رأي

رامي زهدي يكتب.. مراكز الفكر الأفريقية: العقل المدبر الغائب في معادلة صنع القرار؟

مركز "العرب للأبحاث والدراسات".. ركيزة مصرية بارزة في المشهد الفكري الأفريقي

الكاتب خبير الشؤون الأفريقية السياسية والاقتصادية، وملفات الاستثمار والتجارة البينية بالقارة، نائب رئيس مركز “العرب” ورئيس وحدة “الدراسات الأفريقية” بالمركز


في ظل التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتسارعة التي تشهدها القارة الأفريقية، تبرز الحاجة أكثر من أي وقت مضى، إلى وجود مراكز فكر وأبحاث وتنوير قوية، تمتلك القدرة على التحليل العميق والاستشراف المستقبلي، وتسهم في بناء السياسات العامة، وتشكيل الإدراك الجمعي للشعوب وصناع القرار على حد سواء.

اقرأ أيضا: رامي زهدي يكتب.. «لن يمر أحدهم مجانًا»

في أفريقيا، لم تحظَ مراكز الفكر والدراسات دومًا بالمكانة التي تستحقها، رغم ما تتمتع به من طاقات بحثية، وكفاءات تحليلية، وتجارب ميدانية فريدة. فقد ظلت هذه المراكز في كثير من الدول الأفريقية، إما معزولة عن دوائر القرار، أو محاصرة بضغوط التمويل، أو منشغلة بصراعات داخلية تعيق دورها الاستراتيجي.

مراكز الفكر الأفريقية

في هذا السياق، يظهر مركز “العرب للأبحاث والدراسات” أحد النماذج المصرية والعربية والأفريقية البارزة، التي نجحت خلال سنوات قليلة في فرض وجودها كلاعب أساسي في ساحة الفكر والتحليل الاستراتيجي الأفريقي، بل وأصبح يُشار إليه كمركز له وزن معرفي ومصداقية تحليلية وتأثير فعلي في تشكيل النقاشات العامة حول الشأن الأفريقي وكذلك العربي والدولي.

مراكز الفكر والدراسات والأبحاث الأفريقية: طموحات فكرية تبحث عن تأثير

رغم تعدد المراكز البحثية في أفريقيا، فإن حضورها وتأثيرها يختلفان من دولة لأخرى. ففي جنوب أفريقيا ونيجيريا وكينيا، نجد نماذج لمراكز بحث تحظى بتقدير محلي وإقليمي، وتشارك في صياغة السياسات. بينما في دول أخرى، تبقى هذه المراكز حبيسة أرفف النشر الأكاديمي دون تأثير ملموس، وربما يرجع ذلك إلي تحديات أساسية التي تواجه مراكز الفكر الأفريقية، منها ضعف قنوات الاتصال مع مؤسسات الدولة، وهيمنة التمويل الأجنبي وتوجيهه لأجندات غير وطنية، وكذلك وفي أحيان كثيرة؛ هشاشة البناء المؤسسي وعدم استدامة الموارد، ومع ذلك، فإن الإرادة المتجددة لدى بعض هذه المراكز، خصوصًا في مصر وبعض دول المغرب العربي، تمثل فرصة لتأسيس نهضة فكرية أفريقية جديدة ترتبط بالقارة وتخدم مصالحها.

العقل الاستراتيجي ومأزق الإقصاء السياسي مفارقة لافتة تعيشها القارة: فهي في أمسّ الحاجة للعقول التحليلية والاستراتيجية، لكنها في الوقت نفسه، تُقصي هذه العقول عن مشهد صنع القرار. فكثير من الحكومات الأفريقية تتعامل مع مراكز الفكر باعتبارها “ترفًا نخبويًا”، أو “تهديدًا سياسيًا”، بينما يتعامل معها المانح الأجنبي باعتبارها وسيلة لتنفيذ رؤى خارجية.

إن كسر هذه المفارقة يتطلب إرادة سياسية منفتحة، ووعيًا لدى النخب الحاكمة بأهمية الفكر والخبرات كمكون جوهري في عملية الإصلاح الشامل.

مركز “العرب للأبحاث والدراسات”.. نافذة مصرية على أفريقيا الواعدة

منذ تأسيسه، تميز مركز “العرب للأبحاث والدراسات” بمنهجية مختلفة توازن بين التحليل الأكاديمي الرصين، والتفاعل الإعلامي الحيوي، والطرح الوطني المدروس. ولم يكن انخراطه في الشأن الأفريقي مجرد مجاراة لاهتمامات ظرفية، بل كان تعبيرًا عن رؤية راسخة تؤمن بأن مصر لا يمكن أن تستعيد دورها القيادي دون حضور عميق وفاعل في أفريقيا، في وقت امتلك فيه المركز أدوات فاعلة ومؤثرة؛ منها منصات متعددة مثلت حضورًا متجددًا ذا ثقل، مثل الموقع الإلكتروني للمركز والذي نشر العشرات من التحليلات التي تتناول الأوضاع في السودان، وإثيوبيا، والكونغو، ومالي، والنيجر، والقرن الأفريقي، وكذلك إصدارات مطبوعة تمثل تقارير دورية وكتبًا تحليلية وورقات سياسية وأخرى تقديرات استراتيچية للمواقف والأزمات المختلفة، حيث سلطت الضوء على ملفات مثل التنافس الدولي في أفريقيا، وأزمات البحيرات العظمى، وسد النهضة، ومستقبل التكامل الاقتصادي القاري، وجوهرة منصات المركز هي مجلة “العرب”، وهي ذات المنصة التي تطل أعين القارئ الآن على هذا المقال، والتي يحتفل هذا العدد منها بالإصدار الـ40، وقد كانت المجلة منذ بدايتها منبرًا جادًا لتحليل القضايا الأفريقية بعمق ومسؤولية.

وكان من أبرز الملفات التي تناولها المركز وذات الصلة بالقارة الأفريقية، مشروع الربط بين بحيرة فيكتوريا والبحر المتوسط، ومسار مصر في دعم بناء الدولة في جنوب السودان، وكذلك التحولات في السياسة الإثيوبية وتداعياتها على الأمن القومي المصري، وقراءات استراتيجية في أدوار الاتحاد الأفريقي ومنظمات “الإيجاد” و”السادك” و”الإيكواس”.

وأيضًا تناول ملف الممرات الاقتصادية الجديدة في أفريقيا، إضافة الي تركيز كبير علي ملفات الهوية الثقافية والإعلامية الأفريقية.

مركز العرب إلى مستقبل فكري وبحثي أكثر إشراقًا فيما يتعلق بملفات القارة الأفريقية

يعمل المركز حاليًا على عدة مشروعات استراتيجية لدعم حضوره في أفريقيا، من خلال إطلاق تقرير سنوي شامل عن حال أفريقيا على كل النطاقات؛ سواء السياسية، أم الأمنية، واللقتصادية وكذلك المجتمعية، بينما يسعى مركز العرب إلى التعاون مع مراكز بحثية أفريقية لتأسيس شبكة فكرية أفريقية عربية مشتركة، بالتوازي مع تخصيص منح بحثية للباحثين الأفارقة الشباب ودعمهم بالخبرات، وبتوفير منصات النشر الإلكتروني والمطبوع والمرئي لهم، وأيضًا من ضمن خطط مركز “العرب” الطموح تنظيم منتدى سنوي حول الشأن الأفريقي من منظور مصري وعربي، ويسعى المركز للتعاون مع شركاء وداعمين في هذا الإطار من أفريقيا والوطن العربي.

دروس من القارة.. ونحو دور أكبر لمراكز الفكر

إذا كانت القارة الأفريقية تعيش لحظة تحولات كبرى، فإن مراكز الفكر يجب أن تكون في قلب هذه اللحظة. فصوت العقل لا يقل أهمية عن صوت الميدان. بل إنه الصوت الذي يضبط الإيقاع، ويقي من الانجراف، ويرسم خرائط الخروج من الأزمات، فالمرحلة المقبلة تحتاج إلى تطوير بيئة تشريعية تعزز من استقلالية هذه المراكز، ودعم وطني مستدام لا يخضع للتقلبات السياسية، وكذلك شراكات مع الجامعات والهيئات الدولية.

أخيرًا، إن أفريقيا تحتاج إلى عقلها الجمعي، وإن الدول تُبنى بالموارد، لكن الأمم تُبنى بالعقول. وفي أفريقيا، ما زالت هناك مساحات مظلمة تحتاج إلى من يُضيئها بالفكر، ويُحركها بالرؤية، ويُنقذها من عشوائية القرارات.

فلنُعد الاعتبار لمراكز الفكر، ليس كترف نخبوي، بل كضرورة وجودية لبقاء القارة على قيد الأمل.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى