رأي

محمد أرسلان علي يكتب.. حينما تصرخ الحقيقة بصمت على مذبح المصالح

الكاتب باحث وسياسي كردي سوري.. خاص منصة العرب الرقمية

لربما كانت طبائع البشر هي المتحكمة في سيرورته الدنيوية منذ آلاف السنين وحتى راهننا. ورغم المحاولات الإصلاحية التي قام بها الحكماء والفلاسفة وحتى الأنبياء والرسل، إلا أن النتائج لطالما كانت بعكس ما كان يتمنون من سعى للدعوة لكبح جماح الغرائز البشرية بأن تكون هي المسيطرة في نهاية الأمر. ربما كانت المساعي الفردية من قبل البعض في الارتباط بالقيم المجتمعية تكون هي المتحكمة، إلا أنها أي تلك المساعي لم ترتقِ لأن تكون من الطبائع الطبيعية للبشر ولتبقى استثناءً لم تغير من الحالة العامة الكثير.

إنها ديدن البشرية التي لم تتصف أو أنها راغبة بأن تكون العقلية السلطوية والفردانية الذاتانية و (الأنا)، هي السائدة في أفكارها ورؤاها للمستقبل الذي تريده كما خططت لها في أوهامها السائدة والمتسيدة وأحلامها الزاحفة وراء سراب الوعي الجمعي التي تؤمن بها على أنها هل الحل لكل ما يعانيه المجتمع من قضايا ومشاكل حطت من قدره ومكانته التي كانت يوماً ما متسيدة على الكل.

محمدأرسلان علي الحقيقة المصالح

إنه المجتمع النمطي الفاسد، الذي لا يقبل الآخر باختلافاته، ليعمل على زرع الخلاف معه، وليكون القتل هو الحكم بينهما. صراع كان مكتوب في اللوح المحفوظ، لأن الله أعلم بما لا نعلم، وله غاية في هذه الحياة التي ما هي إلا زينة ومتاع لحين. قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً * قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ * قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، (البقرة – 30). وما بين الخليفة، والفاسد والسافك للدم. تبدأ ملحمة المأساة الإنسانية والتي لا زالت مستمرة حتى اليوم وإن كانت بأسماء شتّى، ولكن يبقى الجوهر هو لم يتغير في الفساد وسفك الدماء. طبعاً كل ذلك من أجل إعلاء كلمة الله.

دور الوعي والفكر هامٌ جداً في تحديد الإطار الذي سيسلكه الانسان في المجتمع. ويمكن اعتبار المثقفين من أهم الشخصيات التي تقع على عاتقهم المسؤوليات الجسام، لأنهم يُعتبرون ضمير المجتمع الذي يئن تحت رحمة الجهل. وهنا يأتي دور المثقفين ليلعبوا دورهم المنوط بهم في زيادة وعي المجتمع وتثقيفه ليعرف أن ما هو فيه من مشاكل نابع منهم بالذات، وأنه عليهم البحث عن الحلول في شخصياتهم وأفكارهم التي هم أسرى لها، وليحطموا تلك الأغلال بمطرقة المعرفة والإدراك والوعي والعلم ومحاربة الجهل بنفس الطريقة أيضاً. فالشخص الواعي يعتبر صمام الأمان لمجتمعه، حين يبصر ويحلل ويوضح الحقائق وينبه وينوه إلى المخاطر. وحين يصبح هذا الصمام محصناً بالوعي والأمانة والصدق والإخلاص يبقى المجتمع آمناً من أي مستغل أو طامع أو غزو فكري أو ثقافي يهدم بنيانه ويفتت كيانه. وهناك من المثقفين والمبدعين الواعين أنواع باتت واضحة وضوح الشمس. هناك نوع يكتفي بدور المتفرج إزاء ما يحدث، وكأنه غير معني بما يجري، سابحاً في قضاياه الشخصية، غارق في أمور سطحية وهامشية مستمراً في بناء اسمه وكيانه وشهرته. وهناك نوع آخر هدام يدعوا للتشاؤم وإلقاء اللوم على المجتمعات، ويشيع ثقافة الإحباط واليأس. وهناك نوع متفشي كالخلايا السرطانية التي تنخر في عضد ووعي المجتمعات وهو الأخطر، وهو ذاك النوع الانتهازي المتسلق المريض الذي يستغل الأحداث لتلميع صورته وإبراز اسمه في كل ميدان. شخص لا يعطي الحلول ولا تنتظر منه حقائق. بل ويتغنى بالأحداث تماشياً مع الجو المحيط ليس له مبدأ واضح ولا فكر صادق ككل صاحب دور منافق. وصوت متلون حسب السياسات العامة وهذا النوع لا يخدم مجتمعه. بل يخدم مصلحته واهواءه واستمرار تبعيته.

إذاً، هي المصالح التي تحدد ماهية المبادئ التي تسير عليها الشعوب والمجتمعات و/أو الأنظمة التي تسعى دائماً وأبداً لتحقيق مصالح الشعوب. هكذا قالوا في كتب (التاريخ) حينما تمت كتابته تحت ظل سيوف ورماح المنتصرين في الحروب التي كانت باسم الرب تبدأ وتنتهي. تبدأ من أجل رفع المظالم ونشر العدالة والمساواة بين مختلف المجتمعات المترامية الأطراف، ليتم تجنيد البشر وزجهم في حروب كانت لهم أملاً، ولتنتهي المعارك بحرق المدن وتدميرها واغتنام كل شيء فيها وسبي من تبقى من نسوة مفزوعات من صهيل الخيول وحوافرها التي تدّب في الأرض، ليسمعها نمل سيدنا سليمان تنادي؛ ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (النمل – 18).

حتى نمل سليمان كان أكثر تعقلاً حكمةً وارتباطاً بمجتمعه من أنظمتنا وزعماؤنا ومن ادعوا قيادتنا في محن الثورات التي ابتدعوها لأجنداتهم الخاصة. نادى النمل خِلانه بأن ادخلوا مساكنكم تحت الأرض خشية ان يحطمكم جيش سليمان وخيوله. المناداة فقط ما هو إلا تعبير عن الارتباط بالقيم والمحبة والصداقة المجتمعية التي من دونها لا يمكن بناء أي مجتمع. لكن أنظمتنا وزعماؤنا الخالدون والذين كانوا يتبجحون ليلاً ونهاراً أنهم لم يتربعوا على عرش السلطة إلا من أجل خدمة الشعب وتأمين متطلباته. وليسقط القناع عن وجههم وتظهر حقيقتهم التي ليس لها أية صلة بما كانوا يقولون. باعوا الشعوب والمجتمعات في أقرب بازار نخاسة سياسية من أجل مصالحهم وبقائهم متشبثين بكرسي السلطة والمال. أما الشعب، فليذهب إلى الجحيم. ربما كان جحيم الدمار والقنابل والقصف والقتل، ولربما يكون الجحيم في عرض البحر الذي يبتلع الشعب وهو متمسك بقشة التهجير القسري. وبعض الأحيان يكون الجحيم هو البقاء في المكان، ليختنق يومياً عشرات المرات من زبانية الحاكم وفساده وسرقاته وقراراته العشوائية الجوفاء.

تم اتخاذ قرار التضحية بالمجتمع والشعب والحقيقة من أجل المصلحة. طبعاً ليس مصلحة المجتمع بل مصلحة الحاكم الشرعي والقائد المعارض المتربص بكرسي السلطة. ولتبقى الحرب المشتعلة في جغرافية الحضارة الإنسانية هي العنوان الأساس لكل مراحل التطور الذي طرأ على المجتمعات والشعوب. معركة طويلة بدأت مذ حاول الانسان امتلاك الوعي والفكرة، والشك بكل ما حوله من موجودات مادية باحثاً عن الحقيقة المتوارية خلفها. لهفة الشك اشعلت عطش الانسان للبحث عن معنى الحياة وحبها، وكانت أولى محاولات عقد العلاقات ما بين البشر وفق ضوابط صارمة لكبح جماح النزعات الفردانية والبحث عن بديل لها لتكون قوة أخلاقية تربط الجميع مع بعضهم البعض، والتي وفقها تم إعطاء المعنى للمجتمع الذي كان يمثل قوة إرادة الكل، والذي تمثل بالطوطم ومن ثم الإله الرمز.

صراع بدأً أزلياً ولربما سيكون أبدياً بنفس الوقت! ما نشهده الآن ما هو إلا انعكاس لذاك الصراع البدئي، ومحاولة لتجديده بين الفينة والأخرى بأسماء مختلفة. إنه صراع هيمنة واستحواذ على عناصر القوة وأدواتها ووسائلها، والتضحية بالإنسان من أجل إرضاء قوى الهيمنة تلك/وهذه.

ملحمة جلجامش كتبت منذ عدة آلاف من السنين لكنها كانت مروية وشفهية لآلاف من السنين الأخرى، لكنها مستمرة بكل عنفوانها وحبكتها الأدبية وحتى الحقيقة في يومنا هذا. وكأن من كتبها ذاك الزمن (سين-لقي-ونيني) ما زال يعيش بين ظهرانينا الآن ماسكاً قلمه المسماري ورقيمه الطيني ويعيد رسم ما يراه الآن ويقارنه بما رسمه قبل آلاف السنين، ليتيقن أنها الأحداث ذاتها تتكرر منذ ذاك الوقت وحتى الآن، ليخر ضاحكاً على جهالتنا التي نعيش فيها ونحن في القرن الحادي والعشرون.

صراع الآلهة يتكرر الآن بنفس التراتبية وتفاصيلها الطويلة والقاتلة المملة. جلجامش الذي يبحث عن سرّ الخلود وصديقه انكيدو ودور المرأة (شمخاتو) التي أغوت انكيدو بمفاتنها. وعشتار وتموزي ووو الخ. هي نفسها الملحمة تتكرر في يومنا في صراع آلهة العصر في الهيمنة على العالم والاستحواذ على خيراته من أجل الخلود والتربع على العرش.

أمريكا وروسيا والصين. وكلً له أدواته وبيادقه من تركيا وإيران وبعض دول الخليج، ومرتزقة حاملين للبنادق ومنتظرين على أي مذبح (سوريا – العراق – اليمن – ليبيا – أرمينا – أوكرانيا – السودان…) سيتم التضحية بهم. والكل يسعى جاهداً من قوى الهيمنة ليكون انكيدوا صديقاً له فقط من دون غيره. انكيدوا الذي ينحدر من سكان الجبال والذي يعيش في/مع الطبيعة، رافضاً الابتعاد عنها لأنها كانت الأم الأولى للإنسان. انكيدوا الذي ربما كان تعبيراً رمزياً عن الكرد الذين هم من سكان الجبال والطبيعة، حاول من كان يمتلك القوة والطغيان أي جلجامش أن يستميله لجانبه كي يزداد قوة وجبروت، لتستمر قصتهما المعروفة. هم نفسهم الآن يعملون على استمالة الكرد لجانبهم رغم قوتهم، إلا أنهم يدركون من دون الكرد لن تبلغ هيمنتهم ذروتها ولن يستطيعوا دخول هذه المنطقة. الكل يريد الكرد حسب ما يريدونه هم وليس كما يريد الكرد ذاتهم. ليكون الصراع البدئي بينهما والذي لا زال مستمراً حتى يقتنع الطرفان، أنه لا طائل من هذا الصراع العبثي سوى بالاتفاق وقبول كل طرف الآخر كما هو رغم اختلافه، ولتبدأ مرحلة البحث عن الخلود.

إنها مرحلة لا بدّ أن يمر بها الانسان كي يحدد وجهته وطريقه المستقبلي في أن يكون أو لا يكون. فحينما يكتمل وعي الإنسان وإدراكه للحياة، وقتها سيحدد إما أن يعيش في الصمت إلى الأبد، أو أن يُصبح ثائراً في وجهِ كل شيء، ومعلناً معركة الفكر والوعي التي لا نهاية لها للقضاء على الجهل الذي نعيشه رغم التطور العملي والتكنولوجي. جهلٌ ليس بالعلوم بقدور ما هو جهلٌ بالقوانين التي تُلجم هذه العلوم لتجرها لطريقها السليم ولتكون في خدمة الانسان الذي هو هدف الحياة ومبتغاه. الحقيقة مهما كانت نسبية تبقى الشغل الشاغل لكل الباحثين عنها، لأنه عن طريقها فقط يمكن إعطاء المعنى للحرية والحياة التي نعيشها. فمن دون معرفة الحقيقة وماهيتها لا يمكن إعطاء المعنى لأي عمل نقوم به ونعمل أو حتى نضحي لأجله. ولكي تعلو الحقيقة دائماً لا بدّ من تحطيم مذابح الجهل والمصالح التي أُقامها الزعماء والحكام من أجل بقائهم في السلطة على حساب الشعوب والمجتمعات.

 

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب 

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى