إعداد: دعاء حسين حسين محمد
مقدمة:
في أعقاب الهجمات التي شنتها حركة المقاومة الفلسطينية حماس في السابع من أكتوبر 2023 ضد الاحتلال الإسرائيلي، واندلاع الإشتباكات بين الطرفين، حدثت العديد من التطورات، على الصعيد الإقليمي والدولي. ونتج عن الحرب مقتل آلاف من الفلسطلينيين، وقيام إسرائيل بهجمات وانتهاكات ضد المدنيين، وضرب المستشفيات وخيام اللاجئيين، وعلى الطرف الأخر خسرت إسرائيل أعداد غير مسبوقة من القتلى من الجنود والأسرى.
ولا تمثل هذه الحرب أهمية للأطراف الإقليمية فقط، بل تحظى بإهتمام الأطراف الدولية أيضًا. حيث يتداخل فيها العديد من الأطراف، مثل حزب الله في لبنان المدعوم من إيران، والذي يقوم بهجمات ضد إسرائيل من جنوب لبنان منذ بداية الحرب، ووصل الأمر إلى الهجوم الإسرائيلي على جنوب لبنان في سبتمبر 2024. والحوثيين في اليمن المدعومين من إيران أيضًا، والذين قاموا بهجوم ضد سفن تابعة لإسرائيل. هذا بالإضافة إلى التصعيد بين إيران وإسرائيل، حيث قامت إسرائيل بإغتيال قيادات لحزب الله وأبرز هذه الإغتيالات اغتيال “حسن نصرالله” أمين عام حزب الله، ورد إيران بإطلاق مئات الصواريخ الباليستية ضد إسرائيل في 1 اكتوبر2024. وعلى الجانب الأخر يوجد مصر والتي تمثل الحرب تهديد لأمنها، حيث دخول القوات الإسرائيلية في رفح، وسيطرتهم على الجانب الفلسطيني من معبر رفح. ونجد على الصعيد الدولي دعم الولايات المتحدة لإسرائيل المباشر منذ بداية الحرب بكافة الأشكال، بالإضافة إلى وقوف أغلب دول الإتحاد الأوروبي لجانب إسرائيل.
وفيما يتعلق بالموقف التركي، نجد أنها كانت تحاول أن توازن بين التوجه البراجماتي، والأيديولوجي في بداية الحرب. حيث ترتبط تركيا بفلسطين بروابط تاريخية، ودينية. ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة وهو يتبع سياسة مختلفة تعطي اهتمام بدول إقليم الشرق الأوسط، ويتبع سياسة متعدد الأبعاد ذات توجهات مختلفة تجاه الشرق والغرب على خلاف الحكومات السابقة التي كانت متجهة نحو الغرب. هذا بالإضافة إلى وجود مصالح اقتصادية وعسكرية بين تركيا وإسرائيل، وتركيا دولة عضو في حلف شمال الأطلنطي. ولذلك نجد أنها في بداية الحرب حاولت أن تتخذ موقف محايد، لعدد من الأسباب، إلا أن ذلك الموقف لم يستمر. ويعرض ذلك التقرير تطورات الموقف التركي السياسية والدبلوماسية والاقتصادية تجاه الحرب، وإسرائيل، منذ 7 أكتوبر2023. ومواقف تركيا السابقة تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية منذ 2002. بالإضافة إلى تقديم تفسير لتبني تركيا الموقف المحايد في بداية الحرب، ولماذا غيرت موقفها للتصعيد ضد إسرائيل.
أولًا: المواقف التركية السابقة تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية منذ 2002
كانت تركيا من أوائل الدول الإسلامية التي اعترفت بقيام دولة إسرائيل في عام 1949، فقد كان توجه السياسة الخارجية التركية توجه غربي. واتسمت العلاقات التركية الإسرائيلية بأنها علاقات جيدة يحكمها مصالح اقتصادية وأمنية وعسكرية. فقد شهدت فترة التسعينات قدر كبير من التعاون وزيادة العلاقات الأمنية والعسكرية. وذلك نتيجة عدد من الأسباب أبرزها زيادة خطر الجماعات الكردية والانفصالية المدعومة من سوريا وإيران. هذا بالإضافة لسيطرة المؤسسة العسكرية على السياسة الخارجية والمعروفة بتوجهها الغربي. وكانت تشترك تركيا وإسرائيل في التوجه الأمني المُعادي لسوريا وإيران.
وبعد وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة أصبح يتبنى نهج “العثمانية الجديدة” والذي يقوم على عدد من المبادئ التي وضعها “أحمد داوود أغلو”، وزير الخارجية السابق، ويُطلق عليه مهندس السياسة الخارجية التركية، ومن أبرز هذه المبادئ سياسة “تصفير المشكلات” والتي تتضمن تحسين تركيا علاقتها مع مختلف الدول، على المستوى الإقليمي والدولي، وأن لا تتوجه نحو الغرب فقط مثلما كان يحدث سابقًا. هذا بالإضافة لأن تتبنى تركيا سياسة خارجية ذات توجه اقتصادي بدلًا من التوجه الأمني الذي كانت تتبناه في فترة التسعينييات. ومن ثم قامت تركيا بتحسين علاقتها مع دول الجوار مثل سوريا والعراق وإيران وذلك بعد وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة من 2002 وحتي 2009. الأمر الذي أثر على علاقة تركيا مع إسرائيل والتي كان يميزها التوجه الأمني والعداء لسوريا وإيران.
ففي الفترة من 2002 وحتى 2009 قامت الحكومة التركية بإتباع سياسة متوازنة تجاه إسرائيل وتجاه القضية الفلسطينية، وحافظت على العلاقات الإقتصادية والعسكرية مع إسرائيل، فقد قام أردوغان بأول زيارة له لإسرائيل في 2005، بهدف تحسين العلاقات وعقد صفقات عسكرية واقتصادية، بالإضافة لمحاولة دفع عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل. هذا في ظل حفاظ تركيا على علاقات جيدة مع حركة حماس، وفي 2007 بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، عرض اردوغان رئيس الوزراء آنذاك في مكالمة هاتفية، على “إسماعيل هنية” رئيس الوزراء الفلسطيني آنذاك، استعداد تركيا للوساطة في حل الخلاف بين حركة حماس وفتح.
وقد حدثت أول أزمة دبلوماسية بين تركيا وإسرائيل في 2009 في “المنتدى الافتصادي العالمي” في دافوس، عندما انسحب اردوغان من المنتدى بسبب اشتباكه مع الرئيس الإسرائيلي آنذاك “شيمون بيريز” بسبب الهجوم الجوي الإسرائيلي على غزة. وحدثت الأزمة الأكبر بين البدين في 2010 عندما هاجمت القوات الإسرائيلية السفينة التركية “مافي مرمرة” والتي كانت تهدف لإيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة وكسر الحصار البحري على القطاع. وتم قتل كل من على متن السفينة مما أدى إلى تعليق العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لعدد من السنوات. وكان الطرفين قد بدأوا في محاولات لتطبيع العلاقات في الفترة من 2021-2022 إلى أن بدأت حرب غزة.
ثانيًا: الموقف التركي من حرب غزة 2023-2024:
بعد هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر ضد إسرائيل، كان الموقف التركي من الهجوم مختلف عن مواقفه السابقة فقد اتخذت أنقرة موقف محايد من الطرفين. وصرح اردوغان “برفضه قتل المدنيين مهما كانت الجهة التي تقوم بذلك، ودعا إسرائيل وحماس لضبط النفس قائلًا نعارض الأعمال العشوائية ضد السكان المدنيين الإسرائيلين وعلى الطرفين احترام أخلاق الحرب”. وبالطبع أغضب الموقف التركي حركة حماس وحركات فلسطينية أخرى التي رأت الموقف التركي مخالف لمواقف تركيا السابقة تجاه القضية الفلسطينية والذي تميز بالهدوء. ولم يكن التغير في موقف تركيا من جانب الرئاسة فقط، فقد وصف صحفيون للمرة الأولى ومتحدثون موالون لحزب العدالة والتنمية في القنوات التلفزيونية أن ما قامت به حماس هو ارهاب وأن “استهدافها للمدنيين جريمة حرب”. ولا يختلف ذلك الهجوم عن انتهاكات إسرائيل المتكررة ضد الفلسطينيين.
وكانت تسعى تركيا لإتخاذ دور الوسيط في هذه الحرب مثل قيامها بالوساطة في الحرب الروسية الأوكرانية ووساطتها في اتفاقية نقل الحبوب عبر البحر الأسود بين روسيا وأوكرانيا. إلا أن إسرائيل لم تقبل أن تلعب تركيا دور الوسيط، فقد قالت سفيرة إسرائيل لدى أنقرة “إيريت ليليان” “إن تركيا لا يمكنها القيام بذلك مشيرة إلى أن القيادي البارز في حركة حماس “صالح العاروري” يكون موجود في فعاليات تركيا، بينما يجب محاكمته بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية”.
وقد حدث تغير في الموقف التركي من التوازن بين طرفي النزاع في الأيام الأولى من الحرب، إلى إدانة إسرائيل والتصعيد ضدها، واتخذت تركيا عدد من المواقف تجاه الحرب وإسرائيل على مختلف الجوانب السياسية والدبلوماسية والاقتصادية ويتمثل ذلك في التالي:
1- على الصعيد السياسي:
نتيجة للانتهاكات التي تقوم بها إسرائيل ضد المدنيين واستهدافها للمستشفيات والمدارس ودور العبادة، وقيامها بجرائم حرب، وبالإضافة لخروج مظاهرات في تركيا لرفض الإنتهاكات التي تقوم بها إسرائيل. ورفض الأحزاب السياسية في تركيا للموقف الرسمي التركي حدث تغير في الموقف التركي الرسمي من الحياد إلى التصعيد في الخطاب الرسمي ضد إسرائيل وما تقوم به من انتهاكات. حيث أدانت مختلف الأحزاب السياسية التركية المعارضة والمؤيدة إسرائيل. فنجد أحزاب معارضة مثل “حزب الشعب الجمهوري” والذي يرأسه “كمال كليتشدار أوغلو” مرشح الرئاسة السابق، أنه اتخذ موقف قوي وغير مسبوق لإدانة إسرائيل. ورأى أحزاب محافظة مثل حزب السعادة وحزب المستقبل أن موقف تركيا لم يكن متوقع. بالإضافة لمطالبة أحزاب مؤيدة لأردوغان مثل حزب ” الرفاة مجددًا” بقيادة “محمد فاتح أربكان” الحكومة التركية بالقيام بإجراءات عملية بجانب التصريحات والخطابات. كما طالب حزب “الحركة القومية” حليف العدالة والتنمية الأهم الحكومة القيام “بواجبها الأخلاقي والتاريخي” وأن الهدف بعد غزة سيكون أراضي تركيا نفسها.
فقد حشد أردوغان في 28 أكتوبر مظاهرة مليونية بعنوان “تجمع فلسطين الكبير”، وصرح تصريحات قوية، حيث قال “أن حماس ليست إرهابية، وأن إسرائيل أصبحت تتعامل كتنظيم لا كدولة وأنها مجرمة حرب”. وفي رفض من جانب إسرائيل لما قام به أردوغان من تصريحات خلال التجمع في اسطنبول من أجل فلسطين، قامت إسرائيل في 29 أكتوبر بسحب بعثتها الدبلوماسية في أنقرة.
وفي كلمة لاردوغان في قمة العشرين في 22 نوفمبر 2023 صرح أن تركيا “مستعدة للاضطلاع بالمسؤولية مع دول أخرى في المنظومة الأمنية التي ستؤسَّس في غزة، بما في ذلك أن تكون دولة ضامنة”. ويبدو أن حديث اردوغان عن ترتيبات ما بعد الحرب متناقض فقد صرح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان سابقًا في لقاء مع نظيره الأمريكي رفض تركيا الحديث عن غزة بعد الحرب أو بعد حماس. إلا أن تركيا أكدت استعدادها للوجود في غزة مع دول ضامنة لطرفي النزاع، وأن تكون دولة ضامنة للفلسطنيين، مع تبني حل الدولتين. وحتى الأن ترفض الدول العربية الحديث عن “غزة بعد الحرب” مثل مصر والأردن، كما ترفض حركة حماس ذلك. إلا أن المسؤولون الإسرائيليون تحدثوا كثيرًا عن ذلك بالإضافة للمسؤولين الأمريكيين، ولكنهم لم يرسموا صورة دقيقة لما سيكون عليه قطاع غزة في المستقبل.
وصرح أردوغان في 28 يوليو 2024 في اجتماع لحزب العدالة والتنمية، في مدينة ريزا، “يجب أن نكون أقوياء للغاية حتى لا تتمكن إسرائيل من فعل هذه الأشياء السخيفة لفلسطين.. تماماً كما دخلنا قرة باغ وليبيا، قد نفعل شيئاً مماثلاً (في تل أبيب).. لا يوجد سبب يمنعنا من فعل ذلك.. يجب أن نكون أقوياء حتى نتمكن من اتخاذ هذه الخطوات”. وهذه هى المرة الأولى منذ بداية الحرب التي يهدد فيها أردوغان بتدخل عسكري. وكان رد إسرائيل على ذلك التصريح، أن صرح وزير الخارجية الإسرائيلي، “يسرائيل كاتس” إن اردوغان “يسير على خطى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، في أعقاب تهديده بمهاجمة إسرائيل”.
2- على الصعيد الدبلوماسي:
منذ بداية الحرب قامت تركيا بعدد من الجهود الدبلوماسية على الصعيدين الإقليمي والدولي، من خلال إجراء عدد من المقابلات رفيعة المستوي، وحضور مؤتمرات، وإجراء زيارات، بهدف وقف الحرب والحد من الخسائر البشرية والمادية. حيث شارك “هاكان فيدان” وزير الخارجية التركي في “قمة السلام الدولية” في القاهرة في 21 أكتوبر 2023، وذلك بحضور وزراء خارجية 31 دولة، وكان بهدف التوصل لوقف إطلاق النار ودخول مساعدات إنسانية لغزة. كما شارك أردوغان في “القمة العربية الإسلامية” في السعودية، وهي قمة استثنائية، في الرياض في 11 نوفمبر 2023، والتي كانت تهدف لإيجاد رؤية موحدة عربية إسلامي ضد العدوان الإسرائيلي على غزة.
استضافة تركيا المؤتمر الخامس “لرابطة برلمانيون لأجل القدس”، والذي عُقد في اسطنبول في 26 ابريل 2024، وكان تحت عنوان “الحرية والاستقلال لفلسطين”، وحضر المؤتمر أردوغان، ورئيس البرلمان التركي “نعمان كورتولموش”، ووفود برلمانية من 80 دولة. وتضمن بيان المؤتمر الختامي عدد من الإجراءات والمبادرات لدعم القضية الفلسطينية، من بينها “تأسيس مبادرة قانونية دولية يساندها البرلمانيون والبرلمانات؛ تتولى تنسيق جهود القانونيين العاملين على ملاحقة مجرمي “حرب الإبادة الجماعية” في غزة، ودعم حركة المقاطعة العالمية لإسرائيل وداعميها”.
واتخذت تركيا مواقف قانونية على المستوى الدولي، فقد أعلن محامون من حزب العدالة والتنمية في شهر نوفمبر 2023، عن رفع دعوى ضد “بنيامين نتنياهو” أمام “المحكمة الجنائية الدولية” وذلك بتهمة ارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”، و”إبادة جماعية” ضد الشعب الفلسطيني. وأعلنت نقابة المحامين في اسطنبول عن ارسال 3 آلاف شكوى من 13 دولة من أجل طلب إجراء تحقيق في الإنتهاكات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في غزة. وفي 1 مايو 2024 أعلن وزير الخارجية التركي “هاكان فيدان” أن تركيا قررت الانضمام إلى دعوى جنوب أفريقا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب “الإبادة الجماعية” ضد الفلسطينين. وقد انتقد وزير العدل التركي، “يلماز تونتش”، المحكمة الجنائية الدولية وذلك بسبب “فشل مدعيها العام في إكمال التحقيق وفتح القضية ضد الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في فلسطين”، وقال أن “الجناة واضحون ويجب فتح تحقيق فوري واتخاذ الإجراءات الاحترازية”، وأن “التأخير في القضية يشجع الإسرائيليين”. وسعت تركيا لتقديم المساعدات إلى غزة، من خلال قيام وزارة الدفاع التركية بجسر جوي لنقل المساعدات إلى مصر، حيث تدخل المساعدات عبر معبر رفح الموجود في الحدود بين مصر وقطاع غزة.
3- على الصعيد الإقتصادي:
كانت تهدف تركيا لأن تكون مركزًا لنقل الطاقة من إسرائيل إلى أوروبا، وذلك ضمن إجراءات التطبيع التي كانت تتحرك فيها تركيا مع إسرائيل قبل بدء حرب غزة، إلا أنه بعد الحرب علقت تركيا هذه الخطط. فقد تم إلغاء زيارة وزير الطاقة التركي “ألب أرسلان بيرقدار”، إلى إسرائيل في نوفمبر 2023. وكان يهدف الطرفان للتفاهم بخصوص إجراءات التنقيب عن الطاقة وإنتجاها وتصديرها، خاصة في ظل أزمة الطاقة العالمية التي أنتجتها الحرب الروسية الأوكرانية.
ويوجد علاقات اقتصادية كبيرة بين تركيا وإسرائيل، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بينهما في عام 2023 حوالي 7 مليار دولار، من ضمنها 5.2 مليار دولار صادرات تركيا لإسرائيل، وتستورد إسرائيل من تركيا مواد بناء أبرزها الحديد، بالإضافة إلى مواد غذائية، حيث تُعتبر تركيا مصدر مهم للسلع الزراعية بالنسبة لإسرائيل. وبعد الحرب تأثرت العلاقات الاقتصادية بين البلدين بشكل كبير، فقد صرح وزير التجارة التركي “عمر بولات” في حوار مع الجزيرة نت، أن العلاقات التجارية بين تركيا وإسرائيل انخفضت بشكل كبير بعد الحرب. فقد انخفضت التجارة منذ 7 أكتوبر وحتى 4 ديسمبر 2023 بنسبة تزيد عن 50%.
وفي 2 مايو 2024 اتخذت تركيا قرارًا لم يكن متوقع، فقد أعلنت وزارة التجارة التركية وقف التبادل التجاري مع إسرائيل، بما يشمل وقف جميع عمليات الاستيراد والتصدير لجميع المنتجات. وصرحت الوزارة أن “تركيا ستستمر في تنفيذ هذه التدابير بشكل صارم وحاسم حتى تسمح الحكومة الإسرائيلية بتدفق غير متقطع وكافٍ للمساعدات الإنسانية إلى غزة”. وكانت تركيا اتخذت قرار سابقًا، بتقييد تصدير 54 منتج لإسرائيل بداية من 9 إبريل 2024. وقد علق أردوغان بعد قرار وقف التجارة مع إسرائيل أنه “بلغ حجم التجارة الثنائي 9.5 مليار دولار، لكن اعتبرناه غير موجود، وأغلقنا هذا الباب”. كما صرح ب “لم يكن بمقدورنا أن نقف متفرجين على ما يجري في غزة، مؤكدا على أن بلاده اعتبرت التبادل التجاري مع إسرائيل كأن لم يكن”. ورد وزير الخارجية الإسرائيلي “يسرائيل كاتس” مٌعلقًا على قرار أردوغان بأنه “خرقا للاتفاقيات”، واتهمه بأنه “يتجاهل مصالح الشعب التركي ورجال الأعمال ويتجاهل قواعد التجارة الدولية”.وتُعتبر تركيا الدولة الوحيدة في العالم التي تتخذ قرار بوقف جميع المعاملات التجارية مع إسرائيل.
ثالثًا: أسباب التغير في الموقف التركي:
- لماذا اتخذت تركيا موقف الحياد في بداية الحرب؟
كانت تركيا ترغب في لعب دور الوسيط، ففي الأيام الأولى من اندلاع الحرب اتخذت تركيا موقف محايد، وأدانت قتل المدنيين من الطرفين، وتبنت تركيا ذلك الموقف لرغبتها في الوساطة في النزاع، مثل مواقفها السابقة في الوساطة في الحرب الروسية الأوكرانية، أو في نزاع ناغورني كاراباخ عند الدخول في مفاوضات مع روسيا لصالح أذربيجان. وذلك لرغبة تركيا في لعب دور إقليمي مؤثر، ولأنها تتمتع بعلاقات جيدة مع حركة حماس حيث يوجد مكاتب سياسية للحركة في تركيا ويقيم أفراد من أعضائها في تركيا. هذا بالإضافة إلى أن تركيا كانت بدأت علاقتها في التحسن مع إسرائيل، فقد قامت الدولتين بجهود للتطبيع خلال الفترة من 2021-2022، والتي انتهت بعودة العلاقات الدبلوماسية في 2022، بعد مرور عقد من قطع العلاقات بينهم، بسبب هجوم إسرائيل على “سفينة مافي مرمرة” التركية في 2010 والتي كانت تحمل مساعدات لغزة. وبعد الحرب ألغى أردوغان زيارة كان ينوي إجراءها لإسرائيل في نوفمبر 2023.
كانت تركيا قد بدأت في تحسين علاقتها مع إسرائيل بعد فترة طويلة من القطيعة، وتخطط لمشاريع اقتصادية مع إسرائيل، وبالأخص التنقيب عن النفط، ونقل الطاقة من إسرائيل لأوروبا. وبالتالي لم تكن تريد اتخاذ موقف ضد إسرائيل، فالتصعيد ضد إسرائيل في بداية الحرب كان من شأنه إيقاف كل هذه الجهود. هذا بالإضافة إلى أن توتر العلاقة مع إسرائيل، كان من شأنه أن يؤثر على علاقتها بالولايات المتحدة بالسلب، في ظل وجود عدد من القضايا الخلافية بين الدولتين والتي من أبرزها دعم الولايات المتحدة لقوات سوريا الديمقراطية في سوريا وتعتبرهم تركيا خطرًا على أمنها القومي.
2- لماذا تحولت تركيا إلى التصعيد ضد إسرائيل؟
ونتيجة للمعارضة الشعبية حيث خروج مظاهرات في تركيا رافضة للإنتهاكات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، هذا بالإضافة إلى أن مختلف الأحزاب السياسية في تركيا بمختلف التوجهات العلمانية والمحافظة والقومية والكردية كانت رافضة لموقف الحكومة التركية من الحرب ومن إسرائيل. وفي ظل ما قامت به إسرائيل من انتهاكات ضد الفلسطنيين من قتل مدنيين وضرب مستشفيات، كان من الصعب على الحكومة التركية أن تستمر في موقف الحياد. ويمكن القول أن التصعيد التركي ضد إسرائيل كان عبر مرحلتين:
المرحلة الأولي: وهو تصعيد على المستوى الإعلامي والسياسي، من خلال تصريحات المسؤولين الأتراك لإدانة إسرائيل ونتنياهو مثل قيام اردوغان بمظاهرة “تجمع فلسطين الكبير”، وتصريحه تصريحات قوية ضد الحكومة الإسرائيلية، واستمرت هذه المرحلة من نوفمبر 2023 حتى مارس 2024.
المرحلة الثانية: وهي اتخاذ الحكومة التركية اجراءات أكثر جدية من الإدانة بالتصريحات ضد حكومة إسرائيل، مثل اصدار الحكومة التركية قرار بتقييد تصدير 54 منتج لإسرائيل في 9 ابريل، أو قرار قطع العلاقات التجارية مع إسرائيل في 2 مايو، وصولًا لتهديد اردوغان بالتدخل العسكري في إسرائيل.
وبدأت المرحلة الثانية من بعد الانتخابات المحلية في تركيا في 31 مارس 2024. فقد اتجهت تركيا لإتخاذ مواقف أكثر تصعيد نتيجة الضغط الشعبي، نتيجة لخسارة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية، في شهر مارس، حيث خسر 15 بلدية، من ضمن 39 بلدية لصالح المعارضة. وتراجعت نسبة التصويت لصالح الحزب إلى 35.5%، بعد أن كانت 44.3% في الانتخابات السابقة. وقامت بعض الاحزاب والمنظمات بمظاهرات ووقفات احتجاجية، مثل قيام بعض المواطنين في بداية شهر مارس، بإعتراض طريق وزير العمل”إشيق هان”، للمطالبة بقطع العلاقات التجارية مع إسرائيل. وبالتالي يمكن تفسير زيادة التصعيد ضد إسرائيل (المرحلة الثانية من التصعيد) أنها استجابة لضغط الناخبين ورغبة في كسب أصواتهم، بعد نتائج الانتخابات المحلية.
وكانت تهدف تركيا في بداية الحرب لإتخاذ دور الوسيط، إلا أنه بعد التصعيد ضد إسرائيل أصبح الأمر غير ممكن، خاصة بعد الوساطة المصرية والقطرية في اتفاق تسليم الأسرى الذي تم بين حركة حماس وإسرائيل في نوفمبر 2023. ولذلك اتجهت تركيا لأن يكون لها دورًا في الترتيبات الأمنية لقطاع غزة بعد الحرب. من خلال عرض مقترح “آلية الضامنين” والذي يقوم على أن يكون هناك دولة تضمن كل طرف من النزاع وتكون تركيا دولة ضامنة لصالح حركة حماس، وذلك بعد التوصل لإتفاق بين الطرفين. وتقوم الدول الضامنة بضمان تنفيذ الإتفاق بين الطرفين ومنع خرق الإتفاق.
خاتمة:
تبنت تركيا في بداية الحرب موقف محايد، لسعيها للقيام بدور الوسيط، وذلك لمحاولة الحفاظ على جهود التطبيع التي قامت بها مع إسرائيل في الفترة من 2021-2022، لتحقيق مكاسب اقتصادية، ولتمتع تركيا بعلاقات جيدة مع حركة حماس. إلا أن الانتهاكات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وقيامها بجرائم حرب، بالإضافة لضغط الشعب التركي من خلال احتجاجات ومظاهرات، وانتقاد الأحزاب السياسية للموقف التركي غلب التوجه البراجماتي للحكومة التركية. ولذلك اتجهت الحكومة التركية للتصعيد ضد الحكومة الإسرائيلية، وبدأ التصعيد على المستوى الخطابي والتصريحات السياسية، ثم تطور الأمر بعد ذلك.
لم تكن تريد الحكومة مزيد من التصعيد ضد إسرائيل، وذلك حتى لا تتعقد العلاقات بينهم أكثر، ولا تتعقد مع الدول الغربية، إلا أن موقف الحكومة التركية لم يحظى بقبول شعبي، والذي كان يرفض العلاقات الإقتصادية مع إسرائيل. وبعد خسارة حزب العدالة والتنمية في الإنتخابات البلدية في مارس 2024، قامت الحكومة التركية بقطع جميع العلاقات التجارية مع إسرائيل في مايو 2024 وهى خطوة غير متوقعة. ووصل الأمر إلى تهديد أردوغان بالتدخل العسكري في إسرائيل في 28 يوليو 2024، وهو أمر من غير المتوقع حدوثة. فتركيا لا تتحمل تكلفة هجوم عسكري، وخاصة ضد إسرائيل، فلم تتدخل تركيا بشكل مباشر في الحرب بين أذربيجان وأرمينيا، وكانت تدعم أذربيجان، وإن قدمت المساعدة لأذربيجان بكافة الأشكال.
ولم تدخل قوات عسكرية تركية بشكل مباشر إلا في شمال سوريا وشمال العراق وذلك بهدف مطاردة القوات المسلحة الكردية، الموجودة في الحدود بين تركيا وسوريا وبين تركيا والعراق، بهدف حماية الأمن القومي التركي. ولا تتحمل تركيا مزيد من التصعيد ضد إسرائيل، نظرًا لوجود قضايا خلافية بين تركيا والولايات المتحدة مثل دعم الأخيرة للقوات الكردية في شمال سوريا، والتي ترى تركيا أنها تهدد أمنها القومي. بالإضافة لوجود خلافات بين تركيا والإتحاد الأوروبي والتي من أبرزها مماطلة دول الإتحاد الأوروبي في انضمام تركيا للإتحاد.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب