لا يختلف اثنان في أن للحرب الروسية الأوكرانية آثار وخيمة على الاقتصاد العالمي، حتى أنه يمكن القول أن هذه الحرب عطلت مسيرة هذا الاقتصاد وأنهكته وكبدته خسائر مالية مهولة تقدر بملايير الدولارات، وهو ما أدى إلى زيادات صاروخية في كل السلع والمواد الغذائية ومصادر الطاقة وخاصة منها المواد البيتروكيماوية.
وقبل هذه الحرب كان كوفيد 19 قد فعل هو الآخر فعله في الاقتصاد العالمي، وتسبب في أزمات اقتصادية ضربت معظم الدول في العالم منها أزمة التضخم المالي وأزمة مصادر الطاقة وأزمة سلاسل الإنتاج وسلاسل الإمدادات العالمية.
ركود اقتصادي
نشطت الحرب الروسية الأوكرانية حركية مراكز الأبحاث والدراسات الإنتجاية خاصة منها تلك التي تشتغل على الجانب الاقتصادي والمالي، وأكدت أكثر من دراسة بأن الاقتصاد العالمي سيعاني في السنة الجارية (2023) من ركود غير مسبوق سيضرب كبريات الأسواق المالية العالمية بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، التي تسببت في ارتفاع تكاليف الاقتراض وبالتالي ارتفاع حاد في نسبة التضخم المالي.
وفي هذا الصدد قالت دراسة لمركز أبحاث الاقتصاد والأعمال البريطاني”CEBR”، “من المحتمل أن يواجه الاقتصاد العالمي ركودا هذه السنة نتيجة لارتفاع أسعار الفائدة استجابة لارتفاع التضخم”، مشيرة إلى أن حجم الاقتصاد العالمي تجاوز 100 تريليون دولار للمرة الأولى خلال السنة المنصرمة (2022)، لكن النمو سيتوقف خلال السنة المقبلة (2023) مع استمرار صانعي السياسات المالية في معركتهم ضد معدلات التضخم المرتفعة.
وأضافت الدراسة أن “المعركة ضد التضخم لم تنته بعد، متوقعة أن يلتزم محافظو البنوك المركزية بأسلحتهم خلال السنة الجارية على الرغم من التكاليف الاقتصادية المرتفعة.
وإلى جانب هذا الركود الذي يلوح في الأفق ونحن في منتصف العام 2023، فإن القضية الاقتصادية الأخرى التي تشغل بال الجميع هي تفاقم التضخم الذي من غير المرجح أن يتراجع في أي وقت قريب، فبينما يتخذ المسؤولون خطوات لتخفيف حدة التضخم، لا يزال الاتحاد الأوروبي يحاول تجاوز جروح السنة الماضية، فقد شهدت ألمانيا معدلات تضخم تصل إلى 7.9% في السنة الماضية، وهي أعلى نسبة سجلت في هذا البلد منذ أزيد من سبعون عاما.
أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية فإن الوضع يتجه لما هو أسوأ، فعلى الرغم من الأدلة على أن التخفيف من الأسعار المرتفعة ممكن، لا يزال التضخم يحقق أعلى مستويات له.
وكان صندوق النقد الدولي قد حذر في أكتوبر/تشرين الأول من السنة الماضية أن أزيد من ثلث الاقتصاد العالمي سيواجه انكماشا السنة المقبلة (2023) وأن هناك فرصة بنسبة 25% أن ينمو الناتج القومي الإجمالي العالمي بأقل من 2% وهو ما يعني ركودا عالميا.
تكلفة المعيشة
يرى محللون اقتصاديون أن تكلفة المعيشة تتجه نحو ارتفاع قياسي وغير مسبوق، مشيرين إلى أن أزيد من 90% من المشاركين في استطلاعات للرأي أجرتها مؤسسات متخصصة يؤكدون أن الأسعار في بلدانهم ستستمر في الارتفاع بوتيرة أسرع من الدخل المالي للمواطنين.
وذكروا أن مثل هذه الصدمات تزايدت منذ بداية القرن مع الأزمة المالية خلال سنة 2008 بالإضافة إلى أزمة الديون السيادية ووباء كوفيد – 19 وأزمة الطاقة، مشددين على أن العالم “لم يشهد وضعا بهذا القدر من التعقيد منذ الحرب العالمية الثانية”.
وعلى الرغم من الاحتياطات والإجراءات المتخذة من قبل الحكومات، وعلى الرغم كذلك من التدخلات القوية للبنوك المركزية الكبرى حول العالم كبنك الاحتياط الفدرالي الأمريكي، والبنك المركزي الأوروبي، إلا أن تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية قد أدت إلى إحداث ارتفاع غير متوقع في نسبة التضخم من جهة وارتفاع كبير في أسعار المواد خاصة منها المواد الأكثر استهلاكا من قبل المواطنين مثل المواد الغذائية (الخضر والفواكه واللحوم والأسماك والألبان ومشتقاتها) والنفط والغاز ومواد البناء ومواد التنظيف وغيرها من المواد.
ومما لا شك فيه فإن الأكثر تضررا من هذا الوضع الاقتصادي المتأزم هما طرفي النزاع أنفسهما روسيا وأوكرانية وبالخصوص الاقتصاد الروسي، الذي من المتوقع، حسب خبراء في مجال المال والأعمال، أن يتضرر ماليا وتجاريا نتيجة العقوبات الواسعة التي فرضتها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وبريطانيا وكوريا الجنوبية، وأستراليا، واليابان، ونيوزيلندا وكندا ويرى البعض أن الاقتصاد الروسي سينمو بمعدلات سلبية قد تبلغ (-8%)، في حين يذهب آخرون للتأكيد على فقدان الناتج القومي الروسي خلال السنة الجارية ما مقدراه 25% من قيمته مقارنة بالسنة الماضية، بالإضافة إلى أن ملايين الروس سيعانون من سوء الأوضاع الاقتصادية، وسيزداد الأمر سوءا مع إطالة أمد الحرب واستمرار فرض العقوبات الغربية، ولا تقتصر الصورة المتشائمة للاقتصاد الروسي على آراء الخبراء والمحللين، فقط، بل توقع البنك المركزي الروسي الكثير من الأضرار كذلك، وتبقى النقطة الوحيدة المضيئة في الاقتصاد الروسي هي الموازنة الروسية، التي ستكون في وضع أفضل بسبب ارتفاع إيرادات بيع النفط والغاز عقب ارتفاع أسعارهما.
وبخصوص أوكرانيا يرى خبراء الاقتصاد أن هناك مخاوف كبيرة من عدم قدرة أوكرانيا على الالتزام بسداد ديونها الخارجية، إلا أنها في هذا الجانب تحظى بدعم واسع من قبل الدول الغربية والمؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والذي سيجعلها لا تطالب بالديون المستحقة خاصة في هذه الظروف، من جهة أخرى، هناك تكلفة إعادة إعمار أوكرانيا، التي بدأ الحديث في سينوريوهاتها وقدر بعض الخبراء هذه التكلفة مبدئيا بما لا يقل عن 100 مليار دولار.
استنتاجات وتوقعات
ويستنتج مما سبق أن الاقتصاد العالمي سينحو منحى سلبيا ما دامت الحرب الروسية الأوكرانية مستمرة، وأن العالم سيعرف تحولات عميقة على المستوى الجيواستراتيجي وعلى مستوى العلاقات بين دول الجنوب ودول الشمال.
وفي هذا الإطار، تتوقع الدراسة التابعة لمركز أبحاث الاقتصاد والأعمال البريطاني”CEBR”، أنه بحلول العام 2037، سيكون الناتج المحلي الإجمالي العالمي قد تضاعف حيث تلحق الاقتصادات النامية بالاقتصادات الأكثر ثراء، وسيشهد تحول ميزان القوى أن تمثل منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ أكثر من ثلث الناتج العالمي بحلول العام نفسه، بينما تقل حصة أوروبا إلى أقل من الخمس.
ومن الدول التي من المرجح أن تلتحق بكبريات الدول المتقدمة، الصين التي وعلى الرغم من تأثر اقتصادها من هذه الحرب على اعتبار أنها تعد أكبر مستورد لموارد الطاقة من غاز ونفط، بسبب الارتفاع الكبير لأسعارها، إلا أن وارداتها من موارد الطاقة الروسية لم تتأثر، كما لم تتأثر علاقتها الضخمة الاقتصادية والاستثمارية مع الغرب.
وقد يجعل ذلك الصين أحد أكبر المستفيدين من الحرب الروسية الأوكرانية، خاصة مع زيادة ثقة الدول الإفريقية والآسيوية في استقرارها وأمنها وقوتها الاقتصادية، كما أن الدول العربية تنظر لها كشريك مهم في القطاع المالي وكوجهة مضمونة للاستثمار في باقي المجالات.
وليست الصين وحدها من سيخرج مستفيدا من هذه الحرب، بل سينضاف لها الدول المصدرة للطاقة، ودول أخرى غير بعيدة عن بلاد ماو، مثل اليابان وأندونيسيا وماليزيا وتايوان والتايلاند وفيتنام وكوريا الجنوبية، والفلبين.
وفي هذا الإطار أكد التقرير الأخير للبنك الدولي إنه من المتوقع أن يتسارع معدل النمو في البلدان النامية في جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ خلال العام 2023، مشيرا إلى أن معظم بلدان المنطقة قد سجلت نموا أعلى وأكثر استقرارا وأمانا على مدى عقدين من الزمن مقارنة باقتصادات المناطق الأخرى، وهو ما أسفر عن تراجع لافت للنظر في معدلات الفقر والبطالة، وبالمقابل إحراز تقدم ملموس في العمل والإنتاج وعلى مستوى نصيب الفرد من الدخل القومي.