الرئيسيةرأي

د. راندة فخر الدين تكتب.. الخصومة الشريفة حلم لا يجب أن يبقى حلماً

أحلم باليوم الذي تسود فيه “الخصومة الشريفة” ثقافتنا، على كل المستويات: السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية. خصومة لا تنبع من كراهية، بل من احترام للاختلاف، واستعداد للحوار، ورغبة صادقة في الوصول إلى الحقيقة، لا الانتصار الزائف.
الخصومة الشريفة في السياسة: احترام الاختلاف لا شيطنته
في السياسة، من الطبيعي أن يختلف الناس في آرائهم وتوجهاتهم. بل إن الاختلاف علامة على حيوية المجتمعات وتنوع أفكارها. لكن المشكلة تبدأ عندما يتحول هذا الاختلاف إلى عداوة، وتتحول السياسة إلى ساحة للصراع الشخصي، بدل أن تكون مجالًا للحوار وخدمة الصالح العام.
اليوم، نرى كثيرًا من المؤيدين والمعارضين لا يقبلون مجرد وجود الرأي الآخر. فالمؤيد للحكومة يرى المعارض خائنًا للوطن، والمعارض يرى المؤيد عبدًا للسلطة، وكلا الطرفين يهاجم الآخر بألفاظ جارحة، دون نقاش حقيقي أو محاولة لفهم وجهة النظر المقابلة.
الأسوأ من ذلك أن كل طرف يحاول التأثير على المواطن العادي – الذي قد لا يكون لديه وقت أو قدرة للبحث والتحليل – عن طريق تقديم معلومات غير مكتملة أو مشوهة. فيتم إخفاء بعض الحقائق أو المبالغة في عرضها، لإقناعه بموقف معين، دون أي شعور بالمسؤولية أو احترام لحق هذا المواطن في أن يعرف الصورة كاملة كي يكوِّن رأيًا حقيقيًا، لا رأيًا تم صناعته له.
في الخصومة السياسية الشريفة، لا مانع من أن تختلف، بل من الضروري أن تختلف، ولكن:
•يجب أن تحترم من يختلف معك.
•أن تناقش الأفكار لا الأشخاص.
•أن تقدم معلومات صحيحة، لا تستخدم الأكاذيب لكسب التأييد.
•أن تعتبر الوطن أكبر من أي طرف، وأن الحقيقة أهم من الانتصار الزائف.
فالمعارض الشريف لا يعارض من أجل الهدم، والمؤيد الشريف لا يبرر كل شيء دون نقد. كلاهما حريص على المصلحة العامة، ويؤمن بأن الاختلاف في الرأي لا يعني الخيانة، بل قد يكون وسيلة للوصول إلى الأفضل.
الخصومة الشريفة في المجتمع: من الخلاف إلى الاحترام
أما على الصعيد الاجتماعي، فكم من علاقة زوجية تتحول عند فشلها إلى معركة لا تبقي ولا تذر! يُنسى فيها كل ما كان من مودة ورحمة، ويُختزل الطرف الآخر في صورة العدو. يُستخدم الأبناء أحياناً كأدوات ضغط، ويُطوّقهم صراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل. لا يُراعى أثر ذلك على توازنهم النفسي ونموهم العاطفي، وكأن الكبار قد نسوا أن الانفصال لا يعني إنهاء الاحترام أو تقويض الشراكة في تربية الأبناء.
الخصومة الشريفة هنا تعني أن نضع مصلحة الأبناء فوق الأنا المجروحة، وأن نُقدّر العِشرة الماضية، وأن نحافظ على الاحترام حتى لو انتهت العلاقة، لأن العلاقة الأهم لم تنتهِ: العلاقة المشتركة مع الأبناء ومسؤولية تنشئتهم.
الخصومة الشريفة في الاقتصاد: الأمانة قبل الربح
وفي الجانب الاقتصادي، تغيب الأمانة في كثير من المعاملات، ويعلو صوت الجشع على صوت الضمير. يغيب الحرص على حقوق المستهلك، ويُقدَّم الربح السريع على المصداقية والجودة. لا يُراعى حال المواطن البسيط الذي يئن تحت وطأة الأسعار دون أن يجد من يراعي ظروفه أو يوفر له ما يستحق من خدمات وسلع بعدالة وإنصاف.
الخصومة الشريفة في الاقتصاد تعني أن ننافس بشرف، وأن نبيع بأمانة، وأن نربح دون أن نُتاجر بحاجات الناس أو نُرهقهم بما لا طاقة لهم به. فالسوق لا يصح أن يكون غابة، بل يجب أن يكون ساحة يتعايش فيها التاجر والمستهلك على أساس من الثقة والعدالة.
الختام: كيف نصنع واقعًا أفضل؟
إن الخصومة الشريفة لا تعني التنازل عن المواقف أو طمس الخلافات، بل تعني احترام الآخر مهما اختلفنا معه، والاحتكام للعقل لا للانفعال، والبحث عن الحقيقة لا الانتصار الشخصي. تعني أن نُعلي من شأن القيم والحقائق، لا من شأن الشعارات والتخوين.
نحن بحاجة ماسة إلى أن نُعيد تعريف ثقافتنا في الخلاف. أن نعلم أبناءنا أن الاختلاف لا يُفسد للود قضية، وأن العدل والاحترام والصدق يجب أن يكونوا حاضرين حتى في لحظات النزاع.
ذلك اليوم الذي نحلم به لن يأتي من تلقاء نفسه. علينا أن نصنعه بأنفسنا، في بيوتنا، في مؤسساتنا، في إعلامنا، في أسواقنا، وفي ساحات حوارنا. أن نكون قدوة في خصومتنا كما نطمح أن نكون قدوة في اتفاقنا.
لعلنا بذلك نبدأ الخطوة الأولى نحو مجتمع أكثر نضجًا، إنسانيًا وأخلاقيًا
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب
اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى