيها السياسي، استأنفت حضورها الفعّال في الملف الليبي، متخذة مواقف واضحة أبرزها:

دعم مجلس النواب الليبي والجيش الوطني وتوحيد المؤسسات واستقرار ليبيا

إعلان “سرت – الجفرة” خطًا أحمر عام 2020 اوقف إطلاق النار واحياء العملية السياسية.

الدخول في حوار مع تركيا ودمج الملف الليبي ضمن التفاهمات الثنائية.

تشجيع الأطراف الليبية على إجراء انتخابات واستعادة مؤسسات الدولة.

رابعًا: المواقف المغاربية

المغرب

شهدت العلاقات بين المغرب وليبيا قطيعة، بعد سقوط النظام الملكي في ليبيا، حيث استقبلت المغرب شخصيات من النظام الملكي، ورفضت تسليمهم لليبيا، وبسبب دور ليبيا في تأسيس جبهة البوليساريو مع الجزائر. وجاء عام 1984 لتعود العلاقات بين البلدين، وتوقفت ليبيا عن دعم البوليساريو، وتم تأسيس الاتحاد العربي الأفريقي، ثم اتحاد المغرب العربي. وبرز دور المغرب بعد 2011 في دعم المجلس الانتقالي، واحتضان اللقاءات والحوارات الليبية، وأهمها اتفاق الصخيرات عام 2015، ولعب دور الوسيط النزيه في عدد من الجولات بين الفرقاء الليبيين.

الجزائر

تربطها بليبيا علاقات تاريخية ونضالية، وشهدت تعاونًا في ملفات الحدود ومكافحة الإرهاب. عارضت الجزائر التدخل العسكري لحلف الناتو في ليبيا عام 2011، خشية الانعكاسات الأمنية على حدودها، وفضّلت دعم مسار الحل السياسي عبر الحوار الليبي–الليبي، وعقدت مؤتمر وزراء خارجية دول الجوار الليبي.

إلا أن الموقف الجزائري من الأزمة الليبية ظلّ غامضًا وغير مفهوم بشكل كافٍ، سواء على المستوى السياسي أو الأمني. فعلى الرغم من تبنيها خطابًا يرفض التدخلات الأجنبية ويدعو إلى الحل السلمي، فإن الجزائر لم تقدّم مبادرات ملموسة أو خطوات فاعلة تُحدث فارقًا في المسار السياسي. كما أنها تميل إلى حكومة الغرب، ما أثار تحفظ بعض الأطراف الليبية، وأضعف من قدرتها على لعب دور الوسيط المحايد.

أمنيًا، اكتفت الجزائر بسياسات الحذر والدفاع دون التنسيق الفعلي مع الأطراف الفاعلة في ليبيا، رغم التهديدات الأمنية المشتركة، خاصة في الجنوب. في المقابل، تمكن الجيش الليبي من بسط سيطرته على مساحات واسعة وتأمين الحدود مع الجزائر، مما ساهم في تحجيم نشاط الجماعات المسلحة العابرة للحدود، وهو ما لم تُعلّق عليه الجزائر رسميًا.

تونس

العلاقات الليبية–التونسية كانت دومًا متقاربة، رغم بعض التوترات في عهد بورقيبة. شهدت العلاقات تحسنا كبيرا بعد تسلم زين العابدين بن علي الحكم، وتطورت العلاقات وتعززت في مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والأمنية، لدرجة التكامل والشراكة الاستراتيجية.

رفضت تونس تدخل الناتو عبر أراضيها، ويتردد بأن سبب إسقاط زين العابدين بن علي كان رفضه استخدام تونس كقاعدة لتحريك الأوضاع في ليبيا. بعد سقوط بن علي استقبلت تونس النازحين بسبب الفوضى الناتجة عن الاشتباكات بين قوات الأمن الليبية والثوار، وعادت لاستقبال مئات الآلاف من الليبيين بعد 2011، ولعبت لاحقًا دورًا دبلوماسيًا عبر استضافة لقاءات بين الليبيين، وتمسكت بمبدأ “الحل الليبي – الليبي”.

موريتانيا

دعمت موريتانيا التسوية السلمية ودعت للحوار الليبي–الليبي في إطار الاتحاد المغاربي والاتحاد الأفريقي. لكن تجميد اتحاد المغرب العربي نتيجة الخلاف المغربي–الجزائري، أثّر سلبًا على قدرتها على التأثير.

خامسًا: الجامعة العربية… بين العجز والمراجعة

في 2011، وقفت الجامعة العربية عاجزة عن التدخل لإيجاد حل للأزمة، وظلت لعقد كامل تكتفي بالتصريحات والدعوات، دون حراك فعلي لحل الأزمة.

لكن وبعد سنوات من تفاقم الوضع، عادت القمم العربية لتؤكد على ضرورة إنهاء التدخلات الخارجية في ليبيا، ودعم حل سياسي ليبي – ليبي يُنهي حالة الانقسام ويعيد مؤسسات الدولة.

سادسًا: هل يمكن عودة الدور العربي؟

الواقع الجيوسياسي الجديد في المنطقة، خاصة العدوان على غزة، والضغوط المتزايدة على مصر، دفع باتجاه تفعيل التعاون العربي الإقليمي.

مصر استعادت موقعها كوسيط أساسي، وتمكنت من منع اتساع رقعة الحرب في 2019، وحظيت بدعم إقليمي لذلك.

السعودية، بما تملكه من علاقات دولية وعربية، قادرة على لعب دور محوري في الوساطة.

الإمارات وقطر مطالبتان اليوم بلعب أدوار أكثر انخراطًا مع الدور المصري والسعودي والتركي من خلال علاقتهما معها.

خاتمة

المسؤولية الآن ليست فقط على الدول العربية، بل على الليبيين أنفسهم أيضًا. فالثقة بين الأطراف الليبية هي حجر الأساس لأي تسوية ناجحة. وإذا ما توفرت النية الوطنية الليبية، واستعاد العرب زمام المبادرة بجدية، فقد يكون الملف الليبي بوابة لعودة العمل العربي المشترك بعد سنوات من التباعد والانقسام.

 

وفي هذا السياق، تبدو الحاجة ملحّة اليوم إلى مواقف عربية أكثر وضوحًا وانخراطًا، خصوصًا من دول الجوار المغاربي مثل الجزائر، التي يُنتظر منها أن تُبلور دورًا سياسيًا وأمنيًا أكثر فاعلية وتحديدًا، بما يتناسب مع ثقلها الإقليمي وتأثيرها التاريخي. فغياب المواقف الواضحة أو الاكتفاء بالشعارات العامة لا يخدم الحل، بل يعمّق الضبابية ويُضعف فرص الوصول إلى تسوية شاملة تنبع من الداخل الليبي وتُحتضن بدعم عربي خالص.

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى