رأي

أحمد شيخو  يكتب.. الحرب الداخلية لنظام الهيمنة العالمية في أوكرانيا

الكاتب سياسي وباحث كردي سوري.. خاص منصة العرب الرقمية صض

بعد سقوط أو انهيار الاتحاد السوفيتي في التسعينيات ولأسباب متعددة ومختلفة، أصبح النظام العالمي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الأولى والثانية أحادي القطب وهو مستمر إلى اليوم الحالي، وهو في الوقت نفسه يشكل امتدادا لنظام الهيمنة السلطوي والدولتي والذكوري الذي تشكل أول مرة منذ أيام السومريين من صارغون الأكادي إلى الرئيس الأمريكي الحالي بايدن، وإن تبدلت الجغرافيات وتغيرت القوى المركزية فيها بين الشرق والغرب، بسبب توفر وعي الحقيقة في الجغرافيات الجديدة التي كانت تنتقل لها نظام الهيمنة العالمي. إلا أنه ما زال يحتفظ بالأهداف نفسها وإن تبدلت الأدوات في النهب والهيمنة.

منذ حوالي ثلاثة عقود ونظام الهيمنة العالمي يعيش حالة الأزمة وتحديداً الحداثة الرأسمالية التي تمتد جذورها واصطلاحها إلى القرن السادس عشر في أوروبا، ومع حروب الثلاثين سنة التي مرت بها وتبلور الدول القومية بعدها، كوسيلة ناجعة ومحققة لأهداف الدولتية والسلطة والهيمنة والنهب وبالضد من المجتمعات والشعوب أو بالتمويه على أهدافها الحقيقة في حالة الخداع والتضليل.

إن الحرب الحالية التي تجري في أوكرانيا منذ أسبوع بين روسيا ودول حلف الناتو، هي امتداد للحروب في الشرق الأوسط والمنطقة عامة كما هي أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال وأرمينيا وأذربيجان وغيرهم، وعلاوة على أنها استمرار لحالات الأزمة في بلدان المنطقة والعالم المختلفة وحالة الإبادة وممارسات التطهير العرقي والثقافي والتغير الديموغرافي التي تمارسها تركيا بحق الشعب الكردي وتدخلها واحتلالها لبعض بلدان المنطقة وحالة التدخل الإيراني ونفوذها وأذرعها. وذلك كون نظام الهيمنة العالمي يعاني من أزمات بنيوية حادة مختلفة وفي كافة المجالات الفكرية والسلوكية ولا يستطيع الاستمرار والبقاء من دون افتعال وإشعال فتيل الحروب والأزمات وإفساح المجال لأدواتها في المنطقة والعالم بخلق الحروب وحالات الفوضى وتهيئة ظروف الإرهاب والقتل المختلفة.

إن الحرب في أوكرانيا هي حرب داخل نظام الهيمنة العالمي الواحد، وليس صحيحاً وصفها بأنها حرب بين قطبين، حيث إن روسيا الآن ليست الاتحاد السوفيتي، وحتى أمريكا ليست كما كانت قبل حوالي 30 سنة. بل نستطيع القول إنه من يعتقد أن هناك قطبين ويستطيع أن يعتمد على أحدهما في مقابل الآخر وبذلك يحقق أهدافه والاستمرار في مصالحه وسلطاته فهو واهم، وكأنه سوف ينتهي ويعاني أصعب الظروف، كون هذه القراءة ليست صحيحة وناقصة، وتجسد حالة الابتعاد عن الذات والثقة بالشعوب والمجتمعات، ولعل حالة الإدارة الأوكرانية ورئيسها زيلينسكي الآن وهي تعد أيامها بعد أن كان السبب في ما حصل لأوكرانيا كونه ظن أنه يستطيع وبالاعتماد على الناتو والمنظومة الغربية البقاء والحكم ومواجهة الطرف الروسي وفرض شروطه عليه. لكن ما حصل هو أنهم تركوه وحده يصارع الموت والانتهاء وهم يترقبون المشهد ويصفقون له وهو يدمر بلده وشعبه بسياسته وسلوكه.

إن كمية الزخم الأوروبي والغربي لدول الناتو ومن يدور في فلكه في إرسال الأسلحة والذخائر وفرض العقوبات على روسيا والتهيج الإعلامي والتجييش لا يعبر إلا عن أن الناتو وأمريكا يريدون تحويل أوكرانيا إلى بؤرة توتر ومستنقع ليتم استخدامه لتحقيق الأهداف المطلوبة، ومنها أن يبقى ويستمر النظام العالمي وربما إعادة ترتيب بعض الأدوات وإعادة تشغليها وتموضعها وإعطائها أدوارا جديدة حسب المرحلة الجديدة، وكذلك استمرار ضخ القيم والأفكار والسلوكيات أي الحداثة التي تخدم أهمية ووجود نظام القطب الواحد ومؤسساته الدولية والإقليمية التي أصبحت لا معنى لها سوى إعطاء الشرعية لنظام القطب الواحد وتسهيل أموره وسياساته.

إن الهجمات الروسية لا تملك المبررات والحق وكذلك موقف الناتو وأمريكا والاتحاد الأوروبي ليس صحيحاً من الأزمة والحرب، ولعل الأخطر هو موقف حكومة زيلينسكي التابع للغرب والذي لا يعبر بالضرورة عن إرادة الشعب الأوكراني.

إن مفهوم الاستقلال للدول القومية والسيادة غير صحيحة، فهم أدوات ومؤسسات عميلة لنظام الهيمنة العالمية، ولا يوجد دولة قومية إلا ويتم ربطها وأخذ شرعيتها ووجودها من نظام الهيمنة العالمية، وكلامها عن الاستقلال والسيادة هراء ونفاق كبير. فأين هو الاستقلال والسيادة الأوكرانية؟ ولماذا كل هذه التبعية من قبل حكومة زيلينسكي وأمثالها لنظام الهيمنة العالمية؟ والملاحظ أنه تم ترك زيلينسكي وحيداً رغم كل تعويله وارتباطه بنظام الهيمنة العالمية ودولها وقواها المركزية. ولماذا هذا التدخل والتجاوز الروسي إن كان هناك شيء اسمه السيادة للدول؟ ولعل كان من الممكن تجنب كل هذا الوضع لو كانت القيادة الأوكرانية تعتمد على مصالح شعبها دون خضوعها للأجندات الخارجية ومع اختيارها الخط الثالث بين الجهتين وليس التبعية لإحداهما إن تم تركها طبعاً من قبل روسيا والناتو.

لقد أصاب أردوغان والسلطة التركية التوتر والقلق وحتى الذعر من مصير ووضع زيلينسكي والحكومة الأوكرانية وحالة أوكرانيا التي تركت لوحدها مع بدء الحرب، ولعل أردوغان ظن ويظن نفسه التالي كونه يمشي في طريق زيلينسكي، كما أن تركيا هي الدولة الثانية التي تعاني وستعاني من أكثر تحديات الحرب في أوكرانيا نظراً للترابط والموقع الجغرافي وحالة الاقتصاد التركي وتفاعله مع روسيا وأوكرانيا علاوة على إمكانية تقليص المساحة الرمادية التي يلعب بها أردوغان بين أمريكا وتركيا في العديد من ملفات المنطقة والعالم وتدخله واحتلاله لشعوب ودول المنطقة ووجوده على البحر الأسود ووجود المضائق في تركيا.

رغم أن السلطة التركية تحاول أن تمشي مع جهتي الحرب وتعطي انطباعا ورسائل أنها في المنتصف بين الجهتين المتصارعتين، لكن من الوارد ومع ارتفاع حدة الاشتباكات والاستقطابات وفرض العقوبات والدعم اللوجستي والعسكري والأمني وتزايد التوتر في العلاقات ومحاولة استخدام كل طرف لأوراقه ضد الآخر في الحرب، أن لا تستطيع السلطة التركية أن تكمل مشوارها في الملعب الرمادي، ولابد من الرجوع إلى مشغلها الأساسي وهو حلف الناتو وأمريكا، وهو الأرجح أو المسير مع الدب الروسي وإعطاء انطباع مختلف بأنه حيادي، وهنا ستكون تركيا ومستقبل السلطة وخاصة أردوغان في مفترق طرق ووضع صعب، وربما كل تركيا وكيان الدولة ستكون في مهب الريح وستصبح سوريا الثانية.

إن تداعيات حرب الهيمنة والنهب والتقسيم والنفوذ الدولي والإقليمي في أوكرانيا يصيب كل دول المنطقة والعالم وشعوبها ومجتمعاتها وفي النواحي المختلفة من الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية وحتى الثقافية والاجتماعية، من تدهور العملات الوطنية وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة والحاجة للقمح وللسلع المختلفة وحالات منع الأجواء أمام الطيران لبعض الدول إلى العقوبات التي تتزايد بشكل يومي وبشكل متبادل بين طرفي الصراع مما سيجلب آثارا سيئة كبيرة إن لم تتوقف هذه الحرب ومناكفاتها وصراعاتها الجانبية التي تتزايد والتي من الصعب أن تتوقف في فترة قصيرة أو متوسطة.

لا يفترض من شعوب ودول المنطقة أن تكون مجبورة الاختيار في الوقوف مع أحد طرفي الصراع في أوكرانيا، بل إن الوقوف مع أحد الجانبين هو موقف غير صحيح كون الصراع ليس حقا وباطلا أو فقط احتلالا، بل إن هناك نظام هيمنة عالميا باطلا ومتجاوزا على الشعوب والمجتمعات والبلدان، ويجري الصراع بين قواه ومراكزه للتفرد والاستحواذ بالنفوذ والسيطرة والهيمنة والنهب. ولو أخذنا مثلاً موقف حكومة دمشق والمعارضة المحسوبة على تركيا والتي يقودها الإخوان كنموذج للمواقف الفاشلة والتابعة للقوى الخارجية وغير المدركة لحقيقة الحرب في أوكرانيا. فمنذ اليوم الأول أعلنت سلطة دمشق وقوفها مع موسكو واعترافها بالجمهوريتين الانفصاليتين، مع العلم أن نفس السلطة ومنذ عشر سنوات ترفض أي مبادرة لحل الأزمة السورية، وبل تصف كل مبادرات الإدارة الذاتية ضمن الدولة والجغرافية والحدود والشعب السوري والدولة الواحدة بتهم الانفصال والتقسيم المختلفة وغير الصحيحة، طبعا موقف سلطة دمشق يبين مدى تبعيتها لروسيا وبعدها عن تمثيل إرادة الشعب السوري ومصالحه، كما أن الإخوان السوريين وبدون أي نقاش يقفون مع السلطات في أوكرانيا من باب أن راعيهم ومشغلهم ومرشدهم الأكبر أردوغان يريد ذلك من تحت الطاولة وباستحياء، والملاحظ أيضاً أن نفس هذه المجموعات التي شاركت وكان فوق الدبابات التركية وتحت طائراتها المسيرة عندما احتلت تركيا شمالي سوريا ومنها عفرين وسري كانيه (رأس العين) وكري سبي (تل أبيض) والباب وجرابلس واعزاز ومارع وإدلب وهي الآن تتكلم عن الاحتلال وما تسميه الغزو الروسي، وكأن احتلال عفرين وتهجير أهلها لم يكن غزوا وأسوأ من ممارسات روسيا في أوكرانيا، علماً أن القوى الديمقراطية والوطنية السورية مثل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وحسب ماهيتها وأهدافها تتبنى الحلول السياسية والديمقراطية لمختلف القضايا والمشاكل المحلية والدولية وليس الدخول في اصطفافات خاطئة بعيدة عن مصالح الشعب السوري.

أحمد شيخو: الحرب العالمية

علينا الإشارة إلى نقطتين هامتين الأولى هي تهديد روسيا الناتو والغرب بالردع والقوى النووية، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على حدة التصاعد المتزايد وشعور روسيا بأن هناك ما يحاك ضدها في الخفاء، وهي تعلم ذلك وتخاف أن تتحول أوكرانيا إلى مستنقع لها وحالة استنزاف لقواتها واقتصادها إن طال أمد الحرب في أوكرانيا في ظل الدعم الغربي لأوكرانيا.

والنقطة الثانية ما تم إعلانه بتشكيل كتائب أممية في أوكرانيا ومن الدول المختلفة ومنها دول الاتحاد الأوروبي وبذلك السماح للشركات الأمنية بالتواجد ودخول الحرب الأوكرانية بالمقابل مع الأنباء بوجود عمل وتحركات لشركة فاغنر الروسية علاوة على بعض الأنباء والأصوات التي بدأت تتعالى من بعض الجهاديين والإخوان الإرهابيين وكذلك تيارات الإسلام السياسي بضرورة مساعدة ما يسمونه “مسلمي أوكرانيا” ضد روسيا، وهذا يرجعنا إلى الحالة الأفغانية التي أخرجتها مخابرات نظام الهيمنة العالمية، وبالنتيجة توافقت وتركت لها أفغانستان في النهاية لتكون خاصرة رخوة في الجنب الروسي والصيني، وبؤرة توتر كبيرة تستخدمها عند اللزوم، فهل تكون أوكرانيا بؤرة توتر وإرهاب جديدة، ربما يريدها البعض كذلك من بعض القوى المركزية والإقليمية في نظام الهيمنة العالمية.

ما تفعله روسيا في أوكرانيا فعلته أمريكا وأدواتها في العديد من دول العالم، فكيف احتلت تركيا شمالي سوريا وشمالي العراق وغرب ليبيا؟ وكيف تدخلت في العديد من دول المنطقة وبل تحارب تركيا الشعب الكردي في باكور كردستان (جنوب شرق تركيا) منذ مئة سنة، بل إن تركيا استخدمت وفي مرات عديدة وآخرها في 23 أبريل الماضي الأسلحة الكيميائية بحق المدنيين والقرى والمقاتلين الكرد مع صمت مخزٍ وتواطؤ من كل الذين يتشدقون الآن بأن روسيا تحارب وتغزو أوكرانيا. بل إن تركيا تحرم السجناء الكرد وعلى رأسهم القائد والمفكر عبدالله أوجلان من حقوقه الإنسانية وتفرض عليه منذ عام 2011 العزلة والتجريد عليه في خرق لكل القوانين والمواثيق الدولية والقانونية، علاوة على سجن تركيا أكثر من 12 ألفا من النشطاء الكرد واعتقالها البرلمانيين ورؤساء البلديات المنتخبين مع تهديم تركيا للعديد من المدن والقرى في عام 2015 و2016 وبقصف المدافع والدبابات والطائرات الحربية كمدن سور آمد ونصيبين وجزيرا وكفر وغيرها دون أي إجراء من هؤلاء الذين يعارضون الحرب الروسية وهم في حالة نفاق وكذب وازدواجية واضحة وكبيرة.

إن الحرب في أوكرانيا ومع خطورتها وتأثيراتها على المنطقة واحتمالية قيام بعض القوى الإقليمية بالتحرك لتحقيق بعض المكاسب في وقت انشغال العالم بأوكرانيا، إلا أن البعض من نفس هذه القوى بات يشعر بالخوف مع تأكيد احتمالية قيام نظام الهيمنة العالمية بإعادة ترتيب بعض الأوراق والنظم وحتى إعادة التموضع لنفسها وأدواتها وحاملي أجندتها مع تغير الظروف والشروط والأدوار الموكلة للقوى الإقليمية والتعامل مع الكيانات والقوى الفعالة من غير الدول في المنطقة.

وهكذا نرى أن الحرب في أوكرانيا فصل من فصول الحرب العالمية الثالثة التي لا تنتهي إلا بخلاص البشرية من هذا النظام العالمي الذي ينتج الأمراض والحروب والأسلحة المدمرة والفتاكة والنووية المختلفة فقط لضمان واستمرار هيمنتها ونهبها على المنطقة وشعوبها والعالم وتحكمها في ظل وعي متزايد يكبر مع نشاط الحركات والتيارات المجتمعية والديمقراطية التي تطرح البدائل المجتمعية والديمقراطية لنظام الهيمنة العالمية ومنهم نظام الكونفدرالية الديمقراطية واتحاد الأمم الديمقراطية وبالمجمل الحداثة الديمقراطية كبديل لنظام الهيمنة العالمي (الحداثة الرأسمالية).

وهكذا لن تنتهي الحروب والإبادات إلا بالخلاص من أنظمة الحروب وأدواتها من الدول القومية والذهنيات والسلوكيات الدولتية والسلطوية والذكورية التي تنظر للحياة والطبيعة بكونها شيئا ومفعولا به وأداة فقط وليس حالة حياة مختلفة يستوجب الإحساس والتفاعل والتكامل معها في ظل الاحترام والاعتراف المتبادل.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب 

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى