رأي

«خطاب حميدتي الأخير.. صمودٌ في وجه الهزيمة أم إقرار بالخسارة وتمهيدٌ لتسوية؟»

"لن نخرج من الخرطوم".. هل بدأ العد التنازلي لحميدتي؟

رامي زهدي – خبير الشؤون الإفريقية، نائب رئيس مركز العرب للأبحاث والدراسات ورئيس وحدة الدراسات الإفريقية بالمركز.

 

في توقيت لا يخلو من الرمزية السياسية والعسكرية، خرج محمد حمدان دقلو “حميدتي”، قائد قوات الدعم السريع في السودان، بخطاب جديد مساء السبت، أكد فيه أن قواته لن تغادر العاصمة الخرطوم، ولن تتخلى عن مواقعها في القصر الجمهوري، أحد أبرز رموز السيادة في الدولة السودانية.

خطاب حميدتي، الذي جاء وسط تصاعد العمليات العسكرية في قلب العاصمة، لم يكن عابرًا في مضمونه ولا في توقيته، بل يمكن قراءته كرسالة مركبة، تحمل بين طياتها أبعادًا نفسية وسياسية وميدانية، توجّهها القيادة العسكرية للدعم السريع إلى الداخل والخارج على حدٍ سواء. فما دلالات هذا الخطاب؟ ولماذا اختار حميدتي التأكيد على بقائه في قلب الخرطوم الآن؟ وهل يُقرأ الخطاب كإشارة إلى بداية التراجع، أم كرسالة إصرار على الاستمرار في القتال؟

” أولًا: الخرطوم.. المعركة الرمزية والواقعية”

العاصمة الخرطوم ليست مجرد ساحة قتال؛ إنها مركز الثقل السياسي والعسكري والإداري للدولة السودانية، والسيطرة عليها ليست فقط تحكمًا في الجغرافيا، بل في السيادة والشرعية والقرار. لهذا، فإن إعلان حميدتي تمسكه بالبقاء فيها، وخصوصًا داخل القصر الجمهوري، يتجاوز كونه تصريحًا ميدانيًا إلى كونه تثبيتًا لموقف سياسي ورسالة قوية للخصوم.

في هذا السياق، يظهر أن حميدتي لا يوجه خطابه فقط للقيادة العسكرية للجيش السوداني، بل أيضًا للمجتمع الدولي والإقليمي، محاولًا التأكيد على أنه لا يزال “طرفًا في المعادلة”، وليس مجرد ميليشيا في طور التلاشي، كما تحاول بعض التقارير تسويقه في الآونة الأخيرة.

ثانيًا: التوقيت بين التقدم العسكري والانكماش السياسي”

من الناحية الزمنية، يأتي خطاب حميدتي في ظل تصاعد واضح في وتيرة عمليات الجيش السوداني، الذي يحقق خلال الأسابيع الأخيرة تقدمًا تكتيكيًا في عدد من محاور العاصمة، وعلى رأسها منطقة القيادة العامة وأجزاء من وسط الخرطوم، مع تقارير عن استهداف مواقع نوعية لقوات الدعم السريع.

هذا التقدم، وإن لم يكن حاسمًا بعد، إلا أنه أربك خطوط الإمداد وأعاد ترتيب المشهد على الأرض، ما دفع حميدتي إلى الخروج بخطاب علني يسعى إلى طمأنة أنصاره، ورفع معنويات قواته، والتأكيد على أن ما يُقال عن “تراجع الدعم السريع” لا أساس له من الصحة.

وفي السياق ذاته، يمكن قراءة الخطاب أيضًا كمحاولة لقطع الطريق على أي تصورات دولية أو إقليمية بتراجع الدعم السريع، خصوصًا في ظل الأحاديث المتزايدة عن احتمالات العودة إلى طاولة المفاوضات في ظل ضغوط إقليمية ودولية متنامية.

“ثالثًا: هل هو خطاب نصر أم خطاب دفاع؟”

عند تحليل نبرة الخطاب، ومحتواه المباشر والضمني، نجد أنه لم يحمل ما يشير إلى شعور بالتفوق الميداني، ولم يتضمن عرضًا لأي “انتصارات” أو تحولات ميدانية نوعية تحققها قوات الدعم السريع. بل على العكس، انصبّ الخطاب على فكرة “التشبث بالمواقع الحالية”، و”عدم الخروج من الخرطوم”، و”الصمود في القصر الجمهوري”.

هذه اللغة، بحد ذاتها، أقرب إلى لغة الدفاع عن النفس، ومحاولة تثبيت ما تبقى من مكاسب، أكثر منها خطابًا يحمل نَفَس الهجوم أو النصر. وهذا ما يعكس، ولو ضمنيًا، شعورًا متزايدًا بالضغط العسكري، وربما أيضًا السياسي، على قوات الدعم السريع.

ومع ذلك، فإن غياب أي إشارات إلى التفاوض أو التسوية أو حتى قبول مبادرات التهدئة، يشير إلى أن حميدتي لا يزال يتبنى خطاب التحدي، وأنه يسعى لترسيخ صورة “المقاتل الصامد”، لا القائد المنهزم.

“رابعًا: معركة الشرعية والمعنويات”

ما لا يدركه كثيرون أن خطاب حميدتي لم يكن موجهًا للجيش السوداني فقط، بل بشكل رئيسي إلى قواعده الداخلية، سواء في الخرطوم أو في دارفور أو في مناطق التماس الأخرى. فالميليشيات المسلحة، خصوصًا تلك ذات البنية القبلية أو غير النظامية، تعتمد بشكل أساسي على المعنويات والإحساس بالشرعية والثقة في القيادة.

ولهذا، فإن أي إشارات تصدر من القائد توحي بالتراجع أو الهزيمة قد تفضي إلى انهيارات سريعة في التنظيم، وانشقاقات على الأرض. من هنا، فإن الخطاب سعى إلى التأكيد أن “القيادة لا تزال موجودة”، وأن “المعركة لم تنته”، وأن “الثقة في الانتصار لا تزال قائمة”.

“خامسًا: الرسائل الدولية في خطاب داخلي”

رغم أن الخطاب ظهر داخليًا في شكله، فإن رسائله لم تغب عن العواصم الإقليمية والدولية. حميدتي يدرك أن هناك ضغوطًا تتزايد على أطراف الصراع السوداني للعودة إلى التفاوض، وأن هناك رغبة دولية في وقف القتال بأي صيغة.

لذلك، فإن تأكيده على التمركز داخل الخرطوم، وعدم الانسحاب من القصر الجمهوري، هو تثبيت لموقعه التفاوضي قبل أي عملية سياسية قادمة، ومحاولة لفرض نفسه كرقم صعب لا يمكن تجاوزه في أي حل، بغض النظر عن الموقف العسكري.

“سادسًا: أين يقف ميزان القوة الآن؟”

الوضع الميداني يشير إلى تحرك متقدم للقوات المسلحة السودانية، مدعومًا بتغيرات تدريجية في المزاج الشعبي في الخرطوم، وظهور مؤشرات لتفكك بعض قواعد الدعم السريع. ومع ذلك، لا يمكن القول إن المعركة حُسمت بعد.

حميدتي لا يزال يمتلك عناصر قوة، خصوصًا في المناطق البعيدة عن العاصمة، مثل دارفور وبعض النقاط في كردفان، إضافة إلى شبكات مالية وإمدادية لم تُستنزف بالكامل. لكن الخط البياني العام يشير إلى أن قدرة الدعم السريع على الاحتفاظ بمواقع مركزية في العاصمة بدأت تتآكل، ما يجعل الخطاب الأخير أقرب إلى محاولة لشراء الوقت، لا إعلان نصر.

 

“سابعًا: هل نحن على أعتاب مرحلة جديدة؟”

الخطاب الأخير يعكس مرحلة انتقالية في مسار الصراع. فنحن أمام طرف بدأ يفقد أوراقه تدريجيًا، ويحاول تثبيت ما تبقى منها، في مواجهة طرف آخر يستعيد زمام المبادرة ببطء ولكن بثبات.

لكن الخطورة تكمن في أن هذا الوضع قد يدفع “حميدتي” إلى تصعيد مفاجئ، أو الدخول في مغامرات ميدانية يائسة، إذا شعر أن الحسم العسكري بات وشيكًا. وهذا ما يستدعي يقظة من جميع الأطراف السودانية والإقليمية، لمنع انزلاق البلاد إلى فوضى غير قابلة للاحتواء.

“ما بعد الخطاب”

يبقى أن نقول إن السودان لا يحتمل مزيدًا من الصراع، ولا مزيدًا من المغامرات المسلحة. إن خطاب حميدتي، رغم ما حمله من رسائل تحدٍ، يعكس في جوهره قلقًا من تطورات قادمة قد تكون غير مواتية له، ويؤكد أن الوقت قد حان لتغليب لغة السياسة على منطق البندقية.

ولا شك أن الحل في السودان لن يكون عسكريًا بحتًا، بل سياسيًا تشاركيًا، يعيد للدولة السودانية تماسكها، ويحفظ وحدتها، ويُنهي معاناة شعبها الذي دفع الثمن الأكبر في هذه الحرب القاسية.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى