رأي

د. دينا محسن تكتب ميتافيرس ومستقبل الثقافة الوطنية

عالم جديد ممسوخ الثقافة.. وهدم مفهوم خصوصية الثقافة الوطنية

دينا محسن

الكاتبة مديرة مركز «العرب 2030» للدراسات والأبحاث

مفهوم الثقافة الوطنية..
حمل مفهوم الثقافة الوطنية الكثير من التضمينات التي جعلت منه مشروعاً سياسياً وأيديولوجياً يوحي بأن الثقافة الوطنية هي ثقافة رسميّة، أي نتاج مؤسسات الدولة الوطنية الناشئة التي تستبعد أشكال الفعل الثقافي التي تجرى خارجها، وأن الثقافة تتسم بطابعها الفكري، وتشمل الهيئات والمنتجات الثقافية المشروعة؛ أي الثقافة العالِمة وليست الثقافة الشعبية، وبهذا اكتسبت طابعاً نخبوياً.

د. دينا محسن تكتب ميتافيرس ومستقبل الثقافة الوطنية

لكن الفهم المقبول للثقافة العربية في ذاك العقد لم يأخذ بعين الاعتبار بعدها الأنتربولوجي، لأن (الأنثروبولوجيا) كاصطلاح كان خاصاً بأولئك الذين يعنون بالبحث في أصل الحضارات وخصائصها المتميزة، خصوصا البدائية منها، وهذا الموضوع لم يكن يهم بشكل مباشر عالم الفكر في الأقطار العربية التي كان الكثير منها محكوماً بما يسمى (القضية الوطنية)، التي تمثلت في الكفاح من أجل الاستقلال أو لتحرير الثقافات الوطنية مما تعرضت له من تدمير في العهد الاستعمارى.

فمفهوم الثقافة الوطنية انسحب من التداول اليومي في مختلف المنابر والفضاءات في العصر الرقمي، فصفة الوطنية انفصلت عن الثقافة، وبدت الثقافة الرقمية كأنها في غنى عن أي صفة إضافية مكتفية بما تملك من دلالة تقنية تسمو على “ما هو وطني” أو تفيض عليه، وأوحت صفة الرقميّة ببعدها عن أي رهان سياسي وفكري، وهذا لا يعني أنها بمنأى عن أي نقاش أو جدل ذي طابع فلسفي في مساءلة علاقتنا بالتقنية.

د. دينا محسن تكتب ميتافيرس ومستقبل الثقافة الوطنية

مفهوم الثقافة الرقمية..
ويبدو أن مفهوم الثقافة الرقمية لا يثير أي خلاف، وذلك لأن الجميع يتفق على ما يوحي به من علاقة بين الثقافة والتقنية، لكن اللبس والغموض مازالا يكتنفان هذه العلاقة ذاتها، لذا أشار الأستاذ الجامعي كرستوف جنين (Christophe Genin  (إلى أن مفهوم “الثقافة الرقميّة” يحتوي على الكثير من الأشياء المختلفة والمتنوعة، مثل إجراءات التسجيل الصوتي والمرئي واسترجاع الصوت أو الصورة والمُعَدّات التي تستفيد من هذا الإجراء، مثل الكاميرا والهاتف ومُشَغِل الأقراص المدمجة أو المُنْتَجات المنجزة بفضل هذه الإجراءات التقنية.
ولعل هذا اللبس يعود إلى الفهم السالف للثقافة الذي حصره جيلي هاردوين (Julie Hardouin ( وألفريد منتسكيو (Alfred de Montesquiou ) في المستويين التاليين: يحيل المستوى الأول على حوامل الثقافة، ويشير المستوى الثاني إلى مسار التملك لكل ما اكتسب خلال التاريخ ومن الأجيال السالفة عبر الفكر. ويشمل على وجه الخصوص اللغة المشتركة، والمعارف العلميّة والأدبيّة، وهذا الفهم السالف مفيد في تحديد الواقع الذي يغطيه مفهوم الثقافة، ويؤكد صعوبة فصل الثقافة الرقمية عن الحوامل التقنية الراهنة التي تساهم في نشوء بيئة رقمية متكاملة.

فالثقافة الرقمية هي التعبير الرمزي عن التحولات العميقة التي يعيشها المجتمع في مجال الاتصال والتعليم والمعرفة والاقتصاد والسياسة والعمران والتنظيم الاجتماعي، لذا لا يمكن اعتبار رقمنة الثقافة مجرد عملية تقنية، وأن الثقافة الرقمية مجرد نقل الثقافة من الورق إلى بنوك المعلومات المَحشيَّة في بطون الخوادم والأقراص المدمجة وشبكة الانترنت، فلا تكمن علاقة الشبكات بالثقافة في الطريقة التي تعبر بها هذه الشبكات عن الثقافة الموجودة بمنأى عنها أو التي وجدت قبلها، ولا في الأسلوب الذي تؤثر به هذه الشبكات عليها، إن هذه العلاقة ماثلة في الفضاء الجديد الذي يملك ثقافته الخاصة أو ينشئها والتي تظل على صلة مستمرة بالثقافة التي سادت وتسود خارج الشبكات الرقمية.

نعتقد أن هذا الفهم يحدد الأفق الذي يوجه التفكير في عملية الإنتاج الرقمي للثقافة العربية، ويؤطر تقييم ما تم إنجازه في هذا المجال، وحتى نؤسس هذا التفكير على قواعد صلبة وسليمة لابد من استحضار ما يشكل خصوصية الثقافية الرقمية، ليس من منظور ما يميزها عن الثقافة الورقية فقط، بل من المنظور الأنطولوجي والفلسفي

تمنح الثقافة الرقمية الإمكانيات للفرد وللمجتمع المدني للاستحواذ على الثقافة فتحررها من نخبويتها، وهذا يعني تعزيز المفهوم الإنثروبولوجى للثقافة وتجسيده، عبر تغلغل المنتج الثقافي في مختلف الأوساط والشرائح الاجتماعية، حيث تسمح الثقافة الرقمية بالترابط بين الثقافات المختلفة: العالمية، والوطنية والمحلية، بالمعنى الجغرافي وليس بتضميناتها السياسية والأيديولوجية، والثقافة المحلية، من جهة، وتعمل، من جهة أخرى، على إنتاج ثقافة تتجه لفك ارتباطها بالمكان، فهي ثقافة اللامكان أو الثقافة التي يشارك فيها الجميع من كل الأمكنة حسب قدراتهم وإمكانياتهم وزادهم الثقافي.

وتتجاوز الثقافة الرقمية فلسفة “الثقافة للجميع”، التي أصبحت “ثقافة لكل فرد”، حيث اعتقد هذا الأخير أن “الثقافة للجميع”، التي تنم عن نية طيبة تتمثل في توصيل الثقافة إلى جميع المواطنين وإضفاء الطابع الديمقراطي على الثقافة الراسخة والمُؤَسسة، لا تخلو من حمولة إيديولوجية نخبوية، فالنخبة  من منظور هذه الفلسفة هي التي تملي على “الشعب” الثقافة التي يجب أن يتغذى بها، وتعني “ثقافة لكل فرد” أن الذين يريدون ثقافة معينة، ولهم الحق فيها ينالونها، وتقترح الثقافة الرقمية فلسفة تؤمن بأن “لكل فرد ثقافته”، وهذا بالتأكيد يؤثر سلباً على خصوصية الثقافة الوطنية لأى مجتمع له امتداد تاريخى وحضارى.

الميتافيرس وتأصيل الثقافة الفردية..

تُعرف ال”ميتافيرس” بأنها سلسلة من العوالم الافتراضية التي تضم تفاعلات لاحصر لها، وذلك بين المستخدمين من خلال الأفاتار الخاص بكل مستخدم، والتي ربما لن تقتصر على ممارسة الألعاب والترفيه فقط، بل ستتيح هذه التقنية كذلك العديد من التفاعلات الخاصة بالأعمال.

وبعدما أشار “زوكربيرغ” في مؤتمر صحفى خلال الشهور الماضية إلى اقتصاد الميتافيرس، أكد على أن الميتافيرس هى الجيل المقبل من الإنترنت، بدلاً من أن تكون الإنترنت شاشة خارجية ننظر إليها على هواتفنا المحمولة أو شاشات الحاسوب، ستصبح جزءاً منا ونحن جزءاً منها، وأن إنترنت المستقبل هو شيء يمكننا أن نكون في داخله، وعرّف زوكيبرغ هذه البيئة الجديدة، أي بيئة الميتافيرس، على أنها “بيئة افتراضية غامرة”، حيث يمكنك التواجد بالفعل مع الناس في البيئة الرقمية والمجتمع الرقمي، يمكننا التفكير به على أنه إنترنت متجسد، تتواجد فيه فعلياً بدلاً من مجرد النظر إليه كما يحدث الآن.

وبشكل سريع قامت شركة فيسبوك بتغيير اسمها إلى ميتا، وهي إشارة إلى مستقبل ما بعد الإنترنت، كما وقد استحدثت شركة مايكروسوفت أخيراً إدارة جديدة فيها أطلقت عليها “مشروع ميتافيرس”، على حد قول “ساتيا ناديلا”الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت (Microsoft)، كما أن (فيسبوك) أطلقت منذ فترة قصيرة برنامج “غرف عمل هورايزن” (Horizon Workrooms) كتجسيد أولي للميتافيرس تمهيداً للدخول في عالم اقتصاد الأفاتار، ويمكن للموظفين في “غرف عمل هورايزن” الجديدة الدخول إلى مكتب عمل افتراضي باستخدام شخصية وهمية، وفي هذه الغرفة الافتراضية سترى حاسوبك وزملاءك، وتتفاعل وتعمل وتتبادل الأفكار معهم بشكل كامل كما لو كنت في غرفة عمل حقيقية في مبنى الشركة.

د. دينا محسن تكتب ميتافيرس ومستقبل الثقافة الوطنية

وإذا افترضنا تفاعل البشر من خلال الشبيه الافتراضي (أفاتار)، واحتضان هذه التفاعلات والتعاملات داخل فضاء افتراضي ثلاثي الأبعاد مدعوم بتقنيات الواقع المعزز، فيما يشبه إلى حد كبير العالم الحقيقي، فما هو نمط الثقافة الذى سيسود هذا الواقع إذا مُعززاً؟!

فإلى أي مدى يجب أن نعتقد أن الرؤية المقدمة لنا ستكون حقًا مركزية في حياتنا اليومية، وما هو الواقع الحقيقي والواقع الرمزى، ومدى تأثير تلك الرقمنة على خصوصية الثقافة الوطنية؟

إن هذا التطور التكنولوجى لابد وأن تقابله مقاومة من التيار الإنساني التقليدي، الذي يرفض هذه السرعة المُبالغ فيها في ظل تنامي مخاوف بشأن “عالم جديد ممسوخ الثقافة”، تتلاشى فيه خصوصية الحضارة والتاريخ، وتنعكس تأثيراتهما النفسية والاجتماعية على حياة الأفراد والمجتمعات، وتكلفتها السياسية والاقتصادية على الحكومات، مما قد يزيد أو يفاقم مشاكل العالم الحقيقي.

د. دينا محسن تكتب ميتافيرس ومستقبل الثقافة الوطنية

فضياع الثقافة الوطنية يعنى ضياع الهُويّة الوطنية، وضياع الهُوية يعنى ضياع الميراث الحضارى التاريخى، الذى تعتمد عليه بعض الدول فى سياستها الخارجية وفى اقتصادها داخلياً وخارجياً، ربما تتأثر جغرافيا السياحة فى مصر التى تشكل أحد أهم روافد الاقتصاد الرسمى المصرى، وربما أيضاً تتأثر قطاعات تجارية محلية، وهذا كله مؤشر سلبى خاصة داخل المجتمعات النامية، التى تفتقد بطبيعة الحال الوعى بأبعاد الرقمنة والتكنولوجيا وتأثياتها المجتمعية.

وعلى الجهات المعنية التعامل بحرص شديد مع هذا التحول، وبناء جدار قومى وطنى يحافظ على خصوصية الثقافة الوطنية، بالتوازى مع دمج الرقمنة سطحياً إدارياً وتنفيذياً فى قطاع الثقافة الكلية والجزئية، دون المساس بجوهر الثقافة الوطنية فى مصر.

أهم الإخبار في فلسطين

ليبيا في أسبوع.. لقاءات رسمية مكثفة.. وتمسك دولي بإجراء الانتخابات.. ورفض إخواني للاستقرار

ويمكنك متابعة منصة العرب 2030 على الفيس بوك

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى