احتل شهر رمضان بعاداته وتقاليده وروحانياته مكانة كبيرة فى وجدان الشعراء، قديما وحديثا، حيث حاولوا التعبير عن الطقوس المصرية فى هذا الشهر، ووصف حياة المصريين وكيفية استقبالهم وحياتهم فيه، وقد لفت هذا الأمر نظر النقاد الذين تسابقوا على تحليل تلك الأشعار التى تناولت شهر رمضان، وإبراز فنياتها، واستخلاص ما تعكسه من حياة المصريين فى الشهر الكريم.
وبالمثل فإن عددا كبيرا من الروايات العربية قد تناولت فى أحداثها حياة المصريين فى رمضان، ورغم أن التناول النثرى كان أقل كثيرا من التناول الشعرى، فإنه كانت هناك أعمال روائية تمكنت بالفعل من التوغل فى الحياة الاجتماعية للمصريين والتعبير عن دقائق حياتهم فى رمضان، ومن الطبيعى أن يكون أديبنا الكبير نجيب محفوظ فى مقدمة هؤلاء الروائيين بما عرف عنه من براعة فى الحديث عن الحياة الاجتماعية للمصريين، لا سيما الطبقات الشعبية منهم.
وقد تناول محفوظ شهر رمضان فى أكثر من عمل، مثل «الثلاثية» التى تحدث فيها عن عادات بعض أبناء الطبقة الأرستقراطية فى هذا العصر من الاحتفال الظاهرى بشهر رمضان دون الالتزام بتقاليده ولا عباداته، وذلك فى حوار يدور بين كمال «الابن الأصغر للسيد أحمد عبد الجواد» وصديقه الثرى حسين شداد وشقيقته عايدة:
«ابتسم كمال فى حياء، ثم أشار إلى ما تبقى من السندويتشات والبيرة قائلا: بالرغم من هذا، فإن احتفالكم بشهر رمضان يفوق كل وصف، أنوار تُضاء، قرآن يُتلى فى بهو الاستقبال، المؤذنون يؤذنون فى السلاملك، هه؟
قالت عايدة باسمة: وأنا..
فقال حسين بجد أريد به السخرية: عايدة تصوم يوما واحدا من الشهر، وربما أفلست قبيل العصر.
فقالت عايدة على سبيل الانتقام: وحسين يأكل فى رمضان أربع وجبات يوميا، الوجبات الثلاث المعتادة ووجبة السحور».
أما فى «المرايا» فقد تحدث محفوظ عن عادات الأطفال فى اللعب واللهو فى رمضان:
«وكانت ليالى رمضان فرصة هنية للصغار من الجنسين، يجتمعون فى الشارع بلا اختلاط، ويتراءون على ضوء الفوانيس وهم يلوحون بها فى أيديهم، وكنا نترنم بأناشيد رمضان ونتبادل مشاعر الحب وهو كامن فى براعمه المغلقة».
وتبقى رواية «خان الخليلى» العلامة الكبرى فى أدب نجيب محفوظ التى تصلح بالفعل أن تكون مرجعا للحياة الاجتماعية الشعبية فى رمضان، حيث حرص على نقل أدق تفاصيل حياة الأسرة المصرية، وذلك من خلال أسرة بطل الرواية «أحمد عاكف» التى انتقلت من سكنها فى «السكاكينى» إلى حى «الحسين»، وتمثل الأم هنا نموذج المرأة المصرية التى تستخدم كل الحيل والضغوط على رب البيت «ابنها أحمد عاكف» لكى تنتزع منه تكاليف مستلزمات رمضان، يصور ذلك محفوظ، بأدق تفاصيله، فى حوار طويل يدور بينهما:
«واقترب شهر رمضان فلم يعد بين هلاله وبين الطلوع سوى أيام قلائل، ولكن رمضان لا يأتى على غرة أبدا، وتسبقه عادة آهبة تليق بمكانته المقدسة، ولم تغفل أم أحمد عن ذلك… فجعلت منه يوما حديث الأسرة، قائلة: إنه شهر له حقوقه كما له واجباته.
وكان قولها موجها لأحمد، فأدرك مغزاه، وقال مدافعا عن نفسه: رمضان له حقوق ما فى ذلك من شك، ولكن الحرب ضرورة قاسية جارت على جميع الحقوق!
فقالت الأم بلهجة دلت على عدم الارتياح: لا قطع الله لنا عادة…. والنَّقْلُ والكنافة والقطائف؟ (النَّقْلُ: ما يُتفكَّه به من جَوز ولوز وبُندق ونحوها)..
ووقعت هذه الأسماء من نفسه موقعا ساحرا ــ على استيائه ــ لا لاشتهائها فحسب، ولكن لما دعته من ذكريات الشهر المحبوب وعودة الصبا خاصة…».
ويستمر الحوار الذى تستخدم فيه الأم، كعادة ربة البيت المصرية، كل الحيل للحصول على أكبر المكاسب الممكنة، مع مساندة الأب لها:
«قال عاكف أفندى أحمد الأب: حسبنا قليلا من الصنوبر والزبيب لضرورتهما فى الحشو، ونصف لفة قمر الدين لتغيير الريق، ولنقنع من الكنافة بمرة واحدة، والقطائف بمرتين….
ــ واللحوم؟
فقالت أمه بما لها عليه من دلال: سمحت الحكومة ببيع اللحوم طوال الشهر الكريم، وما ذلك إلا لأن قطعة اللحم حقيقة بأن تسند قلب الصائم المتهالك…».
ولليلة الرؤية طقوس معروفة فى المناطق الشعبية، يرصدها محفوظ بدقة شديدة:
«وجاء مساء الرؤية، وانتظر الناس بعد الغروب يتساءلون، وعند العشى أضاءت مئذنة الحسين إيذانا بشهود الرؤية…. وازينت المئذنة بعقود المصابيح مرسلة على العالمين ضياء لألاء، فطاف بالحى وما حوله جماعات مطبلة هاتفة: صيام صيام كما أمر قاضى الإسلام. فقابلها الغلمان بالهتاف والبنات بالزغاريد، وشاع السرور فى الحى كأنما حمله الهواءالسارى».
ومعروف عن نجيب محفوظ اهتمامه بعرض أدق التفاصيل دون إسهاب ممل، حتى يُشعر القارئ أنه يعيش الحدث بنفسه، وهذا ما يفعله وهو يرصد اليوم الأول لصيام أحمد عاكف، ففيه «كابد تعبا مرهقا، فشق عليه ألا يشرب قهوته ويدخن سيجارته على الريق، ومضى إلى الوزارة متوجع الرأس متثائبا، وغالب تعبه مغالبة يائسة حتى دمعت عيناه من التثاؤب واسترخت جفونه….».
أما الساعة الأخيرة قبل الإفطار، بتوترها وانتظارها، فيشعر كل قارئ كأن الكاتب يتحدث عنه، وذلك من فرط براعته فى نقل تفاصيلها:
«ودعاه المطبخ إلى الوقوف بعض الوقت عند عتبته، فأجال بصره فيه متشمما فطاف بطبق كبير حفل بمواد السلطة…. فانشرح صدره وتحلب ريقه، وانتقل إلى سلطانية الفول فلم يستطع صبرا وزايل مكانه، وفى الصالة مر بالسفرة وقد هُيئت…. فهُرع إلى غرفته وأغلق الباب. وكان قد أبقى الأهرام بغير قراءة ليتسلى بمطالعته فى الساعة الأخيرة المعروفة بشدتها وثقلها، فأكب عليه حتى فرغ منه، ونظر فى الساعة فعلم أنه لا يزال عليه أن ينتظر نصف ساعة أخرى..».
أما لحظة الطعام، فيصفها بما فيها من فرحة الإفطار والنهم فى الإقبال على الطعام: «وهتف المؤذن بصوته الجميل: الله أكبر.. الله أكبر، فأجاب أحمد بصوت مسموع : لا إله إلا الله، والتأم شمل ثلاثتهم حول السفرة، ثم غيروا ريقهم على عصير قمر الدين حتى رووا ظمأهم، وأتت الأم بطبق الفول المدمس فأقبلوا عليه بنهم شديد وتركوه أبيض من غير سوء…. ولكن لم يزل فى البطون متسع، فجىء باللوبيا والفلفل المحشو واللحم المحمر، وتعاونت الأيدى والأعين والأسنان فى عزم وسكون…».
ويستمر السرد حتى يصل إلى العشر الأواخر، ويصف طقوس صناعة الكعك والبسكويت بدقة لا تقل عما سبق.
وهكذا فقد تمكن أديب نوبل من نقل الطقوس والعادات الشعبية فى روايته بدقة كبيرة، وبلغة أدبية ممتعة تقرب الحدث من وجدان القارئ.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب