تواجه الدولة الإثيوبية في الوقت الراهن أزمات وصراعات متعددة الأبعاد والاتجاهات وذات سمات سياسية واقتصادية وأمنية وجغرافية واجتماعية عديدة عقب رفض أقليم التيجراى قرار رئيس الوزراء الحالى أبى أحمد تأجيل الانتخابات البرلمانية بزريعة الحفاظ على أرواح الشعب الاثيوبى أثر أنتشار فيروس كورونا حول العالم وأعلان أبى أحمد استخدام القوة ضد اقليم التيجراى أو الجبهة الشعبية لتحرير تيجراى وقيام جيش الدفاع الوطنى الاثيوبى بعملية عسكرية نوعية داخل الاقليم مما أثار مجموعة من التساؤلات حول الاسباب التى دفعت أبى احمد للاعتماد على الخيار العسكرى وحده دون غيره وما يعكسه هذا التحرك العسكرى على القوميات الاخرى داخل الدولة الفيدرالية العرقية والاثنيىة بامتياز والتى تمثل الفيدرالية فيها إحدى الطرق لمعالجة الملفات الشائكة الخاصة بقضايا العدالة والحقوق العرقية إلا أن الفيدرالية في التجربة الإثيوبية قد باتت دافعًا رئيسيأ لزعزعة الاستقرار الداخلي بحسب الحزب الحاكم .
لذلك تأتي موجة الأزمات والصراعات في الداخل الإثيوبي كنتيجة طبيعية للتحديات التي تراكمت طوال العقود الماضية في ظل فشل الحكومات الإثيوبية المتعاقبة في إيجاد سبل لمعالجتها للحيلولة دون تفاقمها , أضافة ألى الازمات العابرة للحدود للحكومة الاثيوبية مثل مشروع سد النهضة الذى يعتبره أبى احمد مسألة وجودية وما يمثله من أزمة خارجية قائمة مع دول المصب مصر والسودان ناهيك عن العلاقة بين الدولة الاثيوبية ومحيطها الافريقى المفعم بالمشاكل البينية من الاساس .
وتتمثل أبرز تلك الأزمات والصراعات على الساحة الإثيوبية في الداخل والخارج على النحو التالى :
- مشاكل داخلية .. الحرب فى أقليم التيجراى
- مشاكل خارجية .. دول الجوار وسد النهضة
- مشاكل اقتصادية .. تضخم وتدهور للسيولة
أولأ : أسباب داخلية
تفاقم الأزمة بين آبى أحمد والجبهة الشعبية لتحرير التيجراي
1- أتهامات بالفساد للنظام الحاكم السابق
منذ وصول آبي أحمد للسلطة فى أبريل من العام 2018 اتهم النظام السابق بالفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، كما أقال شخصيات بارزة في الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي من الحكومة الاتحادية، واشتكى قادة الحركة من استهدافهم دون وجه حق بحجة الإجراءات القانونية التى تستهدف الفساد وأقالتهم من المناصب العليا واستخدامهم “ككبش فداء” في المشكلات التي تواجه البلاد. تبع ذلك انفصال جبهة تحرير شعب تيجراى عن الائتلاف الحاكم فى أثيوبيا .
2- محاولة العودة بالبلاد إلى المركزية كبديل عن الفيدرالية
رفض قادة الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي الانضمام إلى حزب ( الازدهار ) الذي أسسه رئيس الوزراء آبي أحمد نهاية 2019 بهدف دمج الأحزاب العرقية التي شكلت ائتلاف (الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية ) حيث جاء هذا الحزب كمحاولة من آبي احمد لإبعاد البلاد عن سياسات الفيدرالية العرقية والعودة الى النظام المركزى للدولة الموحدة .
3- إضعاف القدرات العسكرية لقومية التيجراي
يستحوذ مقاتلى إقليم التيجراي على جزء كبير من أسلحة وعتاد وقوات الجيش الوطني الإثيوبي. والتى تقدر بنصف قوة الجيش الإثيوبي حيث تعود قوة هذا الاقليم إلى حقبة الحرب الحدودية بين إثيوبيا واريتريا ويبدو أن العمليات العسكرية التي تنفذها القوات الاثيوبية تطبيقا لقرارات آبي أحمد وبعد إعلان حالة الطوارئ في الإقليم وتأتي في إطار محاولة كسر السيطرة التيجراية على القوات المسلحة الإثيوبية.
4 – تأجيل الانتخابات البرلمانية
أعلنت رئيسة مجلس الانتخابات الوطنية الإثيوبية ” بيرتوكان ميدكسا” تأجيل موعد الانتخابات الوطنية التي كانت مقرره في الـ 5 من يونيو القادم إلى أجل غير مسمى ولاسباب لوجيستية وأن قرار تأجيل الانتخابات الإثيوبية هو الثاني من نوعه خلال الأشهر الأخيرة، فقد كان من المقرر إجراء الانتخابات الوطنية في أغسطس 2020، الا ان حكومة “آبي أحمد” عمدت إلى تأجيل الانتخابات بذريعة أزمة كورونا للحيلولة دون خسارته في هذه الاستحقاقات نظراً لتراجع شعبيته بشكل كبير في الداخل الإثيوبي، ومن ثم حاول “آبي احمد” تأخير موعد الانتخابات لحين استيعاب الغضب الداخلي والتخلص من كافة المعارضة وضمان الهيمنة على كافة الأقاليم وفي مقدمتها التيجراي التي دخل رئيس الوزراء في حرب شاملة ضدها بلغت حد الإبادة الجماعية للقضاء على أبرز قوى داخلية تهدد أطماع “آبي أحمد” التي تستهدف الهيمنة الكاملة على الدولة الإثيوبية بالتوجه نحو تحويلها إلى دولة شديدة المركزية كبديل للنظام الفيدرالي الراهن الذي يمثل عقبة أمام أجندة أبى احمد
كذا، لم يقتصر الأمر على إقليم التيجراي، فقد اتسعت رقعة الاحتقان الداخلي إلى عدة أقاليم إثيوبية وهو ما زاد الأمور تعقيداً بالنسبة لخطة “آبي أحمد”، وباتت كافة المؤشرات ترجح أن إجراء الانتخابات في يونيو المقبل سيعني على الأغلب سقوط حكومة ” ابى احمد ” خاصةً في ظل الصراعات الإقليمية المتعددة التي انخرطت فيها الحكومة الإثيوبية خلال الفترة الماضية.
أسباب داخلية أخرى
- شكل نظام الدولة فى المستقبل :
تنقسم الساحة السياسية الإثيوبية حول شكل النظام السياسي في الدولة خلال المرحلة المقبلة، فهناك اتجاه يضم نخب أمهرة والنخب الحضرية وهي حليف قوي لآبي أحمد ودعمت وصوله للسلطة تدعوا إلى إعادة النظام المركزي في البلاد تحت شعار “اجعل إثيوبيا عظيمة مرة أخرى”، وتعتبر الفيدرالية سببًا رئيسيًا لكل المشكلات السياسية وعدم الاستقرار في البلاد، وأن الدستور الفيدرالي هو سبب تراجع مشروع بناء الأمة الإثيوبية الموحدة. وإن ضمان استمرارية إثيوبيا ووحدتها واستقرارها إنما يعتمد فى الاساس على التخلص من جبهة تحرير تيجراي وإرثها السياسي، وهو ما يبرر تورط ميلشياتها في الحرب الأخيرة على تيجراي في إطار سعيها للانتقام منها. ويهدف هذا الاتجاه إلى استعادة الاحتكار السياسي والثقافي لإثيوبيا في ضوء علاقتها القوية مع حليفها آبي أحمد. ويشكل هذا الاتجاه تهديدًا وجوديًا لإثيوبيا كونه يفرض هوية أحادية في بلد متنوع عرقيًا بشكل كبير.
في المقابل، هناك اتجاه آخر يفضل استمرار الفيدرالية ويتمسك بمنح الحكومات الإقليمية المزيد من الحكم الذاتي وتقرير المصير والاستقلال عن السلطة المركزية إذا لزم الأمر وأن استقرار ووحدة البلاد يعتمد على الالتزام بالدستور الاتحادي والنظام الفيدرالي .
الصراعات الحدودية الداخلية بين الاقاليم :
وهى صراعات تضرب كافة الأقاليم الإثيوبية وتسببت في سقوط قتلى ونزوح الآلاف من المواطنين إلى مناطق أخرى، إذ يتصاعد النزاع بين ولايتي عفار والصومال الإثيوبي على الأراضي المتنازع عليها، وهو ما دفع المجلس الانتخابي الوطني الإثيوبي لإلغاء إجراء الانتخابات في 30 مركز اقتراع بالمنطقة، وفي مناطق نزاعات أخرى مثل تيجراي وغيرها. وهناك نزاع آخر على الموارد والأراضي الزراعية بين منطقة هراري والصومال الإثيوبي، وهو ما يتسبب في اندلاع اشتباكات مسلحة بين المجموعات المسلحة من الجانبين. كما أن هناك نزاعًا تاريخيًا بين إقليمي أوروميا والإقليم الصومالي الإثيوبي على الموارد والأراضي. فيما استطاع إقليم أمهرة ضم بعض الأراضي في غرب وجنوب شرق تيجراي خلال الحرب الأخيرة، الأمر الذي قد يدفع نحو نشوب حرب جديدة بين الجانبين . كما اندلع صراع “كيميس” في منطقة أورومو الخاصة في إقليم أمهرة منذ يناير 2021، وسط اتهامات متبادلة بين جيش تحرير أورومو وميلشيات أمهرة أدت لاشتباكات عسكرية في النهاية .
- النزاعات العرقية :
تتزايد التوترات العرقية في الكثير من المناطق الإثيوبية مثل أوروميا وتيجراي والعفر والإقليم الصومالي الإثيوبي وأمهرة خاصة في مناطق الجنوب ويتورط في تلك المواجهات السكان المحليون والميلشيات المحلية وبعض القوات الخاصة التابعة للإدارات الإقليمية المحلية ، ويتم استخدام المدفعية الثقيلة في بعض تلك المواجهات مما تسبب في سقوط عشرات القتلى ونزوح الآلاف الأمر الذي يفاقم التوترات السياسية والأزمات الإنسانية في البلاد بسبب الحاجة إلى المياه والغذاء والمأوى والرعاية الصحية.
وجاء مقتل مغني الأورومو هاتشالو هونديسا الأيقونة الشعبية بين شباب قومية أورومو غى يونيو 2021 وسط موجة من الاحتجاجات التي اندلعت في الإقليم ضد سياسات النظام الحاكم ؛ لتبدأ سلسلة من أعمال العنف في مناطق متفرقة من أوروميا ودار قتال بين جبهة تحرير أورومو والقوات الحكومية الإثيوبية التي اتخذت بعض الإجراءات التعسفية مثل قتل 178 شخص، واعتقال 9000 آخرين منهم بعض قيادات أورومو بالإضافة إلى فرض حظر التجول في الإقليم وقطع شبكة الإنترنت، وطرد أكثر من 1700 مسئول حكومي من بينهم ليما ميجرسا، وزير الدفاع السابق، والذي لعب دورًا محوريًا في صعود آبي أحمد للسلطة .
- أعمال العنف :
بلغت أحداث العنف في إثيوبيا أعلى مستوياتها فى الفترة من بداية 2018 وحتى منتصف 2021 نحو 1628 حادثة ، أسفرت عن مقتل نحو 13 ألف اثيوبى في أنحاء البلاد. بالاضافة الى العديد من المناطق التي تشهد موجات من العنف مثل أوروميا وأمهرة وتيجراي والإقليم الصومالي وعفار والمناطق الجنوبية مثل ولايتا وغيرها. كما شهدت الساحة الإثيوبية تصاعدًا لعدد من الحركات المسلحة في بعض المناطق مثل جيش تحرير أورومو الذي صنفته الحكومة الفيدرالية كتنظيم إرهابي، وحركة تحرير مورو الإسلامية.
ويشن جيش تحرير أورومو هجماته في بعض المناطق كما تمكنت قواته من دخول منطقة أمهرة، ووصلت بالقرب من العاصمة أديس أبابا مما يهدد بمواجهات عسكرية مع الجيش الإثيوبي في حال تصاعدت التوترات مع الحكومة الفيدرالية. وأطلق آبي أحمد في ديسمبرمن العام الماضي عملية عسكرية جديدة تستهدف منطقة بني شنقول في غرب البلاد التي تشهد موجات عنف ، كما وجّه بنشر قوات عسكرية في منطقة ميتكيل الريفية التي شهدت مواجهات عنيفة بين جماعتي قمز وأمهرة وهو ما أدى إلى اشتعال الاشتباكات المسلحة في المنطقة خوفًا من تصعيد القوات الإثيوبية عملياتها في بني شنقول .
- العنف الديني :
يعد البعد الديني أحد أهم دوافع الصراعات في إثيوبيا التي شهدت العديد من أحداث العنف الديني خلال السنوات الأخيرة والتي طالت أنحاء متفرقة من إثيوبيا لاسيما في شرق البلاد، إذ تزايدت الهجمات ضد الكنائس والمساجد، كما برز التنافس على بناء دور العبادة والاحتفالات بالطقوس الدينية، الأمر الذي دفع الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية للدعوة لتنظيم تظاهرات واسعة النطاق في شمال البلاد في سبتمبر 2019 ردًا على تصاعد أعمال العنف الطائفي من جانب بعض الحركات المسلحة في بعض المناطق مثل أوروميا وتيجراي .
- سياسات النظام الحاكم :
تعمد هذا النظام إقصاء القوى السياسية التي تحولت إلى خصوم لآبي أحمد باستثناء حلفائه من أمهرة وحاول التخلص من بعضها مثل جبهة تحرير تيجراي، وقام باعتقال عدد من رموز المعارضة السياسية في البلاد مثل قادة أورومو، فضلًا عن التضييق على بعض الأحزاب السياسية ذات التوجه الفيدرالي مثل جبهة تحرير أورومو ومؤتمر أورومو الفيدرالي اللذين قررا عدم خوض الانتخابات الأخيرة في أوروميا، وهو ما يعزز حالة الاستقطاب في المشهد السياسي الإثيوبي.
- حق تقرير المصير :
تبقى المادة 39 من الدستور الفيدرالي الإثيوبي والتي تمنح الأقاليم والقوميات الإثيوبية الحق في الحكم الذاتي والانفصال وفق بعض الشروط مصدر تهديد للاستقرار الداخلي في البلاد الأمر الذي قد يدفع أبى احمد إلى إجراء تعديلات مستقبلًا عقب تجديد ولايته ففي الجنوب تطالب قومية ولايتا بالحكم الذاتي خاصة بعد نجاح قومية سيداما في إقامة إقليمها الذاتي ، وقد صوت مجلس ممثلي منطقة ولايتا بالإجماع لصالح الحكم الذاتي في ديسمبر 2018، إلا أن الحكومة الفيدرالية تغاضت عنه ولم يتم إحالته إلى المجلس الانتخابي الوطني، فاندلعت التظاهرات وتطورت إلى أعمال عنف مما دعا السلطات الأمنية إلى اعتقال عدد من المتظاهرين والمسئولين المحليين في المنطقة .
ومع تشكيل منطقة الجنوب الغربي وموافقة المجلس الاتحادي في سبتمبر 2020، ظهرت بعض الجماعات العرقية في الجنوب الإثيوبي مثل جامو واموتيك التي تسعى إلى إقامة حكم ذاتي وأيضأ قومية “كيمنت” وهي أقلية عرقية في غرب أمهرة والتي بدأت تعلن عن مطالبها في أواخر 2018 ألى أقامة حكم ذاتى مما أدى إلى اندلاع بعض الاشتباكات المسلحة واتهام قادة أمهرة لقادة الإثنية بتلقي الدعم من جبهة تحرير تيجراي لإثارة النزعة الانفصالية .
- تشكيل القوات شبه العسكرية والميلشيات المحلية في الأقاليم :
تعتبر تلك القوات بمثابة جيوش موازية في أثيوبيا يمكن أن تشكل تهديدًا واضحًا في حال اندلاع صراع بين الحكومة المركزية وإدارات الأقاليم المختلفة مثل أزمة تيجراي، كما تبرز بعض الحركات المسلحة في البلاد مثل جيش تحرير أورومو، وحركة تحرير مورو الإسلامية، وتنظيم شباب قيرو وتقدر أعداد تلك القوات في أوروميا بحوالي 30 ألف مقاتل وهذا يعزز زعزعة الاستقرار الداخلي في البلاد في ضوء تصاعد التوترات والصراعات بين الأقاليم الإثيوبية .
- التهميش السياسي والاقتصادي :
وهو مرتبط بمظالم الجماعات العرقية تاريخيًا في البلاد مثل أورومو، وبعض المناطق الإثيوبية على غرار الريف، في ظل محدودية الموارد وعدم الاستفادة من الاستثمارات الزراعية، وارتفاع قيمة الضرائب التي تُحصِّلها حكومة أديس أبابا، وهو ما يغذي من عدم المساواة في الفرص الاقتصادية بين الريف والحضر. يأتي ذلك وسط تراجع واضح للاقتصاد الإثيوبي لأسباب متعددة منها عدم الاستقرار السياسي والأمني في البلاد، وتفشي جائحة كورونا التي عطلت الاقتصاد الدولي وأدت لتراجع تدفق الاستثمارات الأجنبية، فقد تزايد إجمالي الدين العام الإثيوبي من 13.7 مليار دولار في عام 2011، إلى 54.7 مليار دولار في عام 2020 كما تعاني البلاد من معدلات تضخم عالية خلال الفترة الأخيرة، ونقص في النقد الأجنبي، فضلًا عن القطاعات غير النظامية والسوق السوداء التي تتعاظم أنشطتها، الأمر الذي يهدد بانهيار قدرات الاقتصاد المتراجع بطبيعة الحال.
- عسكرة المجتمعات المحلية :
فمع نشوب كل صراع يشرع النظام الحاكم في إنشاء مراكز قيادة للطوارئ في أنحاء البلاد ليتمكن من نشر القوات العسكرية على نطاق واسع جغرافيًا بهدف إخماد أية احتجاجات أو اضطرابات مستقبلية فى حين دعا ديميكي ميكونن نائب رئيس الوزراء إلى تسليح المدنيين بالتزامن مع تصاعد التوترات السياسية والحركات المسلحة وهو ما يمثل أرضًا خصبة لاندلاع حرب أهلية في البلاد
ثانيأ – أزمات خارجية
- سد النهضة الاثيوبى وتأثيره على مصر والسودان
منذ عام 2011 وألى الآن تنتهج الدولة الاثيوبية استراتيجية كسب الوقت واستنزاف الجهود المبذولة من جانب دول المصب مصر والسودان للوصول إلى حلول ترضي وتحقق أهداف الدول الثلاث فى الاستفادة بمياه نهر النيل ، حيث أعلن الرئيس السيسي منذ توليه السلطة إيمان مصر بمبدأ حق إثيوبيا في التنمية دون الإضرار بحق الشعبين المصري والسوداني في الحياة، كما قام الجانب المصرى ببذل جهود كبيرة في سبيل ضمان حقوق جميع الأطراف وقدمت مصر مبادرات على مستوى التعاون الثلاثي بين أطراف القضية اقتصاديًا وفنيًا وأمنيًا .
ووقع الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى اتفاق المبادئ في العاصمة السودانية الخرطوم في مارس 2015 والذي حقق لإثيوبيا اعترافا بالسد فى مقابل الالتزام بقواعد القانون الدولي في عملية ملء وتشغيل السد الجديد ، كما التزمت الدول الثلاث بعدم اتخاذ أي إجراءات أحادية الجانب قبل الاتفاق على الملء الأول للسد وتحويل الاتفاق الإطاري إلى اتفاق قانوني ملزم يأخذ في الاعتبار هيدرولوجية النهر في حالات الجفاف السنوي أو الجفاف الممتد ووضع آلية قانونية للاحتكام إليها عند الاختلاف بين الاطراف الثلاثة .
وعلى الجانب الاقتصادي والاجتماعي والبيئي فإن الآثارالسلبية للسد الاثيوبى على مصر من خلال الدراسات التى أُجريت تشير إلى أن نقص المياه بنحو مليار م 3 يؤدي إلى بوار 200 ألف فدان، وبالتالي فإن ملء السد والذي يتوقع أن يؤدي إلى نقص نصيب مصر بنحو 10مليارات م 3 سنويا وهو نصيب 2 مليون فدان من الأراضي الزراعية سيؤدي إلى نقص في إنتاجية المحاصيل ، وعلى سبيل المثال في إنتاجية القمح ستنخفض بنحو 2.9 مليون طن سنويا وانخفاض إنتاجية الذرة الشامية بنحو 2.3 مليون طن سنويًا، ونقص في إنتاج الأرز بنحو 1.7 مليون طن، وتقدر قيمة الخسائر في المحاصيل الحقلية والمحاصيل المعمرة بنحو 43.8 مليار جنيه كما تقدر خسائر الإنتاج الحيواني والسمكي بنحو 9.8 مليارات جنيه، وكذالك تقدر خسائر التجارة الخارجية نتيجة زيادة الواردات ونقص الصادرات بنحو 97.8 مليار جنيه ، وبهذا تقدر الخسائر المباشرة في الزراعة فقط بنحو 151 مليار جنيه سنويًا، بالإضافة إلى المشكلات البيئية نتيجة تلوث المياه ، والمشكلات الاجتماعية الناتجة عن البطالة والهجرة، بالإضافة إلى انخفاض توليد الكهرباء من السد العالي ، ورغم أن سنوات الملء يمكن تعويضها من مخزون المياه في بحيرة ناصر فإن هذا المخزون لا يستطيع الصمود لسنوات إذا لم يتم تعويضه مرة أخرى من خلال ضبط وإدارة تشغيل سد النهضة في إطار من التنسيق والتكامل مع السد العالي في مصر والسدود السودانية واعتبارات الجفاف الطبيعي السنوي والممتد.
أما على الجانب السودانى فقد أشارت الدراسات ألا انه فى حالة انهيار سد بهذا الحجم الضخم مثل سد النهضة سيؤدى إلى أضرار مدمرة للأرواح والممتلكات والزراعة في السودان , وأن تنظيم تدفق مياه النيل الأزرق سيقلل من الأراضي المروية بالفيضان بحوالي 50 % مما يؤثر على المزارعين إذا لم تتم معالجة هذا التأثير والتخفيف منه بشكل صحيح أضافة ألى تقليل كمية الطمى السنوي الذي يحمله النهر بعد السد، وهو سماد طبيعي جيد. كذالك النغييرات البيئية مثل التغيير في جودة مياه الأنهار والتغيرات الشكلية ومصايد الأسماك وغابات الفيضانات والقضايا الصحية.
ورغم تدخل أطراف عديدة على رأسها البنك الدولي والولايات المتحدة الأمريكية ثم مجلس الأمن وتحويل الملف إلى الاتحاد الإفريقي ظل التعنت والتمسك الإثيوبي لإضاعة الوقت والزج بموضوعات خارج إطار اتفاق المبادئ ومحاولة التوظيف السياسي للسد وإدخال موضوع تقاسم المياه وغيرها من الموضوعات لينتهي الأمر بالتأكيد على أن إثيوبيا لا تريد اتفاقًا قانونيًا ملزمًا وإنما تريد خطوطًا إرشادية تضعها بنفسها لإدارة وتشغيل السد ورفض آلية قانونية للتحكيم بين الأطراف عند الاختلاف ، وقد فرغت المفاوضات من كل قيم حسن النوايا وغياب الإرادة السياسية للحفاظ على الحقوق المشروعة للدول الثلاث والدفع تجاه حالة من غياب الأمن والاستقرار في الإقليم .
- دول الجوار
اشار بعض المحللين ألى أن الزيارة التى قام بها نائب رئيس مجلس السيادة السودانى محمد حمدان دقلو الى اديس ابابا مطلع العام الجارى بانها بالغة الخطورة من حيث التوقيت والاهداف . فمن جانب التوقيت تأتى هذه الزيارة بعد استقالة رئيس الوزراء السودانى السابق عبدالله حمدوك أما عن الاهداف فقد شهدت الزيارة التى لم يعلن عنها لقاءات بين دقلو وشخصيات أثيوبية حكومية رفيعة المستوى كان أبرزها مقابلة مع رئيس الوزراء الاثيوبى أبى احمد ووزير دفاعه بالاضافة الى بعض قادة جيش الدفاع الوطنى الاثيوبى بهدف عودة علاقات التسيق العسكرى بين البلدين وأعادة أنخراط أثيوبيا فى الشأن الداخلى السودانى وكذالك ما يمثله السودان من أهمية فائقة فى الازمة الاثيوبية بين الحكومة وقوات تحرير اقليم التيجراى الخاضع تحت سيطرة أمهرية الى جانب القوات الفيدرالية والتى تسعى قوات تحرير التيغراى الى السيطرة عليه بالقوة العسكرية لما يمثله الاقليم من أهمية قد تمكن قوات التيجراى من جعله ممرا أمنا مع العالم الخارجى عبر السودان وكذالك استخدامه لأدخال السلاح من الخارج الى داخل الاقليم ومن هنا تأتى الحاجة ألى تعاون عسكرى مشترك بين النظامين السودانى والاثيوبى واللذين اتهما من قبل بارتكاب تطهيرا عرقيا بحق الشعبين الاثيوبى والسودانى .
ولم يدم ذالك التنسيق الامنى طويلأ فوقت كتابة هذه الورقة البحثية أعلن المجلس السيادى السودانى اختطاف سبعة جنود سودانيين ومدنى من منطقة الفشقة المتنازع عليها بين البلدين والمحازية لاقليم أمهرا الاثيوبى واعدامهم داخل الحدود الاثيوبية مما استدعى أدانة سودانية باستدعاء السفير الاثيوبى بالخرطوم وتسليمه مذكرة أحتجاج على الحادث وأعلان عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السودانى التقدم بشكوى ضد الجانب الاثيوبى فى مجلس الامن .
- الصومال وتحدى أعادة بناء الدولة
على الرغم من نجاح مجلس النواب الصومالى فى أنتخاب حسن شيخ محمود رئيسا جديد للصومال منتصف شهر مايو الماضى ألا ان الساحة الصومالية قد شهدت تدخلات أثيوبية عديدة فى الماضى القريب تهدف الى عرقلة بناء واستكمال مؤسسات الدولة الصومالية من جديد
كانت البداية برفع الحكومة الاثيوبية مستوى التمثيل الدبلوماسى الاثيوبى فى أقليم ارض الصومال الساعى الى الانفصال من قنصل الى سفير يعد أسبوع واحد من زيارة رئيس وزراء الاقليم موسى بيهى الى اديس ابابا ,وكذالك الدعم الاثيوبى للرئيس الصومالى السابق محمد عبدالله محمد الذى امتدت ولايته ألى شهر مايو من العام الجارى رغم اتفاق معظم قطاعات السياسيين الصوماليين على انتهاء ولاية محمد عبدالله بداية العام الماضى , أضافة الى قيام جهاز المخابرات الاثيوبية باعتقال قائد شرطى كبير ( احمد ديرير ) كان يتلقى تدريبا عسكريا تركيا على الاراضى الاثيوبية فى سابقة لم تحدث من قبل . وجاءت عملية الاعتقال بعد زيارة قام بها رئيس الوزراء الاثيوبى أبى احمد وكذالك رئيس الوزراء الصومالى حسين روبلى الى ابوظبى وهذا ما فسره المحللون على أنه تدخل اثيوبى فى الشأن الصومالى لطرف على حساب الاخر وأضاف المحللون ان الفترة القادمة ستشهد المزيد من التدخلات الاثيوبية بهدف عرقلة أعادة بناء الدولة الصومالية من جديد .
ثالثأ : الازمة الاقتصادية
جاءت الخسائر المباشرة للحرب في إثيوبيا بنتائج قاسية على الاقتصاد الاثيوبى والذي كان يعد واحدأ من أسرع معدلات النمو في العالم بعدما أثارت تعهدات رئيس الوزراء آبي أحمد حماسة المستثمرين والتى دفعت الحرب العديد منهم إلى الابتعاد والقول أن إثيوبيا لا تصلح للاستثمار في الوقت الحالي والوضع السياسي في غاية الهشاشة، وهناك نقص في المعلومات وفي الوضوح في ما يتعلق بالاقتصاد والكيفية التي ستُحل بها المشاكل”.
وقد أفسدت الحرب بين الحكومة وقوات تحرير إقليم تيغراي خطط الحكومة لتحديث الاقتصاد وفتح واحد من آكبر الأسواق البكر في أفريقيا.
وقال صندوق النقد الدولي في تقرير عن توقعاته الاقتصادية العالمية إن الاقتصاد الإثيوبي في سبيله للنمو بنسبة اثنين في المئة فقط هذا العام، بعدما كان ينمو بما يفوق العشرة في المئة قبل الأزمة وجائحة كورونا .
ولم يشمل التقرير توقعات النمو للفترة من 2022 إلى 2026 استناداً إلى “درجة عالية بصورة غير عادية من الضبابية”.
ومع تفشي المجاعة بسبب الحرب في أنحاء إقليم تيغراي انخفضت قيمة العملة الإثيوبية وتجاوز التضخم السنوي 35 في المئة.
وقد دمر القتال محاصيل في أقاليم زراعية غنية منها مساحة كبيرة من الأراضي المتنازع عليها بين إقليم تيغراي وإقليم أمهرة المجاور، بينما تضررت محاصيل بسبب الجفاف والجراد.
وتقول الأمم المتحدة إن نحو 9.4 مليون فرد يحتاجون إلى مساعدات غذائية في ثلاثة أقاليم تأثرت بالحرب .
وبعيداً من القتال أضر التضخم بالفقراء في العاصمة أديس أبابا.ففي الأسواق يشتكى العامة من سعر حبوب التيف، وهو نوع من الحبوب الأساسية، الذى بلغ نحو 50 بيراً إثيوبياً للكيلوغرام بزيادة 25 في المئة على سعرها قبل عام ويمثل هذا المبلغ ثلث الدخل اليومي للمواطن البسيط الذى “ليس لديه ما يكفي من الطعام ودفع الإيجار وهذا يجعل الحياة في غاية الصعوبة”.
وكذالك أدى القتال إلى إغلاق كثير من الشركات العاملة في تيغراي. واستهدفت السلطات شركات إثيوبية يُشتبه في أنها تعمل مع “الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي” .
ويقول فرانز فان الرئيس التنفيذي لشركة “أفريكا أسيت فاينانس كومباني” ومقرها نيويورك، إن مؤسسة تابعة لشركته تتخصص في تأجير المعدات فقدت معدات زراعية قيمتها قرابة مليون دولار في الحرب.
وأظهرت وسائل تحديد الموقع أن جرارات شركة “إثيو ليس” تحركت في اتجاه الحدود مع السودان قبل فقدان الاتصال بها وإن الحكومة المركزية تولت بعد ذلك إدارة الجمعية التعاونية الزراعية التي تستأجر المعدات وتم تجميد حساباتها المصرفية وحل مجلسها وتنصيب قيادة مؤقتة ليست على دراية بنشاطها.
وأضر الصراع أيضاً بشركات خارج منطقة الحرب.فقد قالت شركة “بي. في. أتش” الأميركية للملبوسات إنها ستغلق وحدة تصنيع لها جنوبي أديس أبابا بعدما أنهت الولايات المتحدة العمل بالإعفاء الجمركي الذي تتمتع به المنتجات الإثيوبية في الأسواق الأميركية بسبب اتهامها بانتهاك حقوق الإنسان في تيغراي.
تدهور السيولة
إثيوبيا واحدة من ثلاث دول أفريقية تقدمت بطلب لإعادة هيكلة ديونها بموجب إطار العمل المشترك لمجموعة العشرين الذي يهدف لتخفيف دائم للأعباء عن الدول الفقيرة.
غير أن إعادة جدولة الدين الخارجي تسير ببطء. ولم تكشف الحكومة عن الحجم الإجمالي للديون التي قدرها البنك الدولي العام الماضي بمبلغ 28.4 مليار دولار.
ومنذ نشوب الحرب تدهور ما لدى إثيوبيا من سيولة بالنقد الأجنبي. وتوضح بيانات حكومية أن احتياطيات إثيوبيا تبلغ 2.4 مليار دولار أي ما يكفي لتغطية واردات شهرين، وهو ما يقل عن حد الثلاثة أشهر المتعارف على أنه يوفر حماية كافية.
كذلك أضرت الحرب بقدرة إثيوبيا على تدبير تمويل إضافي من أسواق المال أو من دائنين آخرين وقفز العائد على سندات أصدرتها بمليار دولار متجاوزاً 20 % في الأشهر الماضية.
خاتمة
فى حين يحاول نظام ابى احمد تأكيد انتصاره الحاسم أمام المجتمع الدولى فى أزمة أقليم التيجراى بعد أعلانه فى ديسمبر من العام الماضى وقف تقدم قوات جيش الدفاع الوطنى الاثيوبى مع الاكتفاء بالضربات الجوية المتفرقة التى خلفت خسائر بشرية كبيرة , بينما فى حقيقة الامر أن ضغط المجتمع الدولى بالعقوبات على الحكومة الاثيوبية هى من دفع الحكومة نحو نتائج ملموسة وحلول أكثر عملية لأنهاء الازمة ..
وفى المحصلة قد يكون نجاح اى مفاوضات أثيوبية أثيوبية بحاجة الى حلول بعيدة عن سلوك ابى احمد العقابى الذى يرى الازمة من منظور الحرب على الارهاب والمطالبة بنزع سلاح قوات تحرير أقليم التيجراى وأن الاقدام على تلك المرحلة دون الية مدعومة من القوى الدولية والمجتمع الدولى بضمانات ناجعة فمن الصعب أعادة دمج الاقاليم الاثيوبية سياسيأ واقتصاديأ وعسكريأ مرة أخرى , وأن هذه الخطوة ستفسح المجال أمام حوار وطنى شامل يجمع كل الاثيوبيين رغم استمرار معاناتهم جراء الصراع وسط تقديرات بوجود حوالى 9 مليون أثيوبى بحاجة الى مساعدات انسانية عاجلة حسب أحصائيات الامم المتحدة ناهيك عن ما تشهده البلاد من حالة تضخم بلغت 35 % فى فبراير من العام الجارى وهذا أعلى معدل تضخم بالبلاد منذ 13 عام ..
على المستوى الاقليمى من الممكن ان يستمر أبى احمد فى التدخل فى شئون دول الجوار بتهديد وحدة واستقلال الصومال واضطراب المرحلة الانتقالية فى السودان بدعم المكون المدنى المناهض للمكون العسكرى الذى ينفرد بالحكم منذ اكتوبر من العام الماضى بعد استقالة حمدوك أو نجاح البلدين اللذين تتقاطع مصالحهم مع أديس ابابا فى تحجيم التدخل الاثيوبى فى شئونهم وتسوية خلافاتهم الداخلية لصالح المشروع الوطنى لكل منهما , بناء الدولة فى الصومال وأدارة المرحلة الانتقالية بسلام فى السودان وهذا يقلص دور اثيوبيا الاقليمى بشكل كبير .
وأما عن سد النهضة فطبقا لمخرجات الازمة يمكن القول إن ثمة مسارات ثلاثة محتملة يمكن أن تتجه الأزمة إلى احداها:
الأول :- الاستمرار فى المفاوضات والمماطلة الاثيوبية بتقزيم الأزمة فى إطار الصراع الجيو- سياسي، وهو تصنيف يضر الشعبين المصرى والسوداني خصوصأ بعد أكتمال الملء الثانى .
الثاني :-التوقف عن المفاوضات والدخول فى صراع مفتوح مع إثيوبيا ليس بالضرورة أن يأخذ شكل الصراع العسكرى المباشر.
الثالث :- اللجوء إلى القوة الخشنة لتحريك الموقف الدولى وإجباره على التدخل باعتبار الأزمة مُهدِدَة للأمن والسلم الدوليين وليست صراعا جيو-سياسى بين دول الازمة .
وفى النهاية يمكن القول أن ما جاء على لسان رئيس الوزراء الاثيوبى أبى احمد فى الجلسة الافتتاحية لقمة الاتحاد الافريقى فى 5 فبراير 2022 بمطالبة الدول الافريقية بالتعاون للمطالبة بمقعدين دائمين وخمسة مقاعد غير دائمة للدول الأفريقية فى مجلس الامن الدولى ما هى ألا أمانى لا يمكن تحقيقها سياسيأ حتى على المدى البعيد وانما هى محاولة من رأس نظام يعيش على الازمات للهروب بالرأى العام الافريقى والدولى من الحالة الاثيوبية ألى الامام ..
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب