د. هاني الجمل يكتب.. كامب ديفيد.. بين الناتو الآسيوي والغضب الصيني
“نرفض هذا السلوك الخطير والعدواني”، بهذا الوصف علقت دولة الصين الشعبية على نتائج قمة منتجع كامب ديفيد الأمريكي الذي ضم كلا من أمريكا واليابان وكوريا الجنوبية.
واعتبرت بكين أن قادة الدول الثلاث الذين اجتمعوا في كامب ديفيد “شوّهوا صورة الصين وهاجموها بخصوص قضايا متعلقة بتايوان وقضايا بحرية. وتدخّلوا بشكل صارخ في الشؤون الداخلية للصين وزرعوا عمدًا بذور خلاف بين الصين وجيرانها في النزاعات البحرية في منطقة آسيا والمحيط الهادي”.’
فهل قمة كامب ديفيد نواة “حلف أمني” أمريكي – آسيوي بمواجهة كوريا الشمالية والصين؟
سؤال خيم على العديد من المتابعين والباحثين حول ماهية هذا الاجتماع الذي يأتي في ظروف دولية وإقليمية استثنائية لم يشهدها العالم منذ فترة ليست بالقريبة، فالعالم على حافة فوهة البركان بسبب الحرب الروسية الأوكرانية ومحاولات صعود الصين بجانب الولايات المتحدة الأمريكية في قيادة العالم مدعومة بذلك من روسيا الحليف الاستراتيجي وقبول من الأوساط العربية والأفريقية لكسر حالة القطب الأوحد والاتجاه إلى عالم متعدد الأقطاب، ولكن هذا التمدد الصيني أغضب جيرانها في اليابان وكوريا الشمالية وحليفتها أمريكا التي تحركت بشكل سريع بصب الزيت على النار في أزمة تايوان والعبث المنظم في الفناء الخلفي للصين ومحاولة جرجرتها إلى صراع على جبهات مختلفة من أجل إضعافها أو إدخالها في حرب تستنزف قواتها العسكرية مع حليفها الاستراتيجي.
يبدو أن الإدارة الأمريكية على قناعة تامة بأن العالم قد بلغ بالفعل وضعاً متأزماً، الأمر الذي يستدعي نوعاً جديداً من أنواع التعاون الأمني، يتعاون فيه الحلفاء على الصعيد الأمني، بل ويتشاطرون المعلومات ويعتمدون نوعاً غير مسبوق من التدريبات المشتركة، قد يكون هذا التحول بداية ولادة لحلف جديد ضمن سياق الأحلاف السياسية الدولية التي بدأت من تحالف “أوكوس” بين أمريكا وأستراليا وبريطانيا ثم تحالف “كواد” الذي يجمع أمريكا واليابان وأستراليا والهند، وربما يكون الهدف بلورة ما يطلق عليه “الناتو الآسيوي” الذي يستهدف في الحال والاستقبال مواجهة بيونغ يانغ وصواريخها التي تهدد نقاط الارتكاز الغربية حول العالم من جهة ومن ثم حصار الصين القطب القادم عالميا ومجابهة روسيا صاحبة المعركة القائمة مع أوكرانيا.
يمكننا تفهم أبعاد مشهد “الناتو الجديد” الذي يبدو أنه وليد مجموعة مختلفة من التركيبات الغربية والشرقية الآسيوية هذه المرة، فقد كانت قمة حلف الناتو الأخيرة في ليتوانيا فرصة للتفكير في عالم ما بعد عودة روسيا كقوة عسكرية مزعجة للغرب، إضافة إلى أن هناك تحدياً هائلاً يلوح في الأفق يتمثل في الصين التي تقترب من مرحلة التجليات العسكرية بعد أن حققت نجاحات اقتصادية، هذا بجانب كوريا الشمالية، فرغم أوضاعها الاقتصادية المتردية تبقى قوة نووية تقلق أمريكا والغرب.
ففكرة “الناتو الآسيوي” تفتح الباب أمام دول آسيوية للعضوية، فقد كانت ولا تزال المادة العاشرة من اتفاقية الحلف تنص على أن العضوية فيه متاحة لأي “دولة أوروبية في وضع يمكنها من تعزيز مبادئ هذه المعاهدة والمساهمة في أمن منطقة شمال الأطلسي”.
إذا أخذنا في عين الاعتبار أن عدد أعضاء الجيش الصيني العامل نحو 2.3 مليون جندي، وهناك 2.2 في قوات الاحتياط بينما عدد قوات جيش كوريا الشمالية نحو 1.2 مليون جندي و4.5 مليون في الاحتياط، ومن هنا يمكن فهم ما قاله الرئيس بايدن عن أهمية التعاون الثلاثي الجديد في افتتاح أعمال القمة عندما قال “بلداننا ستعمل كقوة خير في منطقة المحيط الهادئ”، وهو ما أكد عليه مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان بالقول إن “قمة اليوم انطلاقة لعهد جديد بين أمريكا واليابان وكوريا الجنوبية”، مشيراً إلى أن العمليات الأمنية للدول الثلاث ستشهد زخماً جديداً سيمتد لسنوات طويلة.. محاولا صرف الأنظار عن القول إن هذا التجمع له أهداف عسكرية أو موجه ضد أحد بعينه، وأنه ليس هناك (ناتو) جديد في المحيط الهادئ.
لوقت قريب لم يكن بالإمكان تصور مثل هذه القمة وسط خلافات منذ عقود بين حلفي واشنطن المرتبطين بمعاهدة ويشكلان قاعدة لنحو 84.500 ألف جندي أمريكي تتعلق بالاحتلال الياباني لشبه الجزيرة لكورية في الفترة ما بين 1910 – 1945، اليوم تغيرت الأوضاع وها هو الرئيس الكوري الجنوبي بون سوك بول يصرح بأن هناك حاجة لتعزيز أسس التعاون بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان، وأننا اتفقنا على وضع قناة لتنسيق ردنا على أي أزمة تطرأ في المنطقة من جانب اليابان، بدا واضحاً أن التطورات والتهديدات المتنامية من جانب الصين لليابان وكذا الخلافات الروسية – اليابانية قد دفعت طوكيو للدخول في علاقة قوية مع بيونغ يانغ عبر واشنطن وهو ما أكده رئيس وزراء اليابان فوميو كيشيدا أن هذه القمة الثلاثية هي الأولى من نوعها في التاريخ، وقال إن النظام العالمي يشهد اهتزازاً بسبب الحرب الروسية ضد أوكرانيا وبسبب أنشطة الصين وكوريا الشمالية وهو ما أشار إليه صراحة.
البيان الثلاثي في نهاية أعمال القمة ليفتح الباب أمام ما ورائيات تتجاوز التنسيق السياسي عندما أشار في نصه “نتعهد التشاور فيما بيننا للتنسيق في شأن الرد على التحديات والاستفزازات والتهديدات التي تمس مصالحنا وأمننا الجماعي في المنطقة”. ويضيف إن “الشراكة الثلاثية بين واشنطن وطوكيو وسيول تعزز الأمن والازدهار لشعوب الدول الثلاث وللمنطقة والعالم”، لكن البيان يفتح المستقبل أمام ما هو أبعد من التنسيق السياسي، إذ يقول ما نصه “نتعهد نزع سلاح كوريا الشمالية بما يتوافق مع قرارات مجلس الأمن، ونحث بيونغ يانغ على التخلي عن برنامج صواريخها الباليستية”.
إذن الجانب العسكري في التحالف الجديد حاضر وبقوة رغم التبريرات السياسية المتعددة التي قدمتها الأطراف الثلاثة في لقاء كامب ديفيد، وهذا ما فطنت له كل من موسكو وبكين واعتبرتا الأمر تخطيطاً مسبقاً بدءا مع قيام قمة “كواس” بالفعل، وهو ما تحدث عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالقول إن “الغرب يخطط لدمج حلف الناتو الذي تنضوي تحت مظلته نحو 31 دولة غربية مع تكتل “أوكوس” لبناء وتحديث القدرات العسكرية لدول “الناتو” وإعادة صياغة نظام التفاعل بين الدول ذاك الذي تطور في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، من المؤكد أن حديث القدرات العسكرية للعواصم الثلاث واشنطن وطوكيو وسيول يقلق المنطقة الآسيوية لا سيما حال التنسيق بين الجيش رقم واحد في العالم أي جيش الولايات المتحدة الأمريكية، والجيش رقم 5 على مستوى التراتبية الدولية وهو جيش اليابان بينما يحتل جيش كوريا الجنوبية رقم 6 عالمياً.
من هنا تدرك بكين وموسكو وبيونغ يانغ حقيقة “الناتو الآسيوي” القادم، حيث تهدف القوى معاً لخلق توازن عسكري جديد في منطقة المحيط الهادئ ودمج قدرات القوى الثلاث المجتمعة في كامب ديفيد مع أطراف “أوكوس” وبقية دول “الناتو” سيخلق توازناً جيوسياسياً مغايراً في منطقتي المحيط الهادئ والهندي دفعة واحدة وخلق حرب باردة جديدة مع الصين في انتظار ما تسفر عنه الأيام القادمة من تنسيق وتقارب بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية وربما الهند في مواجهة هذه التحالفات الدولية الجديدة على الساحة العالمية.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب