
في زمن تعاني فيه الأمة العربية من شروخ عميقة، وصراعات عبثية، وأحلام وحدوية تتآكل تحت وطأة التدخلات الأجنبية والانقسامات المحلية، يخرج علينا البعض فجأة مطالبًا بنقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى عاصمة عربية أخرى، ومُثيرًا لفكرة كسر “العرف” التاريخي الذي جرى على أن يكون أمينها العام مصريًا. وكأن المشكلة في الأمة هي عنوان المقر، لا عمق الانقسام… وكأن مصر، التي دفعت الغالي والنفيس من أجل بقاء هذا الكيان العربي، باتت عبئًا لا قلبًا نابضًا له!
مصر أصل العروبة لا تابعة لها، فمنذ السيدة هاجر المصرية، والدة النبي إسماعيل عليه السلام، التي منها تفرّعت أصول العرب المستعربة، ومصر تسكن وجدان الهوية العربية لا كمُلحَق، بل كأصل. فهي الرحم الأول الذي خرج منه النبض العربي، قبل أن تكون هناك دول وحدود ورايات.
ومَن يقرأ التاريخ جيدًا يعرف أن مصر لم تنتظر دعوة من أحد لتكون في صدارة العرب، فهي التي تبنّت فكرة القومية العربية قبل أن تُصبح شعارًا سياسيًا، وهي التي آوت قادة العرب، واحتضنت النكبات، وساندت الأشقاء، ودفعت الثمن سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا من أجل قضايا لا تخصها جغرافيًا، لكنها تخصها وجدانيًا.
من مصر بدأت اللغة والمشروع والقضية، في عهود ما قبل النفط، كانت القاهرة لا بغداد ولا دمشق ولا بيروت هي من تُطبع فيها الصحف وتُرسل للمشرق والمغرب، وهي من تُذاع منها الإذاعات ويتلقاها العرب كمنبر ناطق باسمهم.
ألم تكن أول قمة عربية تنعقد بدعوة من مصر؟ ألم يكن أول احتضان لفلسطين في القاهرة؟ ألم تكن أول مواجهة حقيقية للمشروع الصهيوني والمخططات الغربية تنطلق من قادة مصر؟
مصر لم تكن مقرًا لجامعة، بل جامعة لقيم الأمة وضميرها الحي.
مصر دفعت الثمن بدمها ومالها وسمعتها، وقدمت مصر أكثر من 120 ألف شهيد في حروبها من أجل فلسطين وحدها، خسرت اقتصادها في معارك الدفاع عن العرب من العدوان الثلاثي حتى حرب أكتوبر، احتضنت كل القضايا القومية، من استقلال الجزائر إلى دعم الثورة اليمنية إلى حماية لبنان، فقدت استقرارها مرارًا بسبب مواقفها القومية، ولم تتاجر بها يومًا.
فهل من العدل الآن أن يُكافأ هذا الدور التاريخي بمحاولة تهميشه أو مزاحمته باسم “المداورة”؟
من يريد مقر الجامعة فليأخذ دور مصر كذلك ويدفع الأثمان الباهظة التي دفعتها من أمنها وإستقرارها ودماء اولادها، الجامعة العربية ليست مجرد مبنى، بل تجسيد رمزي للتاريخ والمواقف والتضحيات، من يطالب بنقل المقر، فليتحمل مثلما تحملت مصر، ملايين اللاجئين العرب، ووساطات سياسية استنزفت من رصيدها الخارجي، واستثمارات خاسرة دعمت بها صمود الأشقاء.
هل تستطيع أي دولة عربية تحمل هذا الدور؟ هل يستطيع مقر جديد احتضان ذات القيم، أو أمين جديد حمل ذات الثقل؟
” قراءة في الطرح المصري المحتمل حتي لو علي مستوي التكهنات او التسريبات.. لماذا مدبولي؟”
من المثير أن يُطرح قبل أوانه اسم الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء المصري، كمرشح محتمل للأمانة العامة للجامعة، رغم أن العادة جرت على اختيار شخصية من وزارة الخارجية المصرية.
لكن يبدو أن مصر أرادت إرسال رسالة مبكرة وحاسمة:
“إذا أردتم مفاضلة بين الأسماء وفقًا للمنصب السياسي والرمزية والوزن الرسمي، فإن لدينا الورقة الأعلى”.
مدبولي ليس وزيرًا حاليًا، بل رئيس الحكومة المصرية منذ عام 2018، أي أكثر من 7 سنوات في منصب سيادي.
في بعض الدول العربية، لا يوجد رئيس حكومة أصلاً (مثل السعودية)، أو تكون مناصبهم أقل في الترتيب البروتوكولي، او رئيس الوزراء هو ذاته ولي العهد او ابن الملك.
لذا، فإن طرح اسم مدبولي قد لا يكون نية ترشيح فعلي، بل رسالة ضغط مبكرة ورسالة حماية للموقع المصري وللكيان العربي ككل، تقول ضمنيًا: “إن كان لابد من تغيير، فنحن من نحدده بشروطنا”.
“الجامعة في القاهرة.. ولن تخرج منها”
هل يمكن فعليًا نقل الجامعة من القاهرة؟ الجواب باختصار: مستحيل سياسيًا وجيوسياسيًا، وإليك الأسباب،الميثاق التأسيسي ينص على أن المقر الدائم هو القاهرة، وتغيير ذلك يتطلب إجماع الدول الأعضاء، كما أن مصر هي الدولة الوحيدة المؤهلة لاحتضان هذا الكيان رمزيًا وسياسيًا وتاريخيًا.
أي دولة بديلة ستكون مثار خلافات أكثر، وربما يتحول الأمر إلى انقسامات جديدة.
ومقر الجامعة في القاهرة هو ضمانة توازن داخل النظام الإقليمي العربي، ونقله سيكون كارثة تفكك ما تبقى.
نداء لحكامنا وقادتنا العرب، ابحثوا عن التوافق لا الخلاف،يا عرب، كفانا العبث بالمقدسات الرمزية للأمة.
يا من تطالبون بتغيير المقر والأمين، اسألوا أنفسكم:
هل وحدتكم أقوى من انقساماتكم؟
هل أعداؤكم أقل نفوذًا من أصدقائكم؟
هل تحتاج الأمة إلى منازعات جديدة أم مصالحة تاريخية شاملة؟
“إنقاذ العرب لن يأتي بنقل المقرات، بل بتجديد النيات، ووحدة الأهداف، وإعلاء المصالح الجماعية فوق النزاعات الصغرى.”
“مصر باقية وإن لم يبقوا”، وهي التي صمدت حين غاب العرب، واحتضنت حين لفظهم الآخرون، ودافعت حين خذلتهم السياسات.
“من القاهرة نُقشت أول حروف الحلم العربي، ومن القاهرة سيستمر النبض، شاء من شاء وأبى من أبى.
أما الجامعة، فتبقى في بيتها، لا كضيفة، بل كسيدة الدار.”