
في الخامس والعشرين من مايو من كل عام، يتوقف الزمن في القارة الإفريقية لحظة تأمل واستحضار لذاكرة النضال الجماعي. إنها ليست مجرد مناسبة رمزية أو احتفال رسمي؛ بل هي محطة سنوية تُعيد للأذهان صوت التحرر، وتُنعش في القلوب وهج الكفاح من أجل الكرامة والسيادة، وتفتح أبواب التأمل في مشهد الحاضر والتطلع إلى المستقبل.
إنه يوم إفريقيا؛ اليوم الذي وُلِدت فيه منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963، على يد جيل من القادة الاستثنائيين، الذين لم يكتفوا بإعلان الاستقلال عن الاستعمار، بل سعوا إلى تأسيس كيان قاري يجسد تطلعات الشعوب ويمنح القارة صوتًا موحدًا في عالم مليء بالتحديات.
كان أمثال كوامي نكروما، وجمال عبد الناصر، وجولياس نيريري، وحواريون آخرون، أصحاب رؤية تتجاوز حدود الجغرافيا. لقد أدركوا أن ما جرى من استعمار خارجي لا يمكن التصدي لآثاره إلا بتوحيد الجهود وتعزيز التعاون بين الدول الإفريقية، فكانت الوحدة خيارًا استراتيجيًا وليست مجرد أمنية عاطفية.
ورغم مرور عقود على ذلك المنعطف التاريخي، لا تزال إفريقيا تقف عند تقاطعات مصيرية، بعضها يحمل فرصًا واعدة، وبعضها الآخر يمثل تهديدًا للاستقرار والطموح. فالتبعية الاقتصادية، والصراعات الداخلية، وضعف أنظمة التعليم والصحة، ما تزال تحديات قائمة، لكنها ليست قدرًا محتوما، بل استحقاقات ينبغي تجاوزها بإرادة إفريقية خالصة.
لقد أثبتت الأحداث أن النهضة لا تُستورد، وأن التنمية الحقيقية تُبنى بأيادي الشعوب، لا بأوامر من الخارج. فالمعركة التي تخوضها القارة اليوم لم تعد مع الاستعمار التقليدي، بل مع أشكال جديدة من الهيمنة الاقتصادية والثقافية، تتطلب وعيًا متجددًا واستثمارًا حقيقيًا في القدرات الذاتية.
الاقتصاد، بوصفه محرّك التطور، ينبغي أن يكون في قلب مشروع النهضة الإفريقية. فرغم وفرة الموارد الطبيعية، لا تزال كثير من الدول الإفريقية تعتمد على تصدير المواد الخام دون تصنيع أو تنمية للقطاعات الإنتاجية. وهنا، يبرز الدور الحيوي للتصنيع المحلي، وتطوير الزراعة الذكية، واحتضان التكنولوجيا، بوصفها مفاتيح التحرر الاقتصادي.
ومن أهم الأوراق الرابحة التي تمتلكها القارة هي طاقتها البشرية. فالأفارقة الشباب يمثلون الأغلبية الساحقة من السكان، وهم كنز إستراتيجي إن أُحسن توجيهه. إن تزويدهم بالمهارات، وتوفير بيئة تدعم الإبداع وريادة الأعمال، سيمكنهم من التحول إلى قاطرة للتنمية بدلاً من أن يكونوا ضحايا للبطالة أو الهجرة أو الصراعات.
كما أن المرأة الإفريقية، التي لطالما كانت قلبًا نابضًا للمجتمع، تستحق أن تتصدر مشهد التنمية. إن تمكينها من التعليم والعمل والقرار السياسي لا يعزز العدالة فقط، بل يقوي المجتمع كله، ويزيد من فرص الازدهار الجماعي.
وإذا كانت التنمية الشاملة تحتاج إلى بيئة مستقرة، فإن الديمقراطية الحقيقية لا تنبت إلا في تربة الوعي والثقافة المحلية. إن نقل نماذج سياسية جاهزة من الخارج لن يثمر دائمًا، بل قد يأتي بنتائج عكسية. المطلوب هو بناء نظم حكم تنبع من السياقات الإفريقية، وتؤمن بالمشاركة الشعبية، وتكرس قيم الشفافية والمساءلة.
في هذا السياق، تمثل “رؤية إفريقيا 2063” إطارًا قاريًا طموحًا، لا مجرد وثيقة إعلانية. إنها خطة تعبّر عن حلم القارة في بناء مستقبل مزدهر يقوم على التكاتف والتكامل. وترسي هذه الرؤية مبدأً جوهريًا: الإنسان أولًا. فبناء المدارس، وتحديث شبكات الطرق، وتوسيع خدمات الصحة، وتحفيز البحث العلمي، كلها استثمارات في الثروة البشرية الإفريقية.
ومن بين الإنجازات القارية المهمة، تبرز اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) كنقلة نوعية في مسار التكامل الاقتصادي. فهي ليست مجرد إطار تجاري، بل خطوة فعلية نحو إزالة الحواجز وخلق سوق قاري موحد يُحفّز النمو ويجذب الاستثمار ويفتح آفاق التصنيع المشترك.
لكن هذا الحلم لن يتحقق إلا إذا تشابكت أيدي القادة والشعوب، وإذا وُضعت المصالح القارية فوق المصالح الضيقة. فإفريقيا، بتاريخها العريق وتنوعها الثقافي، تملك القدرة على بناء نموذج تنموي فريد، لا يُشبه أحدًا، بل يستلهم من جذوره العميقة ويستجيب لمتطلبات العصر.
في يوم إفريقيا، نحن لا نحتفل بماضٍ مجيد فقط، بل نجدد الإيمان بمستقبل مشرق. إنه يوم لتجديد الالتزام بالوحدة، وإعادة التذكير بأن القارة لا يمكن أن تنتظر من يُنقذها من الخارج، بل تنهض حين تتصالح مع ذاتها، وتؤمن بقيمها، وتثق في قدرتها على التطور.
فلنُحوّل هذه الذكرى إلى منصة عمل، وإلى لحظة وعي جديدة، تضع القارة على الطريق الصحيح نحو التحرر الكامل، لا السياسي فقط، بل الاقتصادي والفكري والتنموي. وليكن صوت إفريقيا عاليًا، ومكانتها في العالم مستحقة، لا منّة من أحد.
كل عام وإفريقيا أقرب إلى ما تستحقه… قارة قوية، متكاملة، حرة، ومزدهرة بشعوبها، لا بثرواتها فقط.