
كانت تركيا مثالا صارخا لازمة الهوية في فترات زمنية ليست بالقصيرة في القرن الماضي. فلقد مرت بمنحنيات صادمة في تاريخها. من دولة تعلن انها دولة الخلافة الإسلامية لدولة تعلن الخصام مع كل ما هو ذي صلة بالدين. وترفع شعار العلمانية هو الحل. غرقت تركيا في صراعات على السلطة اتسمت بموجات من الانقلابات العسكرية الا ان جاء نجم الدين اربكان الذي أسس حزب الفضيلة وخرج من عباءته العدالة والتنمية لتدخل في مرحلة جديدة كانت قد انتهت منذ الحرب العالمية الاولي. جاء الحزب بقيادة اردوغان ليعيد تركيا ذات الأصول العثمانية ذات النزعة التمددية في الفناء الخلفي المتاح حتي لو من باب سد الفراغات الاستراتيجية والتدخل في الملفات المختلفة بغية البحث عن دور لطالما تخلت عنه لعقود. ورجعت تركيا لهوية مفقودة بصبغة دينية بعد تاهت في غيبات العلمانية. فلم يعد المواطن التركي من المصنفين لاجئ بأوروبا، ونما الاقتصاد التركي بجودة المانية وانتشار صيني وتم تصفير المشكلات والتقارب مع الكرد والاعتراف بلغتهم. الا ان هذا لم يستمر طويلا، فرجع الاقتصاد الى المعاناة. ولم تستعيد تركيا هويتها المفقودة في ظلال الشعارات الدينية والعمل البرجماتي. وعاد الانقسام الى الشارع التركي لينذر مرة أخرى بعودة ازمة الهوية ولاحتمالية تأثيرها على الأداء الكلي للمجتمع التركي والانسجام الفردي بين اطيافه وهو ما تولد من نرجسية السلطة التي ما ان اصلحت حتى افسدت.
جذور عميقة
تعود أزمة هوية تركيا إلى ما قبل مئتي عام من تأسيس الجمهورية التركية. ومع إقراري بوجود إشكاليات جوهرية في الهوية المجتمعية، إلا أن الاهتمام الأساسي هو هوية الدولة المتأثرة مباشرةً بصانعي القرار.
إن فكرة نشوء الجمهورية من العدم فكرة كلاسيكية يصعب تفسيرها، ويمكن القول إنها غير دقيقة. فالجمهورية هي نتاج كادر ذكي للغاية فهم عصره بدقة، وطبق تحديثًا يعود تاريخه إلى حوالي مئتي عام. في هذا السياق، لذلك فان فكرة الجمهورية نفسها مُجبرة على وراثة جوانب عديدة من الإمبراطورية العثمانية، سواءً أكانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية، رغمًا عنها. وقد أدى هذا الالتزام إلى صراعات داخلية وما ولّدته من أزمات هوية. ما أقصده هو أن الجمهورية الفتية، رغم تشككها، اختارت الانضمام إلى النادي الغربي باعتباره الخيار الأكثر عقلانية، سعياً للتكيف مع متطلبات العصر. وقد انعكس هذا الخيار في تنظيم العلاقات بين الدين والدولة، وبين الدولة والمجتمع، وفي المجال الاقتصادي. في هذا الصدد، سعت الجمهورية المبكرة إلى التغريب سياسياً، رغم وجود أغلبية مسلمة فيها وهجينة ثقافياً. وقد أدى هذا بلا شك إلى تشكيل هوية فريدة داخل هيكل الدولة. وبصورة أدق، كان الهدف هو خلق هذه الهوية للدولة الجديدة، ولكن مع نهاية القرن، لم تُحدد تركيا بعدُ هويتها بشكل كامل خارج حدودها. لهذا الغموض أسباب داخلية وخارجية، وهاتان المجموعتان من الأسباب تُعززان بعضهما البعض.
الموقع والرصيد الاستراتيجي
في قول لنابليون: ان العالم لو دولة واحدة لكانت الاستانة عاصمة له. وفي هذا السباق لطالما مال علماء العلاقات الدولية إلى تفسير الموقع الجغرافي لتركيا على أنه رصيد استراتيجي. ولا شك أن موقع تركيا الجغرافي، ورسالتها التاريخية، وخصائصها المؤثرة تجعلها بطبيعة الحال قوة إقليمية بالدرجة الأولى، ولكنها قوة وسطى. ومع ذلك، فإن هذا الوضع يؤدي في جوهره إلى بنية متناقضة في حد ذاتها. وبعبارة أكثر بساطة، فإنها تؤوي تناقضات داخل هويتها الرسمية وتختبر آلام هذه التناقضات المتعارضة مع بعضها البعض. وبصفتها عامل فاصل أكثر منها جسرًا بين الشرق والغرب، شعرت تركيا، خلال سنوات الحرب الباردة، أحيانًا بأنها مضغوطة بين الكتلتين الغربية والشرقية. وعلى الرغم من أن وزارة الخارجية التركية قد بررت هذا الوضع واستغلته مؤسسيًا، إلا أنه غالبًا ما أدى إلى أزمات هوية داخلية داخل بنية الدولة. هل تركيا غربية؟ هل تركيا شرقية؟ هل تركيا علمانية؟ هل تركيا مسلمة؟ هل تعتمد تركيا على اقتصاد ليبرالي؟ هل تميل تركيا نحو اقتصاد تسيطر عليه الدولة؟ أسئلة كهذه، عند محاولة الإجابة عليها من خلال تحليل صحيح، من المرجح أن تسفر عن إجابات مثل “نعم ولا”. وهذا مؤشر على مدى كفاح تركيا في القرن الماضي فيما يتعلق بتعريف هويتها. وعلاوة على ذلك، يمكن القول إن حصة الحكومات الائتلافية غير المستقرة وقصيرة العمر وغير المتوافقة، والتي استمرت حتى عام 2002، لعبت أدواراً سلبية بشكل كبير في هذا الصراع الموجه نحو الهوية.
تطورات ما بعد 2002
ومع ذلك، منذ عام 2002، خضعت تركيا لحكم حزب واحد، ودخلت القرن الحادي والعشرين بقيادة هذا الحزب السياسي تحديدًا. غالبًا ما يُنظر إلى الحكومات التي يقودها حزب العدالة والتنمية، بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، على أنها حكم حزب واحد. ومع ذلك، فهي في الأساس مزيج من تحالفات مختلفة غير رسمية، مما يساهم في أزمة الهوية التركية التي استمرت قرنًا من الزمان. في البداية، في بداية رحلة أردوغان إلى السلطة، تم تشكيل التحالفات السياسية الداخلية مع الليبراليين، وأنصار الاتحاد الأوروبي، وبعض الجماعات الدينية، ولكن بمرور الوقت، تم استبدالها بتحالفات تركز على المصالح مع القوميين، والدوليتين، والجماعات الدينية الأكثر صرامة. وقد أدى ذلك إلى كل من التعددية والانحرافات في هوية الدولة. ومع ذلك، فإن عدم اليقين في تركيا بشأن هويتها في العقدين الماضيين لا يرجع فقط إلى السياسة الداخلية، فقد لعبت ديناميكيات السياسة الخارجية أيضًا دورًا مهمًا. على سبيل المثال، في عام 2007، عندما كانت تركيا قد انحرفت في معظمها نحو الغرب، اضطرت لتغيير مسارها بسبب مواقف القادة الأوروبيين. ما أعنيه هو أنه لو لم يتجاهل قادة مثل الرئيس الفرنسي الخطوات التي اتخذتها تركيا في عام 2007 وما قبله، لربما كان مسار تركيا اليوم لا يزال موجهًا نحو الغرب.
وشهدنا وضعًا مشابهًا في الصراع بين حماس وإسرائيل عندما كانت تركيا تحتفل بالذكرى المئوية لتأسيسها. فبينما كان من المتوقع أن تلعب تركيا دور لاعب غربي مؤثر في المنطقة، وجدت نفسها في موقف يُجبرها على إصدار تصريحات أقوى عندما لم يقبل الغرب دورها كوسيط. على سبيل المثال، لو لم تُطرح أخطاء تركيا الماضية مرارًا وتكرارًا، ولو قبلتها دول أخرى، وخاصة الولايات المتحدة، كوسيط، لاختلفت أمور كثيرة.
الجماعات العرقية دون الدولة
وهي جماعات لا تتمتع بدولة أو اعتراف سياسي أو ثقافي أو لغوي رسمي – ولقد لعبت دورًا هامًا في الشؤون الوطنية والدولية. بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية، شهد الشرق الأوسط ظهور عشرات الكيانات الدولية الجديدة، والتي غالبًا ما كانت تعسفية، وانقسام الأكراد إلى أربع دول: العراق، وإيران، وتركيا، وسوريا. في ذلك الوقت، بدأ الأكراد على الفور في التعبئة كجماعة عرقية متميزة، وشرعوا في قتال الدول المضيفة لهم بعد حرمانهم من حقهم في الاعتراف اللغوي والثقافي والسياسي.
أن الأكراد في تركيا لم يقبلوا أبدًا فرض هوية عرقية تركية عليهم، بل على العكس من ذلك سعوا دائمًا إلى الاعتراف الرسمي بهويتهم المنفصلة. الأهم من ذلك، أن فشل المجتمع التركي في فهم الصراع العرقي الكردي التركي وأصوله فهمًا كاملًا قد أدى إلى سوء فهم وسعي مستمر لإيجاد حل قائم على افتراضات. ونعتقد أن الصراع الكردي التركي يمكن حله إذا أُخذت مسألة الهوية الكردية والاعتراف بها كمحركٍ أساسيٍّ للصراع في الاعتبار. في الواقع، تبقى مسألة الاعتراف بالهوية في هذا الصراع أهم من القضايا الجوهرية، كالوضع الاقتصادي النسبي لمختلف الجماعات العرقية والتمثيل السياسي. فوفقًا لفرانسيس فوكوياما، يميل البشر بطبيعتهم إلى البحث ليس فقط عن الموارد المادية ولكن أيضًا عن الاعتراف بقيمتهم وكرامتهم، وهو ما يُعتبر على نطاق واسع شكلاً من أشكال المكانة. غالبًا ما تكون مثل هذه الصراعات من أجل الاعتراف أو المكانة مختلفة عن الصراعات على الموارد لأن المكانة هي “خير مكاني”، وفقًا للاقتصادي روبرت فرانك، فإن العنف عبر التاريخ لم يرتكبه فقط أولئك الذين يسعون إلى الثروة المادية ولكن أيضًا أولئك الذين يسعون إلى الاعتراف. ومع ذلك، كما يشير جاي روثمان، “غالبًا ما يصعب تحديد صراعات الهوية لأنها عادةً ما تُصوَّر بشكل خاطئ على أنها نزاعات على الموارد الملموسة”.
وأخيرا، حتى الان، ومع دخول تركيا قرنها الثاني، لم تكتشف هويتها بالكامل. ومع ذلك، لا ينبغي إغفال مسألة الهوية. الهوية جوهرية للدولة، ليس فقط من حيث تعريفها لذاتها، بل أيضًا في كيفية رؤيتها من قبل الآخرين. لا شك أن موقف تركيا من قضية قبرص، والمسلمين حول العالم، وقضايا مماثلة، بالغ الأهمية. إلا أنه يعجز عن إبراز هويتها كدولة. في هذا السياق، تُعد معالجة مسألة هوية الدولة في قرنها الثاني، من المهام الأساسية لتركيا، سواءً لمجتمعها أو لمصالحها العالمية على المديين المتوسط والطويل، معالجةً سريعةً لمسألة هوية الدولة في قرنها الثاني. ومازالت تركيا تبحث عن باب للدخول الى الغرب وتبحث عن دور إقليمي ودولي عبر الفناء الخلفي المغري لوجود فراغات استراتيجية فيه ومحاطة بحدود ملتهبة وداخل مضطرب لتنذر بالعودة الى ازمة الهوية التي ما لبثت ان غادرتها ولو على نحو نسبي.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب