الرئيسيةدراساتسياسية

دروس مستفادة من الدبلوماسية الفرنسية تجاه البرنامج النووي الايراني

إعداد: د. مصطفى عيد

في تقرير استشاري صدر منذ عدة سنوات حول السياسة الخارجية الفرنسية، أعده مجموعة من الخبراء، تضم عشرين شخصية عملت في وزارة الخارجية والسفارات الفرنسية في الخارج، ومنهم هيرفيه دو شاريت ورولان دوما وهوبير فيدرين. يرى معدو التقرير أن هناك أربعة لاعبين رئيسيين في منطقة الشرق الاوسط: تركيا، ومصر، وإيران، والسعودية. وكل دولة من هذه الدول تريد أن تقوم بدور مركزي لأسباب خاصة بها. وعلى فرنسا أن تتعامل مع هذه الحقيقة، خاصة وأن تنافس هذه الدول يؤدى إلى الفوضى، وحالة عدم الاستقرار بالمنطقة. وفيما يتعلق بإيران يرى الخبراء المشاركين في التقرير الى ان فرنسا وقفت ضد إيران تماشياً مع السياسة الأمريكية، لكن أمريكا اقتنعت بأن لإيران دوراً لا يمكن تجاوزه في المنطقة ( وفق التقرير)، إلا أن فرنسا تماشت مع السياسة السعودية المعادية لإيران ” في فترة زمنية معينة”، فبدت وكأنها تساند محور الرياض ضد محور إيران، وهذا خطأ سياسي كبير ” من جهة نظر التقرير”، لأن إيران لاعب إقليمي أساسي لا يمكن تجاهله، ولابد من إقامة علاقة طبيعية معها حتى تستطيع الشركات الفرنسية الوصول إلى السوق الإيرانية الواعدة اقتصادياً. وفي السطور التالية نحاول تشريح الدبلوماسية الفرنسية من خلال محاولة لعب دور مستقل تجاه إيران وذلك قبل افول المفاوضات مع إيران بسبب حرب أوكرانيا في فبراير 2022 ثم الاحداث الكبرى التي تلت 7 أكتوبر 2023. والخروج بدروس مستفادة عبر الغوص في التاريخ القريب لاستشراف ما يمكن ان يحدث في المستقبل القريب .

سياسات الولايات المتحدة أفريقيا

أقرأ أيضا: د. مصطفى عيد يكتب.. سياسات الولايات المتحدة الامريكية تجاه أفريقيا

ازمة شركة توتال الفرنسية وفكر ماكرون والتقرير الاستشاري

بعد التوصل لاتفاق خطة العمل المشتركة ” الاتفاق النووي مع إيران” عام 2015. قامت الحكومة الايرانية بمكافئة فرنسا، حيث ابرمت اتفاقا مع شركة توتال الفرنسية لتطوير المرحلة 11 من حقل بارس الجنوبي. وكان الاتفاق يهدف الى تطوير الحقل بقيمة 20 مليار دولار وزيادة الطاقة الانتاجية الى 500 مليون قدم مكعب يوميا في ظل تدني الصادرات الايرانية من الغاز. الا ان المشروع قد واجه صعوبات من جراء الانسحاب الامريكي من الاتفاق وزيادة سقف العقوبات الامريكية على إيران والشركات التي تعمل بها.

وفي هذا السياق عبر الرئيس ماكرون في حديث سابق له مع مجموعة الدراسات الجيو سياسية، (قبل حرب أوكرانيا)، حيث كشف عن رغبته على تجاوز الولاية الإقليمية للدولار، وذكر ان ذلك حقيقة وليست جديدة. وقال: قبل أقل من عشر سنوات، تم معاقبة العديد من الشركات الفرنسية بمليارات اليورو لأنها كانت تعمل في بلدان محظورة بموجب القانون الأمريكي. وبعبارة ملموسة، هذا يعني أن شركاتنا يمكن أن تُدان من قبل قوى أجنبية عندما تعمل في بلد ثالث: أي الحرمان من السيادة، وإمكانية اتخاذ قرار بأنفسنا، فإنه يضعف موقفنا بشكل كبير. وللأسف، أدركنا الآثار الكاملة لذلك عندما يتعلق الأمر بمناقشة إيران. نحن الأوروبيين أردنا البقاء في إطار ما نسميه خطة العمل الشاملة المشتركة. ومع انسحاب أمريكا، لم تتمكن أي شركة أوروبية من الاستمرار في التعامل مع إيران خوفاً من العقوبات من الولايات المتحدة. ومن ثم، عندما أتحدث عن السيادة أو الحكم الذاتي الاستراتيجي، فإنني أجمع بين كل هذه القضايا، التي تبدو للوهلة الأولى مختلفة جدا.  وهذا يعني إعادة النظر في السياسات التي تعودنا عليها، والسياسات التكنولوجية والمالية والنقدية، والسياسات التي نبني معها، في أوروبا، حلولا لأنفسنا، لشركاتنا، لمواطنينا، تمكننا من التعاون مع الآخرين، ومع من نختارهم، ولكن ليس من الاعتماد على الآخرين، وهو ما لا يزال كذلك في كثير من الأحيان اليوم. لقد أحرزنا الكثير من التقدم في السنوات الأخيرة، ولكننا لم نحل هذه المشكلة.

فرنسا والبرنامج النووي الايراني

بادرت فرنسا في التوسيع في فرض العقوبات على إيران سنة 2011، وذلك إثر تراجع المحادثات مع إيران واكتشاف الموقع العسكري بفوردو؛ حيث سعت إلى ضرب الآلة الاقتصادية الإيرانية عبر فرض حظر على صادرات النفط وتجميد أصول البنك المركزي في الخارج، مؤكدة على نجاح إجراءاتها التي ترى أنها دفعت إيران للعودة إلى طاولة المفاوضات. غير أن الاتفاق المبدئي لسنة 2013، والذي تم تمديده في مناسبتين قد أدى إلى تراجع موقف فرنسا لصالح إيران والولايات المتحدة المتصدرتين للمشهد الدبلوماسي.  كما ظهرت فرنسا في موقع الهجوم في المفاوضات المتعددة الاطراف في جنيف بشأن البرنامج النووي لإيران مجازفة بذلك باحتمال ان تبدو معزولة وتتسبب بتوتر محتمل مع حلفائها. الا ان وزير الخارجية الفرنسي حينئذ “لوران” قد علق على تصريحات بشأن عزلة فرنسا بانها مرفوضة بشكل قاطع. نافيا اي كلام عن عزلة لفرنسا في هذا الملف. وكانت فرنسا بعد ذلك من الدول التي تشددت فيما يتعلق بمفاوضات الاتفاق النووي بعد ذلك. كما أكدت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الفرنسية انييس روماتي على ضرورة التزام إيران الصارم بالاتفاق النووي وذلك على إثر تصريحات الرئيس الامريكي ترامب بان الاتفاق النووي هو أسوا اتفاق في تاريخ امريكا، مشيرة إلى أن هذه هي رسالة بلادها للإيرانيين. وقالت، ردا على سؤال حول موقف فرنسا من الاتهامات الأمريكية لإيران، إن اتفاق فيينا يفرض قيودا شديدة على البرنامج النووي الإيراني على مدى عشر سنوات ويُحد من خطر تطوير إيران للسلاح النووي، معتبرة انه لا يوجد بديل أخر ذات مصداقية لهذا الاتفاق و أن بلادها لا تريد إعادة التفاوض بشأنه. وأشارت المتحدثة إلى ضرورة الحفاظ على الوحدة بين الأوروبيين والأمريكيين وأن ذلك ما سمح بحل المشكلات المتعلقة بتنفيذ الاتفاق، مضيفة أن رئيس الجمهورية ايمانويل ماكرون ووزير الخارجية “حينئذ” جون ايف لودريان أكدا مرارا للجانب الأمريكي على أهمية الاتفاق وكذلك المساهمة الإيجابية لإيران لحل الازمات في المنطقة.  وفيما يتعلق بالعقوبات الأمريكية الجديدة بسبب البرنامج الباليستى لإيران ودورها في الأزمات بالمنطقة، قالت المتحدثة إن العقوبات تستهدف اشخاصا وكيانات مرتبطة بالبرنامج الباليستى الإيراني الذي يخالف قرار مجلس الأمن 2231 ويمثل تهديدا للاستقرار والامن في المنطقة. ونوهت بان تلك الإجراءات لا تعيد عقوبات تم رفعها بموجب الاتفاق النووي وبالتالي لا تمثل انتهاكا له، مؤكدة أن فرنسا مثل شركائها الأوروبيين تذكر بضرورة اتساق القيود الجديدة مع إطار الاتفاق والا تشمل بنودا تسبب ضررا للشركات التي تُمارس أنشطة تجارية مشروعة في إيران.

وفي يناير من العام 2021، صرح وزير الخارجية الفرنسي، ان إيران بصدد بناء قدراتها في مجال الأسلحة النووية، ومن المهم أن تعود طهران وواشنطن إلى اتفاق نووي عام 2015. وقد سرعت إيران من انتهاكاتها للاتفاق النووي، وان إيران اظهرت خطط تخصيب اليورانيوم إلى 20٪ من القوة الانشطارية في محطتها النووية تحت الأرض فوردو. وهذا هو المستوى الذي حققته طهران قبل إبرام الاتفاق مع القوى العالمية لاحتواء طموحاتها النووية المتنازع عليها. واضاف “يجب ان يتوقف ذلك لان إيران و”اقول ذلك بوضوح” في طور الحصول على قدرات نووية”. ومع ذلك، قال لودريان إنه حتى لو عاد الجانبان إلى الاتفاق، فلن يكون ذلك كافيا. وقال لودريان “ستكون هناك حاجة إلى مناقشات صعبة حول انتشار الصواريخ الباليستية وزعزعة استقرار إيران لجيرانها في المنطقة”. مضيفا انه يراقب هذا التطور الايراني في برنامجها النووي ” بقلق بالغ” وان انتاج اليورانيوم عالي التخصيب يمثل خطوة هامة في انتاج سلاح نووي.. وقال” نعرب عن قلقنا إزاء الأنباء التي تفيد بأن إيران تخطط لتركيب 1000 جهاز طرد مركزي إضافي في محطة ناتانز النووية، مما سيزيد بشكل كبير من قدرة إيران على التخصيب”.

الموقف الفرنسي من تطبيق الية فض الخلاف مع إيران

صرحت إيران على إثر الخلافات التي نشبت بينها وبين اوروبا فيما يتعلق بتعزيز انشطتها النووية بأن آلية فضّ الخلاف التي لوح بتفعيلها الثلاثي الأوروبي (فرنسا وبريطانيا والمانيا) بعد تصعيدات إيران المتكررة لن يتم تفعيلها على الأرجح. وفي هذا السياق أكدت فرنسا على لسان الرئيس ماكرون أن العالم لن يقف مُتفرِّجاً إزاء التهور النووي الإيراني، وأن هناك حاجة إلى اتفاق يتضمن زوايا جديدة، على رأسها البرنامج الصاروخي الإيراني. بينما كان الموقف أوضح على الجانب البريطاني؛ إذ دعا رئيس الوزراء البريطاني السابق، بوريس جونسون، إلى تبني اتفاق ترمب بدلًا عن الاتفاق النووي، ليضم، إلى جانب الملف النووي، كلا من البرنامج الصاروخي، والتوسُّع الإقليمي الإيراني. وفي ظل هذا التصعيد، أعلن الثلاثي الأوروبي في بيان أنه يقوم بتفعيل آلية فض الخلاف التي ينص عليها الاتفاق النووي في حال تنصَّل أحد الجانبين عن التزاماته؛ وذلك ردًّا على الخطوة الإيرانية التصعيدية الأخيرة، ليكون الملف الإيراني على بعد خطوة واحدة من العودة إلى مجلس الأمن، والوقوع تحت البند السابع، وعودة العقوبات الأممية وهو الامر الذي لم يحدث بالطبع.

وتجدر الإشارة الى ان الاتفاق النووي سينتهي في أكتوبر من العام المقبل 2025 ومن ثم تخرج إيران تماما من طائلة الوقوع تحت الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة. ولم يتم التحرك قيد انملة منذ اعلان الولايات المتحدة خروجها من خطة العمل الشاملة المشتركة والمعروفة بالاتفاق النووي. وان تطورات حرب أوكرانيا ومن بعد حرب غزة ثم حرب لبنان أوقفت الحديث عن المفاوضات التي تعثرت ما بين أطراف الاتفاق وإيران علما ان المفاوضات التي كانت تجرى في العواصم الأوروبية لم تكن الولايات المتحدة حاضرة فيها بشكل مباشر. وان التطورات الجارية تحاول فيها إسرائيل ان تنقل تعاملها مع الملف النووي الإيراني من حالة الاستهداف غير المباشر غبر استهداف القدرات البشرية والبني التحتية الفنية واستنزاف الجانب الإيراني الى سيناريو المواجهة الماشرة وهو ما قد يقلب الملف برمته رأسا على عقب.

دروس مستفادة

من خلال استعراض المواقف الفرنسية المختلفة من البرنامج النووي الايراني نجد انه يمر بمنحنيات صعود وهبوط وما بين حالة من التشدد تجاه إيران، وحالات اخرى من المرونة (وهو ما يمكن تطبيقه أيضا على مواقف الدول الأوروبية وحتى الولايات المتحدة). الا ان الخط المشترك بين نقاط الصعود والهبوط يتسم بما يلي:

  • رفض لتطوير البرنامج النووي الايراني على الصعيد الاستراتيجي وهو ما يمكن تطبيقه على مواقف الدول الغربية والولايات المتحدة الامريكية.
  • ان الرفض لا يعني الاجهاز التام على المشروع النووي الايراني، ولكن وضع سقف لهذا المشروع من خلال توقيع اتفاق او برتوكول كما حدث في 2015، وذلك يمكن قراءته قبل 7 أكتوبر، اما بعد 7 أكتوبر فان المواقف قد تغيرت والنظرة التكتيكية والاستراتيجية للبرنامج النووي الإيراني سوف يتم التعامل معه على أسس مغايرة.
  • ان فرنسا عبر تاريخها الفرانكوفوني تعمل جاهدة على محاولة التحرك بقدر من الاستقلالية وبزهو يرجع الا انها القوة النووية الوحيدة في الاتحاد الاوروبي وايضا القوة الوحيدة التي لها مقعد دائم بمجلس الامن. الا ان طموحاتها غالبا ما تصطدم بالسقف الذي تضعه لها الولايات المتحدة في التحرك على الساحة الدولية، وان باق الدول الغربية متماهية مع السياسات الامريكية دون التظاهر بغير ذلك.

ان الرؤية السياسية الفرنسية قبل 7 أكتوبر تجاه إيران ذات ابعاد متعددة. فلقد جاء الخوميني من باريس الى طهران. وتستضيف باريس مؤتمر سنوي للمعارضة الإيرانية بقيادة مريم رجوي. ولكنها ايضا تسعى الى الاستفادة من السوق الايراني التي تراه واعدا. وفي ظل رؤية امريكية تعمل على التقرب أكثر تجاه المعسكر الانجلو- ساكسوني البروتستانتي. وعليه فان فرنسا تحاول ان تبحث عن مصالحها الذاتية. فترفض الطموحات النووية الايرانية. وفي نفس الوقت تريد ان تتعامل مع إيران اقتصاديا على نحو أكبر.

ان فرنسا (كانت) تدعم الاتفاق والمفاوضات مع الجانب الايراني. وان تشددها سواء قبل 2015 او قبل أكتوبر 2023. يرجع الى:

  • البحث عن هوامش مستقلة في الحركة عن الولايات المتحدة وهي خاصية فرنسية منذ فترة طويلة ولكنها لم تنجح في تحقيقها.
  • رفضها الاستراتيجي لتطور إيران النووي.

اما فيما يتعلق بإيران، فمن الواضح ان تدرك ابعاد السياسة الفرنسية تماما، وتدرك اسباب ترددها. وغالبا ما تتوجه اليها بالقيام بدورها في الحفاظ على الاتفاق النووي ودفع الولايات المتحدة الى العودة الى المفاوضات والى الاتفاق، ولكن بعد التطورات الجارية في المنطقة لا يمكن لإيران ان تراهن على مواقف سابقة في الدبلوماسية الفرنسية تجاها حيث بات الامر مرتبط بتوجهات إسرائيل والولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

وختاما، ,وانطلاقا من دروس التاريخ القريب، فانه قبل 7 أكتوبر كان الملف النووي الإيراني يخضع لمفاوضات ومساومات ما بين استخدام ملف نووي إيراني لتطويع المنطقة امنيا بشكل او باخر او استخدامه كوسيلة لتسويق السلاح الغربي وعمل صفقات بيع كبيرة او لفتح أسواق إيران امام الشركات الغربية، وهو ما استفادت منه أيضا إيران في محاولة المضي قدما لتطوير هذا البرنامج نسبيا. بعد 7 أكتوبر وتغير شكل الخريطة الجيو استراتيجية ونقل المواجهة الى إسرائيل وإيران، ومعارضة إسرائيل للعودة الى اتفاق 2015 او عقد اتفاق جديد مع إيران بشأن برنامجها النووي، ومحاولة جر إيران الى مواجهة عسكرية تحاول تجنبها إيران كما صرح بذلك وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي. فان الدول الأوروبية وعلى راسها فرنسا لم تعد لديها رؤية واضحة تجاه البرنامج النووي الإيراني الا بعد ان يتم تحديده من جانب إسرائيل والولايات المتحدة، وان دروس السابق قد لا يمكن تطبيقها على القادم من الأيام الا بتغير النظام الإيراني او موت المرشد الأعلى او مفاوضات سرية بين الولايات المتحدة وإيران شريطة ان يتم هذا بعد ضربات إسرائيل لإيران والتي لا يوجد مناص منها. وان الدول الغربية ومنها فرنسا قد تختلف على المستوى التكتيكي، ولكنها تتفق في السياسات العامة على المستوى الاستراتيجي خاصة فيما يتعلق بالتوجهات نحو ملفات الشرق الأوسط.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى