د. محمود زايد يكتب.. الأبعاد التركية وراء إنشاء مستوطنات في عفرين
تشهد عفرين وبعض مناطق شمال وشرق سوريا «روجآفا» هذه الأيام تصعيدًا أشد خطورة من مجرد الاحتلال التركي لها، كونه احتلالا سيخرج منها يوما ما شاء أم أبى.
منذ أيام تابعنا ما أفصح عنه الرئيسَ التركيّ رجب طيب أُردوغان بما أسماه مشروع «العودة الطوعية لمليون سوري». عنوان ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله النهب والسلب والاعتداء، لأنه يقصد أن العودة ستكون نحو وجهات استيطانية محددة، منها مناطق كردية في سوريا.
ومن الطبيعي أن تكون عفرين المحتلة على رأس هذه المناطق، إذ إنها ذات أهمية استراتيجية كبرى للنظام التركي، ينطلق منها السيطرة على بقية مناطق شمال وشرق سوريا. يفسر ذلك قيام الاحتلال التركي بإنشاء مجموعة من المستوطنات فيها، وتوطينها بما يزيد عن 700 ألف نسمة من العرب والتركمان محل السكان الكُرد الذين هُجّروا أو قتلوا أثناء عمليات الاحتلال وبعده.
إن إنشاء هذه المستوطنات في شمال وشرق سوريا ليس حديث عهدٍ، وإنما هو امتداد لمشروع كبير يعود إلى نحو قرن من الزمان رصدته عدة دراسات، كدراسة حسين جمو في المركز الكردي للدراسات.
والمطلع على تاريخ الجمهورية التركية منذ تأسيسها عام 1923م وحتى الآن، يدرك أن عمليات الاستيطان الحالية التي أعلن عنها أوردغان في سوريا (غرب وشرق الفرات) ما هي إلا تطبيق لمشروع تركي كبير يسمى «مشروع إصلاح الشرق»، بُدِأ في تنفيذه عام 1925م عقب القضاء على ثورة الشيخ سعيد بيران الكردية، ضمن سياسية التتريك والتغيير الديمغرافي للمناطق الكردية لاستمرار بقاء تركيا بحدودها السياسية التي أوجدتها تداعيات الحرب العالمية الأولى.
قد تختلف توجهات وسياسات الحكومات التركية المتعاقبة ويتصاعد حجم النزاع دماءً بينها، لكنها اتفقت على مشروع واحد، هو تتريك المناطق الكردية، بل وجعلت ذلك من أولويات برامجها الداخلية والخارجية.
وضع مشروع إصلاح الشرق مجموعة من الأكاديميين الأتراك بهدف القضاء على الهوية الكردية داخل الحدود السياسية التركية وخارجها، وشُكل له مجلسٌ تحت اسم «مجلس إصلاح الشرق» برئاسة عصمت إينونو، وعضويته كبار ضباط الجيش ومسؤولي الدولة التركية الأمنيين والاستخباراتيين.
لقد صُدم هذا المجلس في بدايات عمله من نتائج التقارير التي قام بها في المناطق الكردية، التي كشفت له الغالبية الغالبة للكرد في هذه المناطق، وأنه متجسد فيها ما أسموه «الهيمنة الاقتصادية واللغوية للكرد» في معظم المحافظات الشرقية.
بالتالي، عزم مجلس إصلاح الشرق على عمليات الإحلال الديمغرافي بتوطين أتراك في المناطق الكردية وفق مخططين استراتيجيين لشرق وغرب الفرات، من دياربكر (آمد) إلى عينتاب على طريق أورفا، وتمتد حتى آخر نقطة كردية في سوريا بالاتجاه جنوبا من ملاطية إلى عفرين.
خلال المائة سنة الماضية لم تتمكن الحكومات التركية من تتريك شرق الفرات بشكل تام، رغم استخدامها كل الآليات غير القانونية والقوة العسكرية والبوليسية الغاشمة؛ حيث أتت الرياح بما لا يشتهي السَّفِن. كان وراء ذلك عوامل عديدة، منها النضال الكردي في محطاته المتقطعة، والأزمات الاقتصادية المتتالية وتردّي الأوضاع الاقتصادية التركية في سنوات طويلة من هذا القرن، وعليه قررت تركيا مؤخرًا الشروع عمليا في تتريك مناطق غرب الفرات خارج حدودها السياسية، وهنا بدت سوريا في الواجهة التركية بهدف خلق وضع ديمغرافي جديد فيها على حساب الكرد في روجآفا.
مهم جدا أن نعلم أن كل حملات تركيا العسكرية الحالية تجاه الأراضي السورية والعراقية وراءها «مشروع إصلاح الشرق» الذي نتحدث، فمثلا حينما احتلت تركيا عفرين في 2018م قام الاحتلال التركي ومرتزقته بتدمير الموارد الاقتصادية والمعيشة للسكان الكرد في عفرين، وتهجير الكثير من أهلها، بنسبة قدرتهم بعض الدراسات بـ 400 ألف، ثم وطّنَ الاحتلال التركي فيها نازحين سوريين في بيوت وقرى الكرد في عفرين طبقًا لمشروع مشروع إصلاح الشرق.
لم يكتفِ نظام أوردغان بعفرين في سياسته الاستيطانية الجديدة، يتم ذلك سري كانيه/رأس العين وتل أبيض بعدما احتلهما عام 2019م، وهجّر منها أكثر من 200 ألف من سكان هاتين المنطقتين بهدف إيجاد وضع ديموغرافي جديد على حساب الكرد في شمال وشرق سوريا، مما يجعل الأنظمة العربية تدرك أن تركيا -وليس الكرد- هي من تسعى إلى تفتيت سوريا وتقليص حجم جغرافيتها بعد أن اقتطعت منها الاسكندرونة قبل ذلك.
نستطيع أن نفهم من سياسات الاحتلال التركي الحالية تجاه عفرين ومناطق شمال وشرق سوريا ما يأتي:
أولا- أن الدولة التركية عبر أنظمتها المتعاقبة وضعت على رأس أولويات برامجها خلال المائة سنة الماضية سياسة تتريك الجغرافيا والديمغرافيا والهوية الكردية، معتبرة ذلك أحد أركان السياسة الأمنية التركية.
ثانيًا- أن الحملات العسكرية التركية لاحتلال بعض المناطق السورية في السنوات الست الأخيرة، كلها تسير ضمن مشروع «إصلاح الشرق» في شرق وغرب الفرات.
ثالثًا- هدفت تركيا في مرحلتها الأولى من عدوانها على الأراضي السورية بناء مدينة تضم مليون نسمة تكون كتلة سكانية ضخمة تفصل بين المنطقتين الكرديتين (عفرين وكوباني) بهدف الوصول إلى أهم منطقة كردية غرب الفرات داخل الحدود السورية.
رابعًا- تعد تركيا عفرين رأس مخلب لها ليس فقط لاحتلال مناطق شمال وشرق سوريا، وإنما لضمها للحدود السياسية التركية. من هنا نفهم الأهداف الحقيقية لاحتلال تركيا لعفرين.
خامسًا- تظل الخلافات الكردية/الكردية أشد العوامل التي مكنت المحتل التركي من الاستمرار في تطبيق سياساته الاستيطانية نحو الكرد في إطار «مشروع إصلاح الشرق» في التأثير على الهوية الثقافية الكُردية، بل والقومية الكردية نفسها. إذن، فبداية المواجهة تكون في الاتفاق الكردي/الكردي على مبادئ أساسية، ولا جدال في تنوع الممارسات التطبيقية.
أود أن أشير إلى أن ما يحدث هذه الأيام من عدوان على مناطق سورية وعراقية نبه إليه وحذّر منه خبراء في السياسة والنضال، لكن لم يسمع إليهم أحد. ففي إحدى لقاءاته مع محاميه في 5 مايو/أيار 2011م، قال أوجلان: «إن عملية تفريغ المنطقة من الكرد، لم تتم ممارستها فقط في سرهد، بل طبقوا هذه السياسة في ملاطيا، آلعزيز، آديمان، عنتاب، مرعش. وبالأصح في كل المناطق الواقعة غربي نهر الفرات. هذا المخطط هو مخطط متكامل وشامل. هو مخطط مبرمج لمدة مئة عام. وبدون رؤية هذه الممارسات لا يمكن فهم الحاضر الذي نعيشه، ولا يمكن ممارسة السياسة».
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب