علي عمر التكبالي يكتب.. رفة عصفور
بيني وبينكم طريق مغبر طويل يقف في تلافيفه سياف بعين في جبهته، وعين في قفاه. أن أكتب ما في قلبي احتضار، وأن أقول ما في صدري زفرة، وأن أصرخ في وجه الجلاد عبادة.. وكما تفعل العصافير حين تقف ما بين الهواء والهواء أصفق بجناحي وأغرد، فأرتفع كما الحلاج في السماء سحابة دماء، ما بين البحر والفضاء.
“إلى عاشقي الحرف”
أن تكون مثقفا فليس ذلك شرفا ولا ترفا، بل كرامة أمدك الله بها كي تقود رأيا، وتتقدم جمعا. ليس من حقك أن تجلس في ركن معتم، كي تدبج مقالة، أو تكتب رسالة ثم تدعي بأنك قد قمت بواجبك، ورميت ما على عاتقك.
واجب المثقف ليس إنشاء رسالة، بل تبليغ الرسالة التي حمّلها إياه الله، والدفاع عنها، والموت دونها، فالحرف كي يتفرع ويصير كلمة، لا يينع إلا بالتضحية، ومن ثم يتصور جملة تطير في السماء.
أن تكتب وتقول، ثم تقول وتكتب، وأنت جالس على المكتب ترف، وأن ينعتوك بأنك كاتب قدير شرف، ولكن مهنة الحرف شغف، وعناء مرير نحو الهدف.. صحيح أنك تكتب لتقول، ولكن عليك أن تترك الكسل، وألا تخشى البلل، وأن تخوض الطين والوحل.
أخي الكاتب فلان، وزميلي الفنان، وصديقي الذي كان أيام زمان يشاركني الأفراح والأحزان.. أدعوكم للقدوم إلينا، والنزول معنا كي نحمل الكلمة إلى غايتها، والخطوة إلى منتهاها.. نحن هنا في أكفاننا المعطرة، أمام المقبرة قدر البشر، ونهاية الدرب لكل عمر، نحمل عصافير الشوق لكي تغني لتخرس القنابل، ونحمل الشموع التي ستضيء المداخل.. لن تخيفنا بندقية ظنت أنها تحمل الأجل في فوهتها، ولا صيحة من حنجرة ادعت أن أمر الله يخرج من لهاتها، ولا شراذم سرقت الحلم، ثم أتت على العلم.. نحن هنا كي نخطو رغم الألم، ونقول.. ثم نقول، ونقول، ونقول حتى يصبح القول فعلا.. فاهرب من ذاتك كي تلقانا، وافتح قلبك كي ترانا.. وإذا ما أتيت، ستعرف أننا الجرح الذي يدمي السكين، والدمع الذي يقهر الأنين، والصبح الذي علم الليل أن يستكين. أبعد عنك ما رسبه الماضي في قلبك، حبك وكرهك، وما دسه الزمن في صغرك، وما عانيته من ظلم في عمرك. فقط ضع الوطن المسكين يتوسد كتف فكرك، وأقدم لعلنا ننقذ ما تبقى من روحنا.
“معزوفة عشق”
أول قبلة كانت أمي، وأول ضمة،
بعدها تعلمت أن أحب المرة تلو المرة.
وحين صار الحب عند النساء خدعة،
ارتميت تحت قدميك يا حلوة الحلوى
كي أدخل الجنة.
“خواطر ترفض الحبس”
- المرأة ليست دلوا مليئا بالذنوب يصب كدره على الملأ.
- البارحة كانت الظلمة حالكة، بحثت عن أصدقائي فلم أجد غير حفنة.
- استمعت لناي ينادي دون جدوى، فقطفت زهرة في الربيع ثم نفرتها، لأني رأيت الخريف متنكرا.
- الذين يفتخرون بفحولة غيرهم ينجبون أطفالا غير شرعيين.
- هل نحن في أزمة.. أم في زمن انحسار الأزمة، أم في أزمة الانحسار؟
- حينما تمشي لا تجعل الشمس وراءك حتى لا يكون ظلك أقصر منك.
- هذا الصباح فتحت النافذة، سمعت العصافير تغني.. بسرعة أغلقت المذياع.
- حتما هناك شمس، ولكن بعض العيون لا ترى ما وراء أهدابها.
- القلب الذي يحب لا ينقفل أمامه باب.
- قالوا إن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، فقلت إن الرحلة تبدأ بفكرة.
- صفير الريح لا يعني أن العاصفة أسقطت النخيل الباسقة.
- البحر والجمل والوقت وصفة الثورة.
“رثاء الحقوق المدنية”
لا أعرف لماذا أشعر بالحزن كلما تكلمت عن المنظمات المدنية، ولماذا يتسربل فمي بالعلقم كلما تفوه أحدهم بكلمة الحرية.
خبرنا المعرفة الأولى في الكتاتيب المنبثة في المدينة، حيث جلسنا كالفراخ المشرئبة الرقبة فوق الحصير، نستمع للشيخ الضرير يقرأ بلا لسان: “ولا الآخرة خير لك من الأولى…”، ثم كبر شوقنا فأرسلونا إلى المدرسة، كي نصادق المعرفة، ونمسي أساتذة.. قطعنا أزقة المدينة المغبرة بأقدامنا الصغيرة، وخضنا الحفر الحبلى بالكدر والحصى كي ننتشي بروائح الشجرة الجميلة، ونتسلق أغصانها الظليلة.. هناك علمنا الأستاذ أن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وأن الكلمة الصادقة في سدرة المنتهى، وأن الله فوق العلا.. تنشقنا عبير الحرية في صوت معلم حزين، وحلمنا براية الانعتاق حينما قرأنا حروف كاتب رزين، وذبنا طيوبا في سماء الوطن، نلهث خلف المتظاهرين، ونلفظ الغازات السامة من عيون لا تستكين.
وبعد دفقات العلم التي استوطنت تلافيف أدمغتنا، وأضاءت بصيرتنا في الجامعة، انتشرنا في عالم الحياة الواسعة، فقرأنا عن “جان جاك روسو” وعقده الفريد، وعن “فرانسيس بيكون” وكفاحه العتيد، وعن “توماس جيفرسون” وميثاقه الجديد، وعن “محمد أمين” “وهدى شعراوي” ولحظات الانطلاق، وعن أحمد فريد، وعبد الكريم الخطابي في كلم الاشتياق، وعن أحمد عبد العزيز وجميلة أبو حيرد وعمر المختار في سكرة الاحتراق.. أسماء كثيرة لا شك اختفت من ذاكرتي، وانزوت في ركن مخيلتي، فهذه النفوس حتى في حياتها لم تستطب إلا مماتها.. اعذروني فالكيس الساخن الذي حملته أبدا فوق الكتف الواهن، أسقط الكثير من الأوراق فوق الدروب الشقية، فتناثرت الآلاف من البذور النقية.. اعذروني فالأبطال كثر، والأيام تفر ولا تكر، والعقل قد أضناه الهم وعديد الفكر.
وحين خلصنا إلى دروب الحياة لم نستكن للجهل الممتد غماما من الحد إلى الحد.. نبشنا في الكتب والدفاتر، واستمعنا للخطب في المنابر، وسرنا نتنشق أريج المعرفة في الدروب المقفرة، والصالونات المترفة.. هناك اصطكت آذاننا بوجيب النبض في قلب “مالكولم إكس، ومارتن لوثر كنج” يعلنان بسلاح الوعي الحرب، وبصوت العيون العنيدة عند “روزا باركر” وهي تتربع بإصرار في الحافلة المحرمة على السود. ووجفت قلوبنا من نظرات “جارودي، ونعوم تشومسكي،” وخجلنا من رفاة “راشيل كوري” وهي تتحدى الدبابات الصهيونية.. رأينا القول يتحول إلى فعل في “تيامين سكوير”، وعند “مانديلا”، و”ديزموند توتو” وفي ضفائر “جميلة أبو حيرد وسناء محيدلي”.
وفي بلادنا رأينا الضوء يخرج من الظلمة قبسا، حين قتلوا “عامر الدغيس، ومنصور الكيخيا”، وزاد القبس توهجا حين شنقوا “محمد حفاف” في غمضة عين و”رشيد كعبار” المتين، ويطير عمامة من الشيخ البشتي المكين ثم ينطلق برقا حينما رفت السنونوات في الميادين.
ثم، بعد أن ظننا أن وهج الفجر بان، وأن السناء دان، خرج علينا قوم لم يعوا ما فات، وكأنهم لم يكونوا جزءا من التراث. وفي عهد سرقت فيه مشاعل الحرية شخوص تكره الحرية، تضاءلت الكلمة المكافحة، وانزوت الزهور المتفتحة. عهد لم تشهده بلادنا حتى خلال زمن الركوع تحت ضربات المحتلين. فكان قطع الرؤوس بالسكاكين والفؤوس، والتبجح بتمزيق الأوصال، وسرقة الأموال، فانضمت عصافير “مفتاح أبو زيد، وعبد السلام المسماري” إلى أسراب الطيور المسربلة بالدماء في سماء الوطن، تشكو للتاريخ سراق الزمن.
لا أعرف لماذا أشعر بالحزن كلما تكلمت عن المنظمات المدنية، ولماذا يتسربل فمي بالعلقم كلما تفوه أحدهم بكلمة الحرية. ألأني لم أسمع إلا الكلمة المكلومة، وعبارات التسول من الحكومة، والدعوة إلى المهرجانات المحمومة. أم لأني تماديت في خطبي، وبالغت في طلبي، وأنا أبحث عن أسماء تخرق الحجب!
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب