الرئيسيةرأي

د. محمد حسين أبو العلا يكتب.. ألكسندر دوغين.. فيلسوف الدم!!

دائماً ما تظل الأفكار المثيرة اللافتة هي المحرك الأول للثورات والحروب، ودائماً أيضاً ما تكون هي الركيزة المحورية في بناء المجتمعات وإرساء أسس النهضة والتقدم، ولا شك أن كل ذلك مرجعيته لطبيعة هذه الأفكار في مدى عمقها وأصالتها وسطحيتها أيضا وطبقا لمتطلبات المرحلة الزمنية، وحتى في عصر الثورة المعلوماتية تظل للأفكار الرائدة قيمتها في تحريك صفحات التاريخ بلوغا نحو إحداث نقلات نوعية في حياة الأمم والشعوب. ولعل إرهاصات الحرب الروسية الأوكرانية قد انطلقت من عقل الفيلسوف الشهير “ألكسندر دوغين” حين خط ملحمته الإستراتيجية في كتابه “النظرية السياسية الرابعة” والتي تمثل الخطوة المنتظرة في مسار تطور الطابع العام للسياسة الدولية بنسف الأحادية القطبية واقعا ومفهوما بعد جولات عاصفة مع الليبرالية والاشتراكية والفاشية وغيرها من المذاهب والتيارات والتوجهات، ولقد انطوى جوهر هذه الإستراتيجية على ضرورة بل حتمية إنشاء قوة عظمى أوراسية، ذلك عبر دمج روسيا مع الجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسى جديد، عن طريق تغيير الأيديولوجية الشيوعية إلى الأورو أسيوية، وبمعنى آخر يتم تدويل الأيديولوجية الاجتماعية المحافظة بديلاً عن الليبرالية الديمقراطية الغربية، بحيث يشكل هذا الاتحاد مركزا حيوياً للقرار الدولي باعتباره ممثلا لقوة اقتصادية وسياسية ضاغطة.

ويأتي ذلك في إطار المشروع الأكبر “لدوغين” وهو تطوير آليات وطرائق التفكير السياسي الروسي والتحليق بها نحو آفاق تحقق الريادة في انتزاع عجلة القيادة الكونية، انطلاقا من أهليتها السياسية والإستراتيجية والاقتصادية والعسكرية والثقافية أيضاً التي تخول لها استعادة روح الهوية الروسية. ولذلك لم يكن غريباً أن يستلهم “بوتين” فكرة مقاله (مشروع تكامل جديد لأوراسيا.. المستقبل الذي يولد اليوم) من إستراتيجيات “دوغين” تلك التي تستشرف وتيرة ما بعد المستقبل، وهو ما دفع بعض علماء السياسة الأمريكية للخوض في توصيفه بأنه أخطر الرجال في عالمنا المعاصر، لكن ماذا تعني هذه الخطورة؟ هل جاءت من كون “دوغين” له ثقل أكاديمي ويحظى بسمعة عالمية، أم من كونه مثقفاً لامعاً يجيد العديد من اللغات ومفكراً يصدر أفكاراً عنصرية مدمرة من وجهة النظر الغربية، أم لكونه النموذج العقلي المرعب الذي استقطب عقل “بوتين” ذاته وصار يدعى رجلا بحجم قوة الكرملين؟ ربما كان كل ذلك قشور الخطورة لكن بؤرتها إنما تكمن في إطلاقة تلك العبارة الدموية التي أعربت عن مدى تأصيل فكرة المؤامرة واستحواذها على كافة مراهناته العقلية!! أملا في استعادة أمجاد ومآثر الإمبراطورية السوفيتية، لذا كانت صرخته المدوية بأن الأوكرانيين يجب أن يقتلوا.. أن يقتلوا.. أن يقتلوا، وبالطبع هي دعوة صريحة لإبادة شعب، دعوة أشعلت حرباً شرسة، دعوة أحدثت تأزمات عالمية سياسية واقتصادية وإستراتيجية. لكن ترى ماذا كان من جرائر هذه الدعوة؟ بالطبع قتل “داريا دوغينا” ابنة الفيلسوف على يد امرأة أوكرانية.

ولكن على صعيد آخر، وفى إطار الكثير من التحليلات التي كان منها أن قتل “دوغينا” قد جاء على أيدى الروس لتصعيد وتيرة الحرب بأسلحة غير تقليدية, ولعل ذلك يعد تحليلاً متهاوياً يفتقر لاعتدالية المنطق، إذ إن توجهات روسيا بالنسبة لأوكرانيا ليست في حاجة لأسباب وذرائع لكي تمتد الحرب الأوكرانية، وحتى إذا اضطرت لذلك، فهناك العديد من الشخصيات السياسية والدبلوماسية الفاعلة والمتواصلة مع طوفان هذه الحرب التي يمكن أن تكون بديلا، لكن تبقى احتمالية مستحيلة تستوجب الطرح وهي أنه في حالة جنوح الإستراتيجية الروسية نحو توظيف طاقات الخداع فإنها لابد أن تؤكد للعالم كيف تكون روسيا هي الفاعل؟ رغم توافق وتطابق توجهات “دوغينا” مع محاور هذه الإستراتيجية.

وعلى كل ذلك كيف يسود فيلسوف القومية الروسية المتطرفة اعتقاد راسخ بأن “دوغينا” قد قتلت من أجل الدولة العظمى أو الإمبراطورية الشامخة وليس من أجل تبنيها توجهاته الدموية التي عايشتها طويلا حتى ترسخت في عقلها؟!

إن أبرز ركائز المعتقد الفكري عند “دوغين” هو رفضه المطلق للنموذج الإمبريالي الغربي وإيمانا بالهيبة الروسية التي ثبتت قناعاته عند منحنى الوجود والعدم، بمعنى إما أن تنتصر روسيا أو يزول العالم عبر النووي، لأن منطق الحسم تجاه كل المعطيات لابد أن يكون هو القاسم المشترك عند كل الكيانات الكبرى. لكن لم يخبرنا “دوغين” عن الفروقات الحادة بين المفروض والممكن في حين أن مقتضيات المنطق المجرد ترسي قاعدة هامة وهي أن كل مفروض ليس ممكنا ولا كل ممكن لابد أن يكون مفروضا!

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب 

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى