تقدير موقف

أفريقيا في قلب الاستراتيجية الأمريكية: المعادن الحيوية ومصالح الأمن القومي

إعداد الباحث: محمود سامح همام  باحث سياسي مصري متخصص في الشؤون الأفريقية

في صميم الرؤية الاستراتيجية للرئيس دونالد ترامب للولايات المتحدة، تتجلى ملامح عصر ذهبي جديد يتسم بتدفقات استثمارية أكبر، وزيادة الإنتاج المحلي، وخلق فرص عمل جديدة والسعي الحثيث لتحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي. الغاية النهائية من هذه الرؤية هي بناء دولة قادرة على رسم مسار خاص بها تضع فيه نفسها في المقام الأول وتتولى زمام قيادتها دون تقيّد بمصالح خارجية. ومع ذلك، فإن شعار “أميركا أولاً” كشعار حاكم يثير سلسلة من الهواجس على المستويين الاقتصادي والأمني، لا سيما عندما يتعلق الأمر بقدرة الولايات المتحدة على الوصول إلى الموارد الحيوية اللازمة لتشغيل اقتصادها وصناعاتها الدفاعية.

الوضع الإنسان

اقرأ أيضا: الكويت في أسبوع.. طفرة تشريعية لمواجهة المخدرات وضبط الدين العام والتمويل العقاري

والولايات المتحدة، رغم غناها بالموارد، تعاني من نقص واضح في بعض المعادن الأساسية التي تُعد حيوية للاقتصاد والأمن القومي الأمريكي. وقد صنّفت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية خمسين من هذه المعادن، تشمل الكوبالت والليثيوم، إضافة إلى مواد أقل شهرة مثل الديسبروسيوم والإتريوم، وتدخل هذه العناصر في عدد لا يُستهان به من القطاعات، من صناعة الطيران والدفاع إلى الرعاية الصحية والطاقة المتجددة. يُدرك ترامب تمامًا أهمية هذه المعادن في تنفيذ رؤيته للنهوض الأمريكي. ورغبته في انضمام غرينلاند إلى الولايات المتحدة كانت مدفوعة، بدرجة أكبر، بالسعي نحو الوصول إلى موارد الجزيرة المعدنية غير المستغلة أكثر من اهتمامه بانضمام 57 ألف مواطن جديد إلى البلاد. وبالمثل، فإن خطته المعلنة لإنهاء الحرب الدائرة في أوكرانيا تستند إلى اتفاق محتمل حول المعادن، يتيح للولايات المتحدة الوصول إلى احتياطيات أوكرانيا من المعادن الأساسية

أولًا: الاعتماد الخارجي وتهديد الأمن القومي الأمريكي

تكمن نقطة الضعف الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في اعتمادها الكبير على استيراد العديد من هذه المعادن الحيوية. فقد كشفت مراجعة أجرتها هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية عام 2024 أن الولايات المتحدة تعتمد اعتمادًا كليًا على الاستيراد في 12 معدنًا من أصل 50 معدنًا مصنفًا كحيوي، وتستورد أكثر من 50% من 29 معدنًا إضافيًا. وتشمل قائمة الشركاء التجاريين الأساسيين أستراليا وكندا وتشيلي، غير أن الصين تظل اللاعب الأكبر والأكثر تأثيرًا في سلسلة توريد المعادن الحيوية على الصعيد العالمي، إذ تنتج 99% من الجرافيت المستخدم في البطاريات، وأكثر من 60% من الليثيوم الكيميائي، و70% من الكوبالت المكرر، وفقًا لوكالة الطاقة الدولية. هذا الوضع يضع الولايات المتحدة في موقف بالغ الحساسية، حيث تتحكم أطراف أجنبية في قدرتها على الوصول إلى المواد الأساسية اللازمة لاستدامة اقتصادها وأمنها الدفاعي. وقد استغلت الصين هذا الوضع عندما فرضت في ديسمبر 2024 حظرًا على تصدير الغاليوم والجرمانيوم والأنتيمون إلى الولايات المتحدة، وكلها معادن تُستخدم في تطبيقات عسكرية متعددة. ولا يُعد هذا القرار معزولًا؛ إذ تشير بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن عدد القيود العالمية المفروضة على صادرات المعادن الأساسية ارتفع خمسة أضعاف بين عامي 2009 و2022.

ثانيًا: أفريقيا جنوب الصحراء: جبهة جديدة في المعركة على المعادن الحيوية

انطلاقًا من هذا الواقع، تبرز أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى كمجال حيوي يجب أن تركّز عليه الاستراتيجية الأمريكية الجديدة. فرغم امتلاك الصين لاحتياطياتها الخاصة، فإنها تعتمد كذلك على استيراد كميات ضخمة من المعادن الحيوية، وتحديدًا من أفريقيا، التي تضم نحو 30% من الاحتياطيات العالمية المؤكدة. هذا النفوذ الصيني لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة سنوات من الاستثمار المكثف في تطوير شبكة معقدة من سلاسل التوريد في إطار مبادرة الحزام والطريق. ففي جمهورية الكونغو الديمقراطية – التي تمتلك 68% من احتياطيات الكوبالت المؤكدة عالميًا – يُقال إن الشركات الصينية تسيطر على ما يصل إلى 80% من سلاسل توريد المعادن الحيوية في البلاد.

لم تدرك الولايات المتحدة أهمية هذه المنطقة إلا مؤخرًا. ففي عهد إدارة بايدن، خُصص مبلغ 4 مليارات دولار لتمويل ممر لوبيتو، وهو مشروع بنية تحتية ضخم يربط زامبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية بميناء لوبيتو على الساحل الأطلسي لأنغولا، بطول 800 ميل. يهدف المشروع إلى تمكين الولايات المتحدة وأوروبا من الوصول المباشر إلى المعادن الحيوية في المنطقة، وقد شكّل هذا المشروع محور زيارة بايدن الأولى والوحيدة إلى دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في ديسمبر 2024، عندما زار أنغولا، ليصبح أول رئيس أمريكي يزور هذا البلد الذي كان، في السابق، أحد أبرز حلفاء الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة.

ستكون مهمة إدارة ترامب الجديدة هي تحديد شكل الانخراط الأمريكي في هذه المنطقة المحورية. حتى الآن، لا توحي القرارات الأولية – مثل تجميد نشاط الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) – برغبة واضحة في تعميق الشراكات مع حكومات أفريقيا جنوب الصحراء. وقد تجلّى هذا التوجه العدائي في إعلان وزير الخارجية ماركو روبيو، أن سفير جنوب أفريقيا لدى واشنطن شخص غير مرغوب فيه، رغم أن بلاده تُعد أكبر منتج عالمي لمعادن مجموعة البلاتين.

إذا كانت نية إدارة ترامب هي الانخراط في شراكات حقيقية مع الدول المنتجة للمعادن الحيوية، فمن المرجّح أن يتم ذلك من خلال ترتيبات تجارية صِرفة. وقد دخل رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسكيدي، في محادثات حول اتفاقية “المعادن مقابل الأمن”، المستلهمة من الاتفاقية الأمريكية-الأوكرانية المقترحة. وبموجب هذا النموذج، ستوفر الولايات المتحدة دعمًا أمنيًا للحكومة الكونغولية في مواجهتها مع تمرد حركة 23 مارس في المناطق الشرقية الغنية بالمعادن، مما يمهّد الطريق أمام الشركات الأمريكية للاستثمار والعمل داخل البلاد. في المقابل، قد تُفسّر هذه الاتفاقية داخليًا كمحاولة لكسر احتكار الصين للموارد المعدنية الحيوية في البلاد. وإذا ما نجحت، فقد تكون نموذجًا أوليًا لنهج “المعادن مقابل المساعدات” الأوسع، والذي قد يؤدي إلى إعادة نظر إدارة ترامب في سياسات تمويل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.

لكن أي انخراط أمريكي في المنطقة يجب أن يأخذ في الحسبان الحاجة الماسة إلى استثمار كبير في البنية التحتية اللوجستية. يُقدّر بنك التنمية الأفريقي أن 27% فقط من طرق القارة ممهدة، في حين أن تسريع “التحول الهيكلي” في أفريقيا يتطلب استثمارًا سنويًا قدره 293 مليار دولار في قطاع النقل حتى عام 2030. ومثلما أوضح مشروع ممر لوبيتو، فإن مشاريع البنية التحتية في أفريقيا، لا سيما تلك المتعلقة بالنقل، شديدة التعقيد والتكلفة.

في المقابل، قد يُثير نهج قائم فقط على المصالح التجارية الضيقة مخاوف حقيقية لدى حكومات أفريقيا جنوب الصحراء. فقد يُشبه هذا النمط من العلاقات شكلًا من أشكال الاستعمار الجديد، ما قد يدفع هذه الحكومات إلى تجنّب التعاون مع الولايات المتحدة، وتفضيل بناء علاقات أوثق مع تكتلات مثل مجموعة البريكس، التي تضم عشر دول نامية، من بينها الصين وروسيا وجنوب أفريقيا، إلى جانب مصر، إثيوبيا، والإمارات العربية المتحدة. هذه الدول تتقاسم مع أفريقيا جنوب الصحراء نظرة سياسية وتاريخية متقاربة، كما أن تحولات النظام الدولي تمنحها نفوذًا متزايدًا في صياغة قواعد جديدة للعلاقات الاقتصادية.

ثالثًا: قيم الشراكة ومسؤوليات الهيمنة

إن إبرام اتفاقات استراتيجية مع شركاء في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى لا ينبغي أن يأتي على حساب القيم التي طالما رفعتها الولايات المتحدة في تعاملاتها الخارجية: من الحوكمة الرشيدة وحقوق الإنسان إلى دعم المجتمعات الحرة والمنفتحة. فمثلًا، قد يؤدي اتفاق “المعادن مقابل الأمن” مع جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى تعقيد الأزمة الأمنية هناك، مسببًا معاناة إنسانية ونزوحًا واسعًا في منطقة تُعد هشّة أصلًا. وفي خطابه المشترك أمام الكونغرس، أعلن ترامب عزمه على توسيع إنتاج المعادن الأساسية والأتربة النادرة داخل الولايات المتحدة. وسيستوجب ذلك تعزيز عمليات استخراج ومعالجة المعادن داخل البلاد، وربما فتح مناجم جديدة. لكن هذه الخطط تصطدم بحقيقة أن احتياطيات البلاد من هذه المعادن محدودة، وأن تطوير المناجم الجديدة قد يستغرق عقودًا.

ختامًا، إن ضمان أمن الولايات المتحدة الاقتصادي والقومي في هذا السياق يتطلب رؤية أوسع وأكثر انفتاحًا. وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ستظل محورًا لا غنى عنه في هذه الاستراتيجية. ومع ذلك، يجب أن ترتكز الشراكة على مبادئ الاحترام المتبادل، وليس على اعتبار الدول الإفريقية مجرّد أدوات ضمن لعبة كبرى. إن شعار “أميركا أولاً” لا يعني، ولا ينبغي أن يعني، “أميركا وحدها”، ولا يجب أن يتحقق على حساب القيم الأمريكية أو رفاه وأمن المجتمعات الإفريقية.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى