رأي

علي عمر التكبالي يكتب.. سوء التفكير في الشرق الأوسط الكبير

نقفز من الفرحة العارمة، ونحن نشهد سقوط الأنظمة الفاشلة التي لم تغط عيوبها، وأهملت العلاقة الودية مع شعوبها، ونهلل للجماهير الغاضبة وهي تخرج إلى الشوارع المغبرة، تحت رعاية من قنوات داعمة. وفي زخم الحماس، يغيب العقل ويزداد البأس، ونندفع بقوة نحو المجهول، مقتنعين بأن السلطة الملعونة يجب أن تؤول إلى الأفول كي نسترد حريتنا المرهونة. ورغم أنني أؤيد الجموع في انعتاقها إلا أنها في ذروة حماسها تغفل عن الجهة التي توجهها فتنساب طائعة لمخططاتها، وتنقض على مقدراتها، وتتلف معتقداتها، حتى تصبح الفوضى العارمة هي الشائعة.

لا شك أن المتأسلمين قد لعبوا دورا رئيسيا في توجيه الجماهير إلى الهاوية التي كانت معدة لهم باتفاق مشبوه مع القوى الباغية، وكالعادة زوّروا “تاريخ معاناتهم” ليبيعوا للناس معتقداتهم، وامتطوهم كي يتسلطوا على كل شريحة في الدولة، تتيح لهم السيطرة عليها والتفرد بحكمها.

وفي خضم الحماس المفرط، وغياب المنطق، والخوف من الخطر المحدق أحس بعض الأمنيين بالخدعة، ورصدوا من يدير اللعبة، فاكتشفوا الدول الفاعلة، واتصلوا بالدوائر التي ما زالت قائمة، ولكنها كانت مكبلة، فأصابهم اليأس والقنوط، ولجؤوا إلى تبادل المعلومات مع الثقات الذين ظلوا يشككون في الدول المتدخلة، ويرقبون المسرحية المهزلة.

ورغم حسن إدارة المؤامرة، وسرية الحركة، والاتصالات الواسعة إلا أن أمر الإخوان افتضح، ومأربهم انكشف نتيجة تلهفهم على السلطة، وتسرعهم في التهام الكعكة. وكانت خسارتهم فادحة في الانتخابات الأولى، رغم متاجرتهم بما عانوه في سجن أبي سليم، وتضخيم جرائم النظام السابق، الذي خرجت الجماهير من أجل إسقاطه، فلم يجدوا إلا التحالف مع باقي التنظيمات المتأسلمة من أجل كسب جمهرة مثمرة. ولكن وحشية هذه التنظيمات، واعتمادها منهج الذبح والتصفيات وطّن لدى المواطن البسيط حقيقة مأربهم، وعجل بسوء منقلبهم، حتى جاءت الانتخابات سنة 2014 فأودت بكل حيلهم، وأفضت إلى إفلاسهم المعنوي، وإسقاطهم المدوي. ومما زاد في تململ الناس منهم إمساكهم بخناق كل مؤسسات الدولة، والمضاربة بسعر العملة، والإسهام في الواقع المزري بتخطيطات لم يستطيعوا مع الزمن مداراتها.

نحن لسنا ضد التغيير، بل نراه منطلقا إلى تفكير أوسع يقود إلى آفاق أرحب، ولو أن حكام الدول التي شهدت الثورة استمعوا للكثرة، وأهملوا تأثير الصفوة، وأعملوا القليل من التدبير، وتواءموا مع شعبهم الفقير، لما نجحت هذه “الثورات،” ولما أفضت لكل ما هو آت.

فبينما كان الحاكم الإقصائي الفاسد في الساحة العربية يجلس على أريكته مطمئنا إلى وداعة القطيع، كانت الأيادي الخفية تخلط الرمل بالماء ليزحف التراب على الجموع بأمر عرابي “الربيع” الذي بانت نواياه في كتابات ونظريات جمة بشرت باجتياح الأمة برا وبحرا وجوا. ولأننا شعب لا يقرأ، وإن قرأ يقرأ فقط السطور الغامقة، فقد غفلنا عن المضمون، ومن فهمه فنبّه قومه، قابلته عيون ذابلة، وآذان مغلقة، وقلوب مصمته، فارتد إلى مكمنه يعاني الغربة في وطنه.

تذوقنا السم الحلو في وعود “هنري كسنجر،” وانتشينا بتنبؤات “بريجنسكي،” وغفلنا عن تهديدات “برنارد لويس” لتقسيم المقسم، وتهميش المهمش.

وحينما خرجوا علينا بطوفان حرية النساء، وحقهن في الحياة التي كانت مطلبنا دائما، لم ننتبه إلى غرض الملياردير “جورج سورس” مدمر الاقتصاد ومنهك العباد، وهو يدفع الأموال الطائلة لتكون المنظمات المدنية لقمة سائغة، بالتركيز على النساء ليفسح الطريق “لسيداو” القادمة. والأدهى أننا استمعنا معجبين بمقولات “برنارد لويس” وهو ينظّر لتقسيم الشرق الأوسط مستبعدا العرب من مواقعهم التاريخية، ومقحما إسرائيل والأمة التركية كلاعبين أساسيين في معركة خفية. ومن ثم جاءتنا منظمة “فريدوم هاوس” تنتقي القلة من المجتمع العربي الغافل ليشارك في أكبر خدعة يقوم بها أعراب مفتخرون بأنهم أحضروا كصفوة، لتأكيد دور المجتمع المنفتح على الآفاق الأخرى، ولم يسأل أي منهم نفسه لماذا يختارونه وهو النكرة في عالم التفكير والفكرة. ويتقدم “جين شارب” بمقترح القضاء على العسكر لكي ينتصر الفكر الحر. ورغم أننا ندين العسكرتاريا في كثير من الممارسات القمعية والانفرادية، والمغامرات الوهمية، إلا أن نظرية هذا الرجل لم تأخذ في الحسبان طبيعة الوسط، ولا تطلعات الشعب، واعتمدت على معتقدات غربية عتيقة أثبت الزمن أنها لم تكن دوما صائبة في إسقاطها على الشعوب الأخرى، ولم يكن مأربها قيادة الجموع إلى نهايات أسمى.

وأخذ “برنارد ليفي، وجاريد كوهين” دور التنفيذات الميدانية. فاضطلع الأول بالاتصال “بالثوار” تحت غطاء المساعدة على إسقاط الدكتاتورية، متلفعا بشبكة دعائية، فتلقوه بالأحضان، وقبلوا أنفه، ولحسوا مؤخرته، وأخذوا الصور المموهة، وتبادلوا الأنخاب المحرمة، وسلموا زمامهم، فسهل قيادهم، وهم يرونه يمدهم بالسلاح ليقتل بعضهم بعضا. أما الثاني فقد أكمل الدور التمويهي القاضي بقيادة الرأي العام في مجتمع مفتون بإنجازات الغرب، في صفحات خلابة من الفيس بوك، والتيك توك، واليوتيوب والإنستغرام تمهد إلى تغييب الوعي الذي هو أصلا مغيب.

ولم يكن هؤلاء الفاعلون وحدهم في الميدان، فقد شابت أصواتهم نشازات تبشر بصراع الحضارات “لهنتنجتون،” ونهاية التاريخ “لفوكوياما.” والذي يثبت أن الأمر كان مبيتا هو غزو أفغانستان رئة آسيا، وتدمير العراق مفتاح العالم العربي الشرقي، ومن ثم تصريحات “رامزفيلد” اللامسؤولة بزرع الفوضى الخلاقة في سبع دول عربية.

والغريب في الأمر أن كل هذه النظريات والترهات الفكرية التي تنادي بهيمنة التيار الليبرالي الغربي أتت من المحافظين والصهاينة الحالمين بعالم تسوده أفكارهم البالية، وهم الذين ابتدعوا وشجعوا الغلو الديني الإسلامي ثم ادعوا أنه هو الذي يقود إلى زعزعة استقرار العالم النامي، ونسوا تصريحات “مانوارينج” المقيتة عن الانهيار الداخلي بقتل الأطفال ونشر الأمراض لتقليل سكان العالم كي تبقى الصفوة الليبرالية القوية هي الحقيقة. وهذا الشعور بالتفوق ليس جديدا على الغرب الطامح للهيمنة على مقدرات العالم، فهم دائما يدعون أن ميراث حضاراتهم يأتي من الحضارة اليونانية والرومانية، كأن باقي الحضارات لم تضف شيئا لثقافة وعلم الناس أجمعين. وهذا الادعاء هو الذي قاد وسيقود أكثر إلى توجس البشر الآخرين من هذا الفكر الأناني الإقصائي المشين.

ويدعي هؤلاء أن الشرق الأوسط هو بؤرة المشاكل في العالم، وأنه يجب إعادة تقسيمه إلى دويلات متجانسة إثنيا ودينيا كما يقول “رالف بيتيرز” في فصل من كتابه (لا تترك القتال أبدا) المثير، و”كونداليزا رايس” بتصريحاتها الغائمة حين نادت بالشرق الأوسط الكبير. ويلاحظ القارئ أن كل هذا كان قد حدث خلال سنة 2006 زمن المعاهدة السرية بين قيادة الديمقراطيين الأمريكيين والإخوان المسلمين، أيام باراك أوباما “المسلم!” وهيليري كلينتون الناعمة. وأكبر دليل على سوء نيتهم هو أن لا أمريكا ولا أوروبا تتمتعان بتجانس إثني عدا هيمنة الجنس الأبيض على باقي الأجناس، ولعل الحركات الانفصالية في كلتا القارتين: في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا وقبرص واليونان وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا وغيرها، وحتى في أمريكا نفسها خير دليل على سفه هذا الفكر المنفرد. وينسى هؤلاء أن الذي حفظ أوروبا وأمريكا من التفسخ ليس التجانس الإثني أو الديني، ولكنها البحبوحة الاقتصادية بعد سنين الحرب الدامية والتي سموها الحرب العالمية، وهي حروب على الهيمنة فيما بينهم. ولم يختلف الجمهوريون كثيرا عن زملائهم الديمقراطيين، فقد استأنف الرئيس ترامب العمل بتسليم زمامه لصهره جاريد كوشنر الذي دأب بصبر على تقسيم كل منطقة الشرق الأوسط بما فيها الدول التي هي صديقة تاريخيا لهم، مثل المملكة العربية السعودية. ولشق الصف ادعى أن الدول الصغيرة التي تجاور المملكة ستبقى كما هي ليزيل وهما متوطنا فيها بأن المملكة سوف تبتلعها عاجلا أو آجلا، فتسهو هذه الدول عن الحقيقة المطلقة، بأن المصالح الذاتية أكبر من المنطقة.

لا شك أن أمريكا تمر بأزمة منذ الانحسار الذي شهدته خلال 2008 والتي ظلت البلاد تعاني منه كل أربعين سنة تقريبا، ولكنها أثبتت دائما قدرتها على الخروج منها سالمة. ورغم أننا قد نتفق مع الذين يقولون بزوال سطوة أمريكا المنفردة، إلا أننا نؤيد الحقيقة الكاملة في قوة أمريكا الكامنة، وقدرتها على الوثوب فوق المستنقعات الآسنة.

ربما ما نقوله يبدو قاتما ولا يبشر بخير، فليكن، لأننا لم نتعود في تحليلنا على إهمال الواقع والحقائق والعبر، ولكننا لا نفقد الأمل في الصفوة الأمريكية ونزعتها الإنسانية التي لمسناها في شعب يتحيز للمهاجرين والجوعى، ويمد يديه للمصابين والمرضى. إن نبع الخير في أمريكا لا ينقطع، والإصرار على تبيان الحقيقة لا ينضب. رأيناه شعبيا في الستينيات في مظاهرات المطالبة بالحقوق والمساواة، ولمسناه رسميا في آراء الرئيس كينيدي والرئيس كارتر، وحتى على المستوى الشخصي برزت أسماء تصدح بالحق، متلفعة بعلم الحرية الذي ورثته أمريكا من إبراهام لينكولن. وهذا هو الذي مكن أمريكا من أن تتعافى من أزمتها دائما لما تتمتع به من ديناميكية وبلاستيكية مرنة. ولا ننكر أن عنفوانها وهيمنتها ساعداها على ذلك كثيرا، فبعد فرض الدولار كعملة موحدة وتحصينه بالذهب بعد “الحرب العالمية” والبحبوحة المنعشة في أمريكا أثبتت صدقيتها في كثير من المواقف حتى أن الرئيس “روزفلت” اضطر لمصادرة الذهب الخاص للمحافظة عليها، وبقي الأمر كذلك حتى جاء الرئيس “نيكسون” في أول السبعينيات وفك ارتباط الذهب بالدولار. وزاد الأمر تعقيدا حينما أخذت الولايات المتحدة تصك الدولار طبقا لاحتياجاتها.

يتساءل القارئ لماذا الإصرار على دور أمريكا في زمن “أفولها” وانحسار نفوذها، وتذمر أصدقائها من هيمنتها، وبزوغ دول تنازعها سطوتها! نقول إن سقوط أمريكا، الإمبراطورية اليافعة لم يأت بعد، وإن هذه الإنذارات بالذات هي التي تحفزها لتغيير خطتها. فإذا ما استطاع القارئ العادي ملاحظة تجمع دول “البريكس” وإصرارها على تأكيد دورها على حساب هيمنة أمريكا، فهل لا تراه أمريكا بخبرائها، ومخابراتها؟

إن ما نعول عليه في عالمنا العربي المسكين الذي يعاني الإهمال والإمهال حتى يتم الالتهام هو ديناميكية السياسة الأمريكية الدائمة وإخضاعها للمراجعة. يعي الساسة والمشرعون في أمريكا أن مضيها في هذا الطريق الخاطئ الذي اعتمد التخويف والهيمنة للحصول على مكاسب باهرة، لن يستمر في ظل الدول الناهضة، وهي دول ليست في مستوى “نمور آسيا” كي تحتويها، ولكنها في مستواها هي وقد تتعداها. ولكي تحافظ على تماسكها عليها أن تتعامل مع حليفاتها بطريقة تختلف عن سابق تعاملاتها. فمن كان تلقائيا يتضامن معها رغم أنفه، ومن كان يقف في صفها على حساب وطنه لن يفعل ذلك في وجود “البريكس” الناشئة. ليس لأنه في الزمن الماضي لم تكن هناك كتلة أخرى، ولكن لأن أمريكا بتعديها كل الخطوط الحمر أبانت لأصدقائها بأنها مصدر الخطر، فلا بد من وقفة حيال هذا الأمر.

لعل غلبة العقل الواعي في هذه الدولة المهيمنة تردع المتهورين التائهين في يباب العنصرية المظلمة، ليفهم الجميع أنه لا أحد يملك الميزان في كوكب بدأ يفقد الميزان.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى