اجتماعيةالرئيسيةدراسات

الاستعلاء الثقافي وتأثيره على الثقافة العربية في الدول الأفريقية الفرنكوفونية: قراءة في ضوء نظرية ما بعد الكولونيالية (جيبوتي نموذجا)

دراسة للباحث: محمد إبراهيم

المقدمة:

تشهد الدول الأفريقية الفرنكوفونية صراعا ثقافيا مستمرا، حيث لا تزال آثار الاستعمار الفرنسي تعيد تشكيل الهويات المحلية وتجذر الفجوة بين الثقافتين العربية والفرنسية. وتعد جيبوتي نموذجا يعكس هذه الإشكالية، إذ يظهر فيها التهميش الثقافي واللغوي الذي طال الثقافة العربية مقابل هيمنة الثقافة الفرنسية. ويترافق هذا التحدي مع استمرار النزاعات القبلية والعصبية، مما يعمق الانقسامات ويعزز الصراعات الاجتماعية.

ويهدف هذا المقال إلى استعراض مظاهر الاستعلاء الثقافي الفرنسي وتأثيره على الثقافة العربية، مع التركيز على العلاقة بين العربفونيين والفرنكوفونيين، في ضوء نظرية ما بعد الكولونيالية، لفهم جذور التهميش واستمراريته بعد الاستقلال السياسي للدول.

القبلية والعصبية: من الانتماءات التقليدية إلى الصرعات الثقافية واللغوية

القبلية والعصبية ظاهرتان متجذرتان في العديد من المجتمعات الأفريقية، حيث تلعبان دورا كبيرا في تشكيل العلاقات الاجتماعية والسياسية. ومع ذلك، فإن تأثيرهما لا يقتصر على الانتماء القبلي فقط، بل يمتد ليشمل الانتماءات اللغوية والثقافية. وفي الدول الأفريقية الفرنكوفونية، تبرز العصبية اللغوية بين اللغتين الفرنسية والعربية كمظهر من مظاهر هذا الصراع، الذي تعود جذوره إلى الاستعمار والصراعات الثقافية التي ولدها.

ارتبطت القبلية والعصبية في المجتمعات الأفريقية بالعلاقات الأسرية والجغرافية، بينما تطورت العصبية لتأخذ أشكالا متعددة تشمل الانتماء الثقافي واللغوي. ومع دخول الاستعمار، أصبحت القبلية والعصبية أدوات سياسية تستخدمها القوى الاستعمارية -على أساس مبدأ فرق تسد- لتقسيم المجتمعات وتعزيز سيطرتها. وبعد الاستقلال، استمرت هذه الأنماط في المجتمعات الأفريقية، لكن الصراع تحول في بعض الأحيان من القبلية التقليدية إلى العصبية اللغوية بين الفرنكوفون والعربفون.

جيبوتي، كبقية الدول الأفريقية، تعاني من ظاهرة القبلية التي تسللت إلى جميع مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية، بما في ذلك الوزارات والمؤسسات الحكومية. أصبحت القبلية جزءا من النظام الإداري للدولة، حيث يلاحظ أن كل وزير جديد يسعى إلى استبدال المسؤولين والمدراء بأفراد من قبيلته أو من دائرة أقاربه ومعارفه. ولكن ظاهرة التعصب لا تتوقف عند القبلية بل تطغى حيث تصل إلى صراع العربفون والفرنكوفون.

وهذا الصراع يظهر في السياسات اللغوية والتعليمية، حيث يتم تهميش اللغة العربية لصالح الفرنسية، مما يعزز الفجوة بين الطبقات الاجتماعية والثقافية. وأصبحت اللغة الفرنسية رمزا للسلطة السياسية، بينما تعتبر اللغة العربية لغة المهمشين أو الأقل حظا. ويستخدم الانتماء اللغوي والثقافي أحيانا كأداة لتمييز طبقات اجتماعية أو لتهميش مجموعات معينة.

وتعاني الدول الأفريقية الفرنكوفونية من إرث ثقافي استعماري ترك آثارا عميقة على الهوية والثقافة المحلية. وفي إطار هذا السياق، تواجه الثقافة العربية تحديات متزايدة نتيجة الاستعلاء الثقافي المرتبط بالهيمنة الفرانكوفونية. وهذا الاستعلاء لم يقتصر على المجالات السياسية والاقتصادية، بل امتد ليؤثر على البنى الاجتماعية والهوية الثقافية، مما جعل الثقافة العربية تبدو “أقل شأنا” أو “بدائية” مقارنة بالثقافة الفرنسية التي ينظر إليها كمعيار للتحضر والحداثة.

وتعد الدول الأفريقية الفرنكوفونية من المناطق التي شهدت تداخلات ثقافية معقدة نتيجة للإرث الاستعماري الفرنسي. وقد أثر هذا الإرث في تشكيل الهوية الثقافية لهذه الدول، حيث جرى تهميش بعض الثقافات واللغات المحلية لصالح اللغة الفرنسية والقيم الثقافية الأوروبية. ومن بين هذه الثقافات التي عانت من التهميش والنظرة الدونية، نجد الثقافة العربية، التي ارتبطت تاريخيا بالإسلام والحضارة الإسلامية في أفريقيا.

تعكس العلاقة بين المثقف العربفوني والفرنكوفوني في جيبوتي حالة من التوتر الثقافي والاجتماعي، حيث ينظر إلى المثقف العربفوني بنظرة دونية مليئة بالسخرية والتهكم. وهذا التوتر يعكس آثار الاستعمار الثقافي الفرنسي والتحديات التي يواجهها العربفوني في مجتمع يسوده صراع الهويات بدءا من التناحرات العشائرية والقبلية وحتى الوصول إلى صراع بين حاملي ثقافة العربية والفرنسية. في هذا المقال، سنسلط الضوء على هذه العلاقة المعقدة في ضوء نظرية ما بعد الكولونيالية، وسنبحث في جذور السخرية ودلالاتها الاجتماعية والثقافية.

نظرية ما بعد الكولونيالية: إطار لفهم الهيمنة الثقافية

ويعتمد هذا المقال على نظرية ما بعد الكولونيالية لفهم وتحليل هذه الظاهرة، حيث تسلط النظرية الضوء على العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، وتفسر استمرار أنماط التهميش الثقافي واللغوي في المجتمعات التي نالت استقلالها السياسي ولكنها ما زالت تعاني من هيمنة ثقافية.

وعلى الرغم من استخدام مقاربات ما بعد الكولونيالية لتحليل الواقع الاجتماعي والثقافي، يرى العديد من الباحثين أن تأثير الاستعمار لا يزال حاضرا بشكل عميق، ويتجلى في سلوك حاملي ثقافته الذين يتبنون نظرة استعلائية تجاه أنفسهم ونظرة دونية تجاه الآخرين. وهذا الامتداد للإرث الاستعماري لا يقتصر على الممارسات المادية فقط، بل يمتد أيضا إلى الخطاب الثقافي والرمزي، مما يعزز الهيمنة الثقافية ويعيد إنتاج أنماط التفوق والتبعية في المجتمعات ما بعد الاستعمارية.

الثقافة العربية في أفريقيا ليست وليدة استعمار بل ارتبطت ارتباطا وثيقا بالإسلام، الذي وصل إلى القارة عبر القرن أفريقي وشمال أفريقيا والطرق التجارية. إلا أن الاستعمار الفرنسي كان ينظر إلى الإسلام والثقافة العربية كتهديد مباشر لمشروعه الثقافي. ولذا حاولت الإدارة الفرنسية الحد من تأثير المؤسسات الإسلامية التقليدية، مثل الكتاتيب والمدارس القرآنية، التي كانت تدرس باللغة العربية. وكما جرى تصوير الإسلام في الأدبيات الاستعمارية كدين معاد للحداثة والتطور، مما ساهم في بناء صورة سلبية عن الثقافة العربية.

الاستعمار عامة والاستعمار الفرنسي خاصة في جيبوتي لم يكن مجرد احتلال جغرافي، بل كان مشروعا ثقافيا هدف إلى طمس الهوية العربية الإسلامية وتعزيز الثقافة الفرنسية كلغة وحضارة. وبعد الاستقلال، بقيت الفرنسية واللغات الأوروبية رمزا للحداثة والتقدم، بينما اعتبرت الثقافة العربية تقليدية ومتخلفة. وحتى اللغات المحلية كالعفرية والصومالية التي كانت تستخدم الحروف العربية للكتابة انتقلت للحروف اللاتينية.

عندما استعمرت فرنسا العديد من الدول الأفريقية، كانت تهدف إلى فرض ثقافتها ولغتها باعتبارها معيارا للتقدم والحداثة. ومن خلال نظامها التعليمي، عملت على تقليص دور اللغات والثقافات المحلية، بما في ذلك اللغة العربية التي كانت تلعب دورا رئيسيا في التعليم التقليدي والديني.

في جيبوتي، التي تعد دولة عربية وعضوة في جامعة الدول العربية، ينص الدستور على أن اللغة العربية واللغة الفرنسية هما لغتان رسميتان للدولة، ولكن ذلك على الورق فقط. فاللغة الفرنسية هي لغة النخبة والتعليم الرسمي، بينما تهمش اللغة العربية وتختزل إلى لغة الدين. ولا يعين مثقفو اللغة العربية إلا في منصب وزير الأوقاف، وهذا التهميش يجعل اللغة العربية تبدو غير قادرة على مواكبة العصر أو التعبير عن قضايا الحداثة، كما ينظر إلى الثقافة العربية على أنها بدوية ورجعية مقارنة بالثقافة الفرنسية، التي ترتبط بالحداثة والرقي.

والسخرية من المثقف العربفوني -كاتهامه بالبخل أو قلة الإدراك- ليست مجرد تعبير عن اختلاف الثقافات، بل هي انعكاس لهيمنة ثقافية ترى في الفرانكوفونية معيارا للتحضر وفي الآخر معيارا للتخلف. وفمن وجهة نظر إدوارد سعيد، يعمل الاستشراق في خدمة السيطرة الغربية على الشرق وذلك من خلال خطاب يعيد إنتاج الشرق في صورة “الآخر” الدوني والأقل شأنا ولعل هذا الأمر هو ما شكل محور ونواة اهتمام سعيد في دراسته للاستشراق” Orientalism”، فما يهمه في هذا الأخير هو “الخطاب”، ونظام الخطاب هنا قرين “نظام الهيمنة.

فبرزت خلال فترة الاستعمار النخبة الأفريقية التي تبنت القيم والثقافة الفرنسية وسعت إلى التماهي معها، وفقا لفرانز فانون في كتابه بشرة سوداء، أقنعة بيضاء، “1952 Peau noire, masques blanc”، فإن النخب المستعمَرة غالبا ما تتبنى ثقافة المستعمِر كوسيلة لإثبات مكانتها الاجتماعية والسياسية. وكما أكد فانون في الكتاب نفسه على أن الشعوب المستعمَرة بأنهم ليسوا مجرد أشخاص تم استغلال عملهم، وإنما أشخاص “نشأت في روحهم عقدة نقص بسبب موت أصالتها الثقافية والمحلية.

وتقدم نظرية ما بعد الكولونيالية إطارا لفهم استمرارية الهيمنة الثقافية بعد الاستقلال، ويشير هومي بابا إلى مفهوم “التهجين الثقافي” “hybridity”، حيث تتداخل الثقافات المستعمَرة والمستعمِرة بشكل معقد، مما يؤدي إلى شعور بالدونية تجاه الثقافة الأصلية، أي عندما يشجع الخطاب الكولونيالي الذات المستعمَر على أن يقلد المستعمِر، بتبني عادات المستعمِر الثقافية وافتراضاته ومؤسساته وقيمه، فالنتيجة لن تكون أبدا إعادة إنتاج بسيطة لهذه السمات. بل ستكون النتيجة “نسخة باهتة” من المستعمِر يمكن أن تكون مهددة إلى حد ما.

امتدت النزعة المركزية الأوروبية، المعروفة بمصطلح “Eurocentrism”، لتعبر عن رؤية نفسية وفكرية تستند إلى الاعتقاد بأن الغرب يمثل العقلانية والحضارة، في حين ينظر إلى الآخرين كرمز للخرافة والتخلف. وفقا لهذه الرؤية، يصبح الغرب المركز المهيمن بينما يتم تصنيف الآخرين كأطراف تابعة. وعلى الرغم من انتهاء الحقبة الاستعمارية رسميا، إلا أن هذه المركزية لم تتلاشى، بل ورثها الغرب لحاملي ثقافته الذين استمروا في إعادة إنتاج هذا التصور، مما ساهم في ترسيخ الأنماط الفكرية القائمة على الهيمنة والتفوق في المجتمعات ما بعد الاستعمارية.

الأسس الفكرية والمنهجية لنظرية ما بعد الكولونيالية:

تشكل القطيعة مع التنوير جزءا من نقد الاستعلاء الثقافي الفرنسي الذي يعكس مركزيته في الفكر المعاصر، حيث أدى التنوير الغربي إلى تعزيز الاستعمار والمركزية الأوروبية التي نظرت إلى الشعوب الأخرى ككيانات متخلفة. وفي هذا السياق، يمكن استيعاب ثنائية الشرق والغرب من خلال رصد العلاقات التفاعلية بينهما، حيث تعايش الغرب مع الشرق في بعض الأحيان على أساس من التسامح، ولكن في أحيان أخرى، كانت العلاقات تتسم بالعدوان والصراع الحضاري. ومن هنا، يأتي تفكيك الخطاب الاستعماري كوسيلة لفضح هياكل الهيمنة والتمييز العرقي والطبقي التي يعززها الاستعمار الفرنسي في مستعمراته السابقة.

علاقة الأنا بالآخر، كما يراها سارتر، تبرز في هذا السياق، حيث إن وجود الغير أو الآخر ضروري لوجود الأنا وتحديد هويته. في هذا الإطار، يصبح الآخر جزءا لا يتجزأ من هوية الذات، وهو ما يبرز عند النظر إلى النظرة الاستعلائية الغربية تجاه الشعوب غير الأوروبية. مواجهة سياسة الغرب تتمثل في محاربة سياسات التغريب والاستعلاء التي فرضها الغرب على الشرق، حيث سعى الغرب إلى فرض ثقافته بشكل متفوق على الثقافات الأخرى.

الدفاع عن الهوية الإسلامية والوطنية أصبح ضرورة في مواجهة هذه الهيمنة الغربية، حيث يعبر عن رفض الاندماج في الحضارة الغربية والدعوة إلى الحفاظ على الثقافة الوطنية الأصيلة. هذا الشعور بالغربة يعكسه المثقفون في المنفى الذين يعيشون في المدن الميتروبوليتانية، حيث ينتقدون واقع بلدانهم الأصلية وفي نفس الوقت يرفضون التهميش الذي يفرضه المركز الغربي. وأخيرا، التعددية الثقافية تشكل ردا مباشرا على التمركز الثقافي الفرنسي، حيث دافع العديد من المثقفين عن تعدد الثقافات ورفضوا فكرة الثقافة الواحدة التي سعى الغرب إلى فرضها على العالم.

الخاتمة:

لمواجهة هذا الإرث الاستعماري، يجب تعزيز الحوار الثقافي وبناء جسور التواصل التي تحترم التنوع الثقافي واللغوي. كما أن العمل على تعزيز الهوية الوطنية المشتركة بعيدا عن الانقسامات القبلية واللغوية يعد خطوة أساسية لتحقيق مجتمع أكثر تماسكا واستقلالا عن الهيمنة الثقافية الموروثة.

كما يجب العمل على تعزيز التفاهم بين المجموعتين من خلال نشر الوعي بأن لكل ثقافة قيما وعادات تستحق الاحترام. وينبغي تنظيم أنشطة مجتمعية تجمع المثقفين من كلا الثقافتين، مما قد يساهم في تقليل الفجوة وتعزيز التعاون، بالإضافة إلى تصحيح الصور النمطية المرتبطة بالمثقف العربي. وكما يجب التركيز على الهوية الوطنية المشتركة التي توحد الجميع تحت مظلة واحدة.

 

 

★★★ الكاتب هو محمد إبراهيم محمد “منصور” باحث دكتوراة جيبوتي مقيم في لندن، درس في جامعة القاهرة في جمهورية مصر العربية، وكان يعمل في اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري قسم الإذاعات الموجهة لمدة خمس عشرة سنة، وله العديد من الكتابات المتخصصة في الشأن الأفريقي.

 

مصادر للبحث:

  1. إدوارد سعيد، الاستشراق.
  2. فرانز فانون، بشرة سوداء، أقنعة بيضاء.
  3. هومي بابا، موقع الثقافة.
  4. 4. محمد إبراهيم، تربية المواطنة في المجتمعات الأفريقية بين القبيلة والدولة.
  5. جميل حمداوي،نظرية ما بعد الاستعمار الأطروحة في خدمة علم الاستغراب. مجلة الاستغراب.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى