د. محمد جبريل العرفي يكتب.. التفاهة إحدى وسائل التغييب للتحكم في العقول

في رمضان تتكدس الأعمال الفنية، وينشط صناع المحتوى، مما دفعنا إلى الحديث عن استراتيجية الإلهاء ووسائل التغييب، وهي الأدوات والأساليب المستخدمة لصرف انتباه الأفراد أو المجتمعات عن الواقع، لتشكيل وعي زائف أو محدود، يمنعهم من إدراك الحقائق أو التأثير في مجريات الأحداث، فمن وسائل التغييب، الإعلام والتوجيه الدعائي، والتفسير المغلوط للدين كنشر الخرافات والبدع والغيبيات، ونشر المخدرات والكحول، وجعل الناس منشغلين بتأمين لقمة العيش بدلًا من التفكير في التغيير، وإثارة الفتن والانقسامات، وخلق عدو وهمي وصراع مصطنع.
اقرأ أيضا: الانقسام والحلول الأممية في ليبيا
كل هذه الوسائل تعمل بشكل متكامل لصناعة (مجتمع مُغَيَّب)، حيث يُمنع الأفراد من إدراك واقعهم أو البحث عن حلول لمشكلاتهم، ما يسهل السيطرة عليهم.
التفاهة إحدى أدوات التغييب، وهي وباء العصر الحديث، وظاهرة منتشرة نتيجة لتطور وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي تؤثر في حياتنا بشكل سلبي، بالانشغال بالمحتوى السطحي غير الهادف، والضحالة في التفكير والانحراف في السلوك، وغياب الجدية والعمق والوعي، والميل إلى السطحية والاستهتار بالقيم الفكرية والثقافية، والتركيز على الأمور التافهة التي لا تضيف قيمة حقيقية للفرد أو المجتمع، على حساب القضايا الجوهرية والمفيدة، وقد أشار الفيلسوف الكندي (ألان دونو) في كتابه نظام التفاهة إلى أن المجتمعات الحديثة أصبحت تخضع لحكم التافهين، حيث تسود الرداءة، ويتم إقصاء التفكير النقدي والعقلاني، ومن مظاهر التفاهة، تراجع الأعمال الفكرية والفنية العميقة، وانتشار الأعمال الفنية والثقافية والترفيهية السطحية والتجارية، وتضيع الوقت والجهد بمتابعة أخبار المشاهير، وممارسة أنشطة تافهة، وتعزيز المحتوى السريع والسخيف، والأخبار التافهة والمثيرة للجدل، والاعتماد على الإثارة والتشويق الرخيص، بدلًا من التركيز على القضايا المهمة التي تهم المجتمع.
تراجع جودة التعليم وعدم تعزيز التفكير النقدي أسهم في تقبل الجماهير للمحتوى التافه، كما أن تسلل الأشخاص التافهين غير الأكفاء إلى مواقع صنع القرار، أدى إلى تدهور الأداء الوظيفي والمؤسسي، جل من في المشهد عندنا من هذه الشريحة.
من تأثيرات التفاهة على المجتمع إضعاف التفكير النقدي، وتراجع القدرة على التحليل والتفكير العميق، وتشويه القيم الثقافية بإحلال القيم السطحية محل القيم الفكرية والأخلاقية، وانحراف الذوق العام بنشر الذوق الرديء في الفنون والموسيقى والإعلام، وتسطيح الوعي، وانتشار السلبية والتشاؤم، وتدهور القيم الأخلاقية والإنسانية.
حدد المفكر الأمريكي التحرري (نعوم تشومسكي) 10 استراتيجيات تُعرف باسم “استراتيجيات التلاعب بالعقول”، منها 7 تتعلق بالتفاهة وهي: إغراق الناس بفيض من المعلومات غير المهمة والترفيه المفرطة لإبعادهم عن القضايا الجوهرية، مثل بناء الاقتصاد وممارسة السياسة ومحاربة الفساد، شعار هذه الاستراتيجية: “حافظ على تشتُّت اهتمامات العامة، بعيدًا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، واجعل هذه الاهتمامات موجهة نحو مواضيع ليست ذات أهمية حقيقيَّة، اجعل الشعب منشغلًا، منشغلًا، منشغلًا، دون أن يكون له أي وقت للتفكير، وحتى يعود للحظيرة مع بقيَّة الحيوانات”.
والثانية مخاطبة الشعب كمجموعة أطفال صغار: باستخدام خطاب عاطفي وتبسيطي، يقترب من مستوى التخلُّف الذهني ما يمنع التفكير النقدي ويعزز الطاعة، واستخدام العاطفة بدلًا من التفكير المنطقي، لأن العواطف تُضعف القدرة على التفكير العقلاني، وتعطل التَّحليل المنطقي، كما أنَّ استعمال المفردات العاطفيَّة يسمح بالمرور إلى اللاوعي حتَّى يتمَّ زرعه بأفكار، ورغبات، ومخاوف، ونزعات، وسلوكيَّات. والثالثة إبقاء الشَّعب في حالة جهل وغباء بتقليل جودة التعليم ونشر الجهل، حتى يصبح الشعب غير قادر على تحليل الواقع واتخاذ قرارات واعية، وإضعاف الهوية الوطنية بتشجيع تبعية ثقافية تقلل من وعي الشعوب بتاريخها وقضاياها.
والرابعة تشجيع الناس على الإعجاب بالرداءة، ونشر ثقافة التفاهة، بتمجيد أبطال زائفين وشخصيات غير مؤثرة وإغراق المجتمعات في محتوى تافه، لإبعاد الناس عن النماذج الفكرية والثقافية القوية، والخامسة التلاعب بالمعلومات بحجبها وتزييف الحقائق، أو التركيز على مواضيع سطحية لإلهاء الجماهير،
والسادسة التلاعب بالنتائج العلمية أو قمع الأبحاث التي قد تكشف حقائق غير مرغوبة،
والسابعة الإدمان الرقمي المتمثل في إدمان الهواتف والتطبيقات الذي يؤدي إلى عزلة ذهنية وانخفاض التفكير النقدي.
أهم أخطار التفاهة أنها همَّشت المرجعية الأبوية أو السياسية أو الدينية، فاتخذ الشباب جهازًا في الكف مرجعية لهم، بدلًا عن الجد الحكيم أو القدوة السياسية أو الدينية، رغم أن التفاهة أصبحت أشبه بالعبودية الطوعية التي ينساق إليها الإنسان بأحد سبيلين: إما مكرهًا وإما مخدوعًا، فالتفاهة ليست قدرًا محتومًا، بل هي خيار يمكننا تغييره، فمن خلال الوعي والتفكير النقدي والانتقائية يمكننا مقاومة التفاهة وبناء مجتمعات أكثر وعيًا وتقدمًا.
يمكن مواجهة التفاهة بتعزيز الوعي الثقافي من خلال الاطلاع على مصادر المعرفة العميقة، وتشجيع المحتوى الهادف بدعم الإنتاجات الإعلامية والفكرية ذات القيمة الحقيقية، وتحسين جودة التعليم، والتركيز على تنمية التفكير النقدي وتعزيز القيم الثقافية في المدارس والجامعات، فكلما ارتقى وعي الأفراد، زادت قدرتهم على مقاومة الرداءة والبحث عن المعرفة الحقيقية، ويجب أن نكون واعين بخطورة التفاهة وآثارها السلبية على حياتنا ومجتمعاتنا، وأن نتعلم كيف نفكر بشكل نقدي، ونحلل الأمور بعمق، ولا ننجرف وراء التفاهات، ويجب أن نكون انتقائيين في اختيار ما نشاهده ونقرؤه ونتابعه، وأن نختار المحتوى الهادف والمفيد، وأن نركز على القضايا المهمة التي تهم مجتمعاتنا، وأن نسعى إلى إيجاد حلول لها، وننشر الوعي بخطورة التفاهة، وأن نشجع الآخرين على مقاومتها.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب