الجدة نونو

في ركنٍ صغير من البيت، كانت “نونو” تصنع الشاي كما تفعل منذ دهر.
بخار الفناجين يصعد ببطء، كأنه دعاء صامت لا يُقال.
الحفيدة تجلس قُبالتها، دفتر المصاريف مفتوح…..الأرقام تتناقص….. والنَفَس يضيق…
. قالت الحفيدة وهي تحاول أن توفّق بين احتياجات البيت والدخل المحدود.
- يا رب المصروف يكفي الشهر ده… الحياة بقت صعبة أوي.”
ابتسمت الجدة بحكمة وقالت:
– دبّري عيشتك يا بنتي… التدبير نص المعيشة. الرزق أوسع مما بنحسب.
تنهدت الحفيدة:
– كان زمان أحسن يا تيتة، الدنيا كان فيها براح. دلوقتي المصروف ما بيكفّيش غير أول أسبوع. جوزي بيشتغل شغلانتين وتالتة، ومش بشوفه حتى.
– استحملي يا بنتي… ربنا كريم.
– ونِعم بالله.
– وأنا هأساعدك من المعاش، ما تشيليش هم.
– مش عاوزة أتقل عليكي يا ماما نونو…
في تلك الليلة، وبينما الكل نائم، همست الحفيدة لنفسها:
“إزاي أفرّح نونو في عيد ميلادها؟”
قررت أن تهديها شيئًا خاصًا. كونها مُدرّسة رسم في أكاديمية فنية، استغلت حصص البورتريه لترسم وجه “ماما نونو”، مستخدمة خامات بسيطة وفّرتها من بقايا الدروس.
في أيام قليلة من العمل الهادئ الدؤوب كانت ترسم. كل لمسة فرشاة كانت محمّلة بالحب والامتنان.
وجاء يوم عيد الميلاد.
خبزت الجدة كعكة إسفنجية بسيطة، وقررت أن تحتفل بها مع حفيدتها وزوجها. جلست الأسرة حول الطاولة، وعلى وجه “ماما نونو” بسمة لا تعرف للزمن طريقًا.
فجأة، قدّمت الحفيدة اللوحة – بورتريه دافئ، فيه ملامح الجدة وعبق الذكريات. كل خط في البورتريه كان يعبر عن حكاية، وكل لون يعبرعن ذكرى.
دمعت عينا “ماما نونو”، واحتضنت حفيدتها قائلة:
– إنتِ عوض ربنا ليا…
بعد لحظة، دخلت غرفتها، وعادت تحمل ظرفًا كبيرًا وصندوقًا خشبيًا صغيرًا، مزينا شًا بنقوش يدويّة قديمة.
– خدي الظرف ده… فيه شوية فلوس هيساعدوكم.
ثم مدّت الصندوق وقالت:
– المجوهرات دي لِك… حطيهم في البنك، ما تبيعيشهمش إلا لو حصل الشديد القوي.
ترددت الحفيدة، لكن الجدة أصرّت:
– الفرحة اللي في وشوشكم أغلى من أي دهب.
وفي نهاية اليوم، وهم يودّعونها، قالت الحفيدة:
– مش هنسى فضلك يا ماما نونو…
وفي اليوم التالي، وقع زلزال مفاجئ.
تهدّم الحي، وفي صمت، غابت نونو عن الوجوه.
حين وصلهم الخبر، انفطر قلب الحفيدة.
بكت كثيرًا… في صمت. ولكن حضورها ظل ينبض في كل زاوية من زوايا البيت.
ودفنت معها سنوات من الحنان، والحكمة، والدفء.
أودعت المجوهرات في البنك كما أوصت جدتها، احتفظت بالصندوق الخشبي القديم، الذي يحمل رائحة الزمن ودفء الأيادي التي صنعته، وكأنه كنز مرئي يحرس قصة عائلة.”
كانت تمسكه من حين لآخر، تشمّه، تتحسّس نقشاته، وتبكي…
وهمسها لا ينقطع:
– وحشتيني يا ماما نونو.
هبة مسعود
23/5/2025