إعداد/ نِهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الأفريقية العليا- جامعة القاهرة
تعد السجون الكونغولية واحدة من بين أكثر السجون اكتظاظًا وسوءًا، ليس فقط على مستوى أفريقيا بل على مستوى العالم، كما أن السجناء والمحتجزين في الكونغو الديموقراطية هم ضحايا لانتهاكات خطيرة لحقوقهم الأساسية، وخاصة تلك المتعلقة باحترام الضمانات الإجرائية والحق في ظروف احتجاز كريمة تتوافق مع المعايير الدولية، ما أدى إلى أنه في كل عام يموت العشرات من المعتقلين من الجوع أو المرض في السجون الكونغولية المكتظة وغير الصحية. لذا ليس بمستغرب أن يكون معدل الإشغال بالسجون الكونغولية 313٪ في عام 2020. كما إنه في سجون الاحتجاز الاحتياطي في برازافيل وبوانت نوار يتجاوز هذا المعدل 600٪. وفي عام 2023 كان ينتظر حوالي 70% منهم المحاكمة. كما كان يبلغ معدل الاكتظاظ في 4 من السجون المركزية الرئيسية في البلاد (كينشاسا وغوما وماتادي ومبوجي مايي) 720%. ويمكن تفسير هذا المستوى المزعج من الاكتظاظ في مراكز الاحتجاز بالاستخدام السيئ للاحتجاز الوقائي، والبطء والعقبات الإدارية، والخلل البنيوي في الأنظمة القضائية والسجون والأمنية في البلاد، وغياب نظام المساعدة القانونية التي تضمن الوصول إلى محام، ناهيك عن نقص الموظفين المؤهلين، والميزانية غير الكافية، وتدهور مباني السجون ونقص الموارد المخصصة لخدمة السجون.
اقرأ أيضا: طالع العدد الـ30 من مجلة العرب عن شهر يوليو 2024
إضافة لما تم بيانه، تعمل مراكز الشرطة كمراكز احتجاز بحكم الأمر الواقع، حيث تحتجز العديد من الأشخاص في انتظار المحاكمة لعدة أشهر. ولأنها لا تخضع لتشريعات السجون، فلا تخضع لرقابة سلطات السجن. وعدد الأشخاص المحتجزين في مثل هذه الظروف غير معروف. وتروي منظمات المجتمع المدني العديد من حالات الاحتجاز التعسفي ومضايقة قطاعات معينة من المواطنين. وتشير التقارير إلى أن الشباب الفقراء يتعرضون للاعتقالات التعسفية بذريعة اتهامات بعدم الأمان، تحت تأثير العنف الحضري وظهور “الأطفال السود”، ويشير هذا المصطلح إلى مجموعات من الشباب، تتراوح أعمارهم بين 13 و30 عامًا، متهمين بارتكاب أعمال عنف.
السجناء وموظفو السجن:
تشير التقارير الدولية إلى وجود حالات تعذيب وعنف وسوء معاملة ضد السجناء، وخاصة في مراكز الشرطة. ولا توجد في البلاد آلية وقائية وطنية لمنع التعذيب. ولا تسمح الأحكام القائمة للسجناء بتقديم شكاوى ضد إدارة السجون. كما ينام معظم السجناء على الأرض أو على صناديق أو على مراتب ممزقة. كما تمتلئ الزنازين بالأسِرَّة الملوثة بالحشرات والطفيليات. ولا يتاح الوصول إلى المعدات الأساسية مثل الأسِرَّة والناموسيات إلا لمن يستطيعون دفع المقابل. وفي سجون الاحتجاز في برازافيل وبوانت نوار، تتوفر زنازين “VIP” للسجناء الذين يتمتعون بالقدرة المالية والشهرة.
في عام 2021، اقتصر عدد الوجبات على وجبة واحدة في اليوم في السجون الرئيسية في البلاد بسبب القيود المالية. ويعتمد معظم السجناء على أسرهم للحصول على الغذاء. ونتيجة لذلك، يعاني السكان من سوء التغذية لأن أسرهم تعيش عادة بعيدًا عن المراكز الحضرية. والحصول على المياه متقطع وغير موثوق به. ويضطر السجناء المحتجزون في مراكز الشرطة إلى قضاء حاجتهم أمام الجميع في دلو مشترك.
ولا تقتصر الأوضاع السيئة على السجناء، حيث يعاني موظفو السجون من نقص في الإمداد ويفتقرون إلى التدريب الكافي. وتستعين مصلحة السجون بوحدات عسكرية لمحاولة تعويض النقص في الضباط. ويتم تفويض بعض المسؤوليات إلى السجناء. ويؤدي هذا إلى تسلسل هرمي غير رسمي ويؤدي إلى إساءة استخدام السلطة ويعزز الفساد على نطاق واسع. رجوعًا للسجناء والمحتجزين؛ يقدم لهم عدد قليل جدًا من الأنشطة. وفي الواقع لا يتم احترام حقهم في التعليم مع العلم بوجود معدل للأمية مرتفع. ويُطلب من جميع المدانين العمل، إلا أن فرص العمل نادرة، وكذلك عروض التدريب المهني.
حول الزيارات العائلية والمرافق بالسجون:
تستغرق الزيارات العائلية حوالي 15 دقيقة وتتم في أماكن مشتركة ذات حراسة. وفي برازافيل، أفادت منظمات المجتمع المدني أن الأقارب يجب أن يدفعوا لضباط المراقبة للحصول على حق الوصول إلى منطقة الزيارة. لا يوجد في سجن الاحتجاز هاتف للسجناء، الذين لا يمكنهم الاتصال بالأقارب إلا في حالة الطوارئ، باستخدام هاتف مخصص لخدمة السجن.
أما المرافق في برازافيل وبوانت نوار فهي السجون الوحيدة المجهزة بوحدات رعاية. ومع ذلك، فهي لا تحتوي على معدات وأدوية أو موظفي رعاية صحية كافيين (أطباء عامين ومتخصصين). وعادة ما يتعين على السجناء تغطية تكاليف رعايتهم الصحية.
الاكتظاظ ووفاة السجناء:
في هذا الإطار ذكر مسؤول في مجال حقوق الإنسان بالأمم المتحدة في أبريل من العام الحالي 2024، إن أكثر من 100 سجين لقوا حتفهم حتى الآن في سجون الكونغو الديموقراطية التي تعاني من نقص التمويل والاكتظاظ المزمن. وقال المسؤول الأممي إن السبب الرئيسي للوفيات هو أمراض معدية مثل السل، والتي تنتشر بسهولة في المرافق المزدحمة وتتطلب رعاية طبية غير متاحة. وأضاف أن نقص الغذاء ساهم أيضًا في هذه الوفيات. وقال “باتريس فاهارد” مدير مكتب حقوق الإنسان المشترك التابع للأمم المتحدة إن المكتب أكد حتى الآن 104 حالات وفاة في الاحتجاز منذ بداية عام 2024. واستكمل: “إن هذا يقارن بـ 222 حالة وفاة في السجون في عام 2023.” ووقعت معظم الوفيات المسجلة في مقاطعتي شمال كيفو وتنجانيقا بشرق الكونغو وفي مقاطعة كويلو الغربية. وقال “فاهارد” إن هذه هي الأماكن التي تعيش فيها الأسر بعيدًا جدًا عن السجون لإحضار الطعام لأقاربها المعتقلين.
وأضاف “فاهارد” إن سجون الكونغو من بين أكثر سجون العالم اكتظاظًا، وجميعها تعاني من مشكلة التمويل غير الكافي. وأشار إلى سجن في “كويلو” حيث كانت زنزانة تتسع لخمسين شخصًا تؤوي أكثر من مائتي شخص. وقال وزير حقوق الإنسان في الكونغو “ألبرت بويلا” إن الحكومة على علم بهذه القضية، وإن الجهود جارية لتحسين الظروف وإطلاق سراح السجناء في الحبس الاحتياطي، والذي غالبا ما يتجاوز الحدود القانونية بسبب تراكم القضايا القضائية.
النساء والقاصرين في سجون الكونغو:
لا توجد في الكونغو أي سجون للنساء. وتُحتجز السجينات في وحدات منفصلة أو زنازين في سجون الرجال. وتفيد منظمات المجتمع المدني بأن النساء غالبًا ما يكنّ عرضة للانتهاكات الجنسية التي يرتكبها سجناء آخرون أو أعضاء من هيئة السجن. ولا توجد مرافق مخصصة للأحداث أيضًا. وفي بعض الأحيان يتم خلط الأولاد والبنات مع البالغين. وواجهت بعض المنظمات صعوبات في مساعدة القاصرين، حيث لا تمنحهم إدارة السجون التصاريح اللازمة لدخول السجون.
سجن بونيا المركزي:
لا تختلف الأوضاع بسجن بونيا عن غيره من السجون الأخرى التي تعاني الكثير من الأوضاع المزرية في الكونغو الديموقراطية، فيقول أحد السجناء هناك: “يعلم الجميع أن هناك نقصًا في الغذاء والدواء، نحن لا نعيش جيدًا، ولا ننام جيدًا، ولا يهتمون بصحتنا ولا نأكل، ملعقتان من العصيدة لكل شخص، اليوم نحن محظوظون، لقد تناولنا الأرز”، هكذا قال السجين “جوستين تيتيك”، وهو ما أكده مدير سجن بونيا لوسائل الإعلام المحلية في 2020؛ حيث قال إن جميع مخزونات الغذاء قد استنفدت وأن السجناء يعيشون على العصيدة فقط. جدير بالذكر أن سجن بونيا المركزي بُنيَ لاستيعاب 220 شخصًا، يضم حتى الآن 3092 سجينًا. وقال مدير السجن الرائد “كاميل نزونزي”: “أنه منذ أبريل 2020، حدثت 17 حالة وفاة، بفارق زمني يتراوح بين شهر إلى ثلاثة أشهر. لكن ما يقلقني هو أنه حتى اليوم حدثت حالتا وفاة في نفس الوقت، نتيجة لسوء التغذية”.
سجن ماكالا المركزي:
يحتجز سجن ماكالا المركزي أكثر من 15 ألف سجين، وهو ما يتجاوز بكثير قدرته الاستيعابية البالغة 1500 سجين. وفقًا لتقرير صدر في ديسمبر 2023 عن مؤسسة بيل كلينتون للسلام، فإن معظم السجناء رهن الاحتجاز قبل المحاكمة، مما يخلق ظروفًا غير إنسانية بالمرة. كما نشر الصحفي “ستانيس بوجاكيرا” الذي كان محتجزًا سابقًا في ماكالا، مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي تُظهِر الاكتظاظ الشديد. ويصف السجن بأنه مكان “يموت فيه الناس أحياء”.
ردًا على ذلك، زعم وزير العدل “كونستانت موتامبا” أن الجهود جارية للحد من الاكتظاظ في جميع السجون الكونغولية. ورفض الوزير مقاطع فيديو “بوجاكيرا” ووصفها بأنها لقطات قديمة وأكد أن الحكومة توفر بشكل كافٍ الطعام والاحتياجات الطبية للسجناء، وأصر على أن الظروف ليست سيئة كما يتم تصويرها.
الأمر ليس بالجديد!
قال الناشط في وكالة فرانس برس “إيمانويل كول” في سبتمبر 2023 الماضي وهو ناشط في مجال حقوق السجناء يزور مراكز الاحتجاز بانتظام، إن كثير من سجناء “ماكالا” ماتوا بسبب سوء التغذية أو الاختناق أو نقص الرعاية. وأضاف حينها أن “اثنين من السجناء توفيا في سجن ماكالا، ورأيت بنفسي جثتيهما”. وبوفاة اثنين آخرين في السجن يرتفع عدد القتلى في شهر فبراير 2023 وحده إلى 35، وفقًا لكول. وفي يناير 2023، وثقت منظمته “31 حالة وفاة، بما في ذلك امرأة واحدة”، أيضًا في ماكالا.
وقال “كول” الذي يراقب وضع السجناء بشكل يومي إن السجن الذي بُني في عهد الاستعمار لاستيعاب 1500 شخص يضم حاليًا 10790 سجينا منهم 7780 في الحبس الاحتياطي. (ذلك خلال عام 2023). وقال “كول” إن السلطات القضائية منحت منذ بداية العام 2023 إفراجًا مشروطًا لـ 635 سجينًا من أجل تخفيف الازدحام. وأكد أن الوجبات المقدمة للسجناء ليست “غير كافية” فحسب بل إنها “رديئة الجودة”، في حين أن “الحصول على الطعام يجب أن يكون حقا لكل سجين”. كما أضاف: “ندعو السلطات الكونغولية إلى تسريع الإجراءات حتى لا يتم احتجاز مئات بل وآلاف الأشخاص لفترات طويلة دون محاكمة أو إدانة”.
بالرغم من ذلك يشيد رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية “فيليكس تشيسكيدي” بسجله في مجال حقوق الإنسان خلال المحافل الدولية، كما حدث في خطاب ألقاه في مجلس حقوق الإنسان في جنيف بسويسرا. وقال تشيسكيدي حينها إنه وضع حماية وتعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية بين أولويات ولايته وعمل حكومة الجمهورية.
من أجل تخفيف اكتظاظ السجون:
في ظل إعلان الكونغو عن رغبتها في تخفيف اكتظاظ السجون من المقرر أن يتم الإفراج المشروط عن ما لا يقل عن 7000 سجين من سجن ماكالا المركزي في البلاد في محاولة لتخفيف الاكتظاظ في المنشأة. يقع هذا السجن في كينشاسا، وهو أكبر سجن في البلاد، حيث تم بناؤه لاستيعاب 1500 سجين في عام 1957، ولكنه يضم الآن أكثر من 15000 شخص، بما في ذلك الأطفال والنساء، الذين يعايشون ظروفًا سيئة للغاية حيث يكتظ السجناء في الزنازين، ويتناولون الطعام بشكل سيئ، ويعاني البعض من أمراض الجهاز التنفسي والهضمي وغيرها نتيجة للطعام والمياه الملوثة والكثير من الأوضاع بالغة السوء التي يعتمدون عليها بشكل أساسي. جدير بالذكر أن وزير العدل “كونستانت موتامبا” كان قد وافق أواخر يوليو 2024 على إطلاق سراح أول 421 شخصًا – وقال إن السجناء سيتم إطلاق سراحهم بمعدل 400 سجين أسبوعيًا. وقال إن الجهود جارية للحد من الاكتظاظ في جميع السجون الكونغولية كما ذكر إن لجنة تم تشكيلها لفحص حالات السجناء المؤهلين للإفراج المشروط.
وفي محاولة لتخفيف هذه الأحوال المتردية للسجناء، تعمل منظمة محامون بلا حدود، بالشراكة مع شركاء محليين، على تعزيز الوصول إلى العدالة لأكثر الفئات ضعفًا في الاحتجاز في جمهورية الكونغو الديمقراطية. على سبيل المثال في عام 2022، عملت منظمة محامون بلا حدود بشكل وثيق مع نقابات المحامين ومنظمات المجتمع المدني النشطة في بيئة السجون، وتدخلت بالعمل مباشرة في 8 سجون مركزية في 6 مقاطعات (كينشاسا، وإيتوري، وكونغو الوسطى، وكاساي، وكاساي الشرقية، وشمال كيفو). وخلال ذلك تم التعرف على 1820 محتجزًا والالتقاء بهم وإحالتهم إلى الخدمات المناسبة أثناء زيارات مراقبة السجون. ضمنت منظمة محامون بلا حدود وشركاؤها الوصول إلى المساعدة القانونية الأولية (عبر الاستشارات القانونية المجانية التي تقدمها مكاتب الاستشارات المجانية للمحامين) لـ 3511 شخصًا في الاحتجاز.
ومع ذلك، فإن نطاق تدخّل منظمة مساعدة السجناء في الكونغو وشركائها يظل محدودًا نظرًا للطبيعة البنيوية وحجم مشكلة الاكتظاظ في السجون في الكونغو الديموقراطية. لذا تبرز الحاجة إلى إصلاحات مؤسسية عميقة ومنسقة مع الجهات الفاعلة ذات الصلة، الرسمية وغير الرسمية من منظمات المجتمع المدني وغيرها. كما أنه لابد من وضع آليات فعالة وموثوقة للرقابة والمساءلة، فضلًا عن تقديم خدمات متعددة للمحتجزين، من أجل هذا تعمل منظمة مساعدة السجناء في الكونغو وشركاؤها على رفع مستوى الوعي من أجل تعزيز آليات حل النزاعات خارج نطاق القضاء واستخدام آليات العدالة المحلية للتعامل مع الجرائم البسيطة أو الحميدة من أجل مكافحة الاكتظاظ المتفشي في كافة سجون الكونغو الديموقراطية.
المراجع:
- “Journalist exposes dire conditions in Makala prison”, Africa News, Jul 22, 2024, Retrieved from: https://rb.gy/64yscd.
- “Over 100 inmates die in DR Congo prisons since start of year, UN says”, Apr 3, 2024, Reuters, Retrieved from: https://rb.gy/n20a0x.
- First inmates released from Kinshasa jail in a bid to ease overcrowding”, Africa News, Jul 28, 2024, Retrieved from: https://rb.gy/5732gt
- “DRC: 66 inmates dead in two months in Makala prison in Kinshasa”, Africa News, Feb 28, 2023, Retrieved from: https://rb.gy/78f57q
- “Republic of the Congo: prisons in 2023”, Prison Insider, Sep 1, 2023, Retrieved from: https://rb.gy/9kk9p3
- “A glimpse into a hellish and overcrowded prison in DR Congo”, Africa News, Sep 4, 2020, Retrieved from: https://rb.gy/90qlw8
- “Combating prison overcrowding and illegal detentions in the Democratic Republic of Congo”, Avocats Sans Frontières (ASF), Sep 20, 2023, Retrieved from: https://rb.gy/rv4lb1