الرئيسيةدراساتعسكرية

التوازن بين القواعد العسكرية الأجنبية والسيادة الوطنية في جيبوتي: دراسة تحليلية للأبعاد السياسية والاقتصادية والأمنية

 إعداد/ محمد صالح دركلى (باحث دكتوراة بقسم العلوم السياسية، كلية الدراسات الأفريقية العليا، جامعة القاهرة)

المقدمة :

لقد كانت منطقة القرن الأفريقي موقعاً لبعض أكبر الحشود العسكرية الممولة خارجياً في العالم الثالث من قبل مختلف القوى الأجنبية. وقد أدى ذلك، إلى بعض أكثر النزاعات دموية في أواخر قرن العشرين. تمثل الأسباب الرئيسية لهذه الصراعات، من ناحية، في التنافس بين القوى الكبرى على الهيمنة في المنطقة، ومن ناحية أخرى، على المستوى الإقليمي، التنافس على قاعدة الموارد المتناقصة. ويشمل تاريخ المنطقة دون الإقليمية تحركات سكانية واسعة النطاق أثارتها مجموعات أخرى بحثاً عن مراعي وأراضٍ زراعية وموارد مائية أفضل .قال الرئيس الصومالي أدن عبد الله عثمان، في كلمته أمام قمة رؤساء الدول في أديس أبابا عام 1963، والتي أدت إلى إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية: “لقد استولت إثيوبيا على جزء كبير من الأراضي الصومالية دون موافقة السكان وضد رغباتهم. ولا تطالب الحكومة الصومالية بتوسيع الأراضي، ولكنها تطالب بتطبيق مبدأ تقرير المصير”، في ممارسة حقه في الرد، قال رئيس الوزراء الإثيوبي  أكليلو هابتي إن “البيان الذي أدلى به الزعيم الصومالي كان اتهامًا شائنًا ولا يمكن تصوره، وليس له أي أساس واقعي. امتدت الحدود التاريخية لإثيوبيا من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي، بما في ذلك جميع الأراضي الواقعة بينهما. هذه حقيقة. لا يوجد سجل في التاريخ لأي دولة صومالية أو أمة صومالية. يؤسفني أن أقول ذلك، لكن هذه أيضًا حقيقة. وتنظم معاهدة دولية الحدود بين البلدين. وإذا لم تعترف جمهورية الصومال بالمعاهدة، فإنها لن تكون موجودة أصلاً. إذا كان لا يسعى إلى التوسع الإقليمي، فماذا يسعى إذن؟ وعلى ماذا يبني زعمه؟ على أساس لغوي أم على أسس دينية؟[1] “. السيد/علي عارف برهان ، رئيس الوزراء في ذلك الوقت،  قال بهذا الصدد إن “التطلعات الخبيثة وغير المرحب بها على الإطلاق لجمهورية الصومال غير مقبولة بالنسبة لنا، ونحن على استعداد لمقاومة أي محاولة للضم، و أي تحرك ضد دولتنا المستقلة في المستقبل[2]

الرئيس الفرنسي القرن الأفريقي

ولربما أصبحت جيبوتي  جزء من أثيوبيا  أو الصومال ، ذلك، حسب المنطق الذي كان سائدا في ذلك الوقت ، وجيبوتي كانت ستظل جزء من مشكلة  الصومال- الأثيوبي، التي لا تنتهي ، الذي لم يلق قبولا من فرنسا، حيث أدركت فرنسا مبكرا القيمة الاستراتيجية لهذا الموقع الاستراتيجي من القرن الأفريقي، وهو الذي دفع فرنسا إلى تغيير اسم المستعمرة من الساحل الصومال الفرنسي( (C.F.S إلى الإقليم الفرنسي للعفر والعيسىT.F.A.I) ) 1967حتى الاستقلال عام 1977. وذلك لكبح جماح طموح الصوماليين وإعلان تراجعها عن وعودها السابقة لأثيوبيا، حول ضم أراضي المستعمرة إلى أثيوبيا. زيارة رئيس الفرنسي الأخيرة إلى القرن الأفريقي في الفترة 20-22 ديسمبر الجاري ، الذي خصصه لجيبوتي وإثيوبيا ،هي تأكيد لأهمية جيبوتي بالنسبة لها وضمن مصالحها الحيوية في منطقة  القرن الأفريقي.

لعبت فرنسا دورًا حاسمًا في منع إنجلترا من السيطرة بقوة على السلطة عبر البحر الأحمر في المنطقة التي كانت تسيطر عليها الإمبراطورية البريطانية في الغالب. وعلى الرغم من موجة إنهاء الاستعمار في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، أرادت فرنسا بشدة الاحتفاظ بقاعدتها العسكرية، التي أنشأتها في القرن التاسع عشر. ومن ثم، بقي الجنود الفرنسيون في جيبوتي بعد حصولها على استقلالها في عام 1977. ومُنحت فرنسا الإذن بإنشاء محطة عسكرية دائمة لجيشها وبحريتها وقواتها الجوية في مقابل مساعدة الدولة المشكلة حديثاً في إنشاء إدارة الدولة الحديثة.  ومع مرور الوقت، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، بدأت دول أخرى في تبني هذا المفهوم. فبدلاً من الطموح الاستعماري لحكم المنطقة، أصبحت الدول الأجنبية التي تبحث عن مواقع عسكرية مدفوعة الآن بالجيوسياسية العالمية. ولذلك، بدأوا في إبرام اتفاقيات ومفاوضات مع جيبوتي لإقامة وجود عسكري خاص بهم في المنطقة. تقدم جيبوتي دليلاً على أن الدولة التي تفتقر إلى الموارد قادرة على الاستفادة من موقعها المميز لتحقيق فوائد ملموسة.

تحاول هذه  الورقة البحثية اجابة على سؤال مفاده كيف استطاعت دولة بحجم جمهورية جيبوتي أن تستقطب قواعد عسكرية لدول مختلفة أيديولوجيا ومتنافسة اقتصاديا ؟ وكيف حافظت على سيادتها ؟  يمكن إجابة على هذا السؤال من خلال تناول عدد من المحاور الاستراتيجية.

المحاور الاستراتيجية

المحور الأول: الموقع الجغرافي.

يشكل مضيق باب المندب حلقة وصل استراتيجية هامة في طريق التجارة البحرية بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي عبر البحر الأحمر وقناة السويس. الدول الواقعة على الجانب الغربي من البحر الأحمر قد عانت من مستويات عالية من العنف الداخلي والعابر للحدود وعدم الاستقرار لعقود، وأصبحت في السنوات الأخيرة نقطة انطلاق للإرهاب والقرصنة والاتجار بالبشر والتهريب. وأصبحت  ساحة تتنافس فيها دول الغرب والشرق لتعزيز المصالح التجارية والجيوسياسية لبعضها البعض مع اشتداد التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين[3]. وقد زاد أهمية بابا المندب أكثر من الأول منذ اندلاع  الحرب الروسية الأوكرانية ، حيث أصبحت الدول العربية المصدرة للنفط تعتمد بشكل متزايد على باب المندب. حيث أدى  هذا النزاع إلى تحويل صادرات النفط الرئيسية من آسيا إلى أوروبا بسبب العقوبات الاقتصادية الأوروبية على قطاع النفط الروسي. وكما شجعت العقوبات على البحث عن مشترين جدد وزيادة الصادرات إلى الهند والصين، وهما تقليديًا أهم مشتري نفط الخليج العربي. وفي الوقت نفسه، حاولت أوروبا إيجاد موردين جدد ليحلوا محل النفط الروسي، مما أدى إلى تغيير طرق النفط العالمية. أعيد توجيه النفط الروسي نحو آسيا والنفط العربي نحو أوروبا. ازدادت أهمية باب المندب في تجارة النفط العالمية، وعلاوة على ذلك، فإن حجم النفط المنقول عبر طريق باب المندب – قناة السويس آخذ في الارتفاع، حيث ارتفع من 6.4 مليون برميل يوميًا في عام 2018 إلى 8.6 مليون برميل يوميًا في عام 2023. وعلى العكس من ذلك، فإن أحجام النقل عبر طريق رأس الرجاء الصالح آخذة في الانخفاض، حيث انخفضت من 7.6 مليون برميل يوميًا في عام 2018 إلى 6 ملايين برميل يوميًا في عام 2023. ويُعزى هذا الانخفاض إلى انخفاض أحجام النقل من ساحل الخليج والولايات المتحدة، وزيادة الاعتماد على طريق قناة السويس الأقصر، والذي يتأثر حاليًا بالتوترات في مضيق باب المندب[4]. وبالإضافة إلى المخاطر التي يشكلها الحوثيون، هناك مصادر محتملة أخرى لعدم الاستقرار ، مثل التوترات المتزايدة بين إثيوبيا والدولتين الساحليتين إريتريا والصومال، والحرب الأهلية في السودان، والاشتباكات العرقية في إثيوبيا، وتطلع أرض الصومال للانفصال عن مقديشو، والارهاب الإسلامي المتمثل في حركة الشباب في الصومال.

المحور الثاني: الخلفية التاريخية والجيوسياسية

أصبحت جيبوتي مستعمرة فرنسية في عام 1883،  قدمت المستعمرة أراضي حيوية لفرنسا، محصورة بين المستعمرات الإنجليزية والإيطالية وإثيوبيا غير المستعمرة ، في منطقة تهيمن عليها إلى حد كبير الإمبراطورية البريطانية، كانت جيبوتي حاسمة لمنع إنجلترا من احتكار المنطقة عبر البحر الأحمر وقناة السويس التي تم بناؤها 1869، والتي خفضت أوقات السفر بين أوروبا وآسيا بمقدار 10 أيام. بينما سيطر البريطانيون على القناة، احتفظ الفرنسيون بالسيطرة على مضيق باب المندب من جيبوتي، مما منع البريطانيين من التدخل في التجارة في المنطقة[5]. في السنوات الأخيرة، عززت القوى الكبرى علاقاتها مع دول القرن الأفريقي. ومن بين هذه الدول جذبت جيبوتي اهتمام القوى الكبرى بسبب بنيتها الفريدة والمستقرة في منطقة مضطربة وغير مستقرة سياسيا[6] . وثمة عامل آخر يجعل جيبوتي جذابة للقوى الكبرى وهي قربها من الدول ذات المخاطر العالية في أفريقيا والشرق الأوسط. فالصومال نقطة اشتعال للصراع بسبب المخاطر الأمنية التي يشكلها القراصنة ومسلحو حركة الشباب، واستمرار القتال في اليمن شمال شرق مضيق باب المندب . تتطلب هذه الأزمات من الجهات الفاعلة الدولية إنشاء قواعد عسكرية في المنطقة. غالبا ما تستخدم الدول هذا النوع من القواعد لإبراز قوتها والتدخل في الشؤون الإقليمية ونشر ثقافتها وزيادة نفوذها السياسي .وبالتالي، تتمتع جيبوتي الآن بميزة كونها قاعدة أمنية إقليمية مهمة[7].

ازدادت أهمية موقع جيبوتي بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية في الولايات المتحدة الأمريكية. أطلقت الولايات المتحدة ”الحرب العالمية على الإرهاب“ وقررت إنشاء قاعدة عسكرية في جيبوتي في عام 2002. وهي القاعدة العسكرية الأمريكية الدائمة الوحيدة في أفريقيا. وتستضيف القاعدة قوة المهام المشتركة – القرن الأفريقي (CJTF-HOA)، كما دعمت العمليات العسكرية الأمريكية في العراق؛ حيث تضم القاعدة 4000 جندي وأصولاً جوية وبحرية وبرية كبيرة، وكانت مفيدة في تنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب في الصومال واليمن، وفي القرن الأفريقي (خاصة السودان) وجنوب شبه الجزيرة العربية. وقد أثبتت فائدتها في مراقبة التطورات عن كثب. كما وسّعت جيبوتي من تواجد الولايات المتحدة في شمال غرب المحيط الهندي، وربطت مصالح الولايات المتحدة في المحيط الهندي وأفريقيا بالتزامن مع العديد من المنشآت العسكرية الأصغر حجماً في الدول الأفريقية المطلة على المحيط الهندي، بما في ذلك كينيا والصومال وسيشيل[8]. بدأ الانخراط الرسمي للصين في المشهد الاقتصادي في جيبوتي ببناء الموانئ التجارية بالشراكة مع الحكومة الجيبوتية في عام 2012. لم تكن هذه المبادرة مجرد معاملة بل كانت لحظة محورية في علاقة مزدهرة كانت في طور التكوين منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. يمكن إرجاع تسارع الاستثمار الصيني في جيبوتي إلى صعود شي جين بينج إلى منصب الرئيس في عام 2012، تلاه تدشين مبادرة الحزام والطريق في العام التالي. إن الديناميكية الصينية الجيبوتية توضح كيف استغلت بكين مبادرة الحزام والطريق لتعزيز نفوذها الاقتصادي وتعزيز مكانتها باعتبارها المستثمر الأول في أفريقيا – وهي القارة التي تتميز بنمو سكاني سريع وإمكانات اقتصادية مزدهرة[9]. أنشأت اليابان قاعدة لقوات الدفاع الذاتي في جيبوتي في عام 2011. وكان هدفها  الأول هو حماية سفنها التجارية من القرصنة، لكنها أضافت مؤخرًا مهمة جمع المعلومات الاستخباراتية. كانت القاعدة  اليابانية جيبوتي أول قاعدة لها في الخارج منذ الحرب العالمية الثانية. وتتمثل اهتمامات اليابان الأساسية في حرية الملاحة، خاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وإمدادات مستقرة من النفط من الشرق الأوسط. لذلك تظل الدبلوماسية اليابانية والسياسة الخارجية اليابانية في جيبوتي مهمة جدا[10].

المحور الثالث:  الأبعاد السياسية

وجود قاعدة أجنبية في أي دولة ،إذا أخذ بمعنى أنه هو تخلي الدولة المضيفة عن السيادة الإقليمية ومنح الدولة المستخدمة مستوى عالٍ من السلطة التقديرية على استخدام الموقع . قد يكون هذا عاملاً مؤثرًا في الحوار على المستوى الدولي والمواقف الاجتماعية للمجتمع المضيف. كما أن مسألة الفائدة والوضع القانوني للقواعد الأجنبية في المنطقة ذات صلة أيضاً في سياق حقوق المجتمع المضيف وسيادته. ومع ذلك، فإن فوائد القواعد العسكرية الأجنبية قد تضمن الاستقرار والأمن  والتنمية الاقتصادية للدولة المضيفة، في حين أن مساوئها قد تؤدي إلى اختلال التوازن الاجتماعي والعداء بين الفاعلين السياسيين. كما قد يتم التعامل معها على أنها تلعب دوراً ثانوياً، مثل عدم المشاركة في المفاوضات الدولية بين الدول والحكومات[11] .في الواقع، لقد أسيء استخدام نظرية السيادة لتبرير الاستبداد المحلي والفوضى الدولية. وقد أعاقت هذه النظرية تطوير القانون الدولي وعرقلت عمل المنظمات الدولية وأدت إلى تسلط الدول القوية على الدول الضعيفة. أما اليوم، فقد دخل مفهوم السيادة مرحلة جديدة. وذلك لأن التحول الذي طرأ على النظام الدولي في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية أدى إلى تراجع فكرة سيادة الدولة وتآكلها[12].

إن عسكرة جيبوتي لا تخلو من المخاطر على تنميتها السياسية والاقتصادية وسيادتها، ولا يمكن اعتبار الاتفاقيات الموقعة بين دولة جيبوتي وشركائها العسكريين( الصين ، أمريكا ، فرنسا، اليابان…..) مثالية لجميع الأبعاد السياسية والاقتصادية والأمنية ، كما لا  يمكن للدول المستأجرة أن تدعي ممارسة حقوقها المطلقة على الأراضي الجيبوتية ، وبعيدة كل البعد مقارنتها بالاتفاقيات الموروثة من الحقبة الاستعمارية ، مثل القاعدة الأمريكية في غوانتانامو  ، حيث أن الاتفاقية التي تربط كوبا بالولايات المتحدة الأمريكية لا تحدد أي مصطلح لإنشاء هذه القاعدة، فالقواعد البريطانية في قبرص ، لا ينص الاتفاق على قيام قبرص بطلب التراجع عنها ، في المقابل أن الاتفاقيات المتعلقة  بالقواعد في جيبوتي ليست بهذه الشدة ، وإن كانت الصعوبة تتمثل في طلب اغلاق تلك القواعد ، التي استثمرت فيه كل من الصين والولايات المتحدة مبالغ ضخمة ، والبعد الاستراتيجي لهذه المؤسسات أيضا تعطي طابعا لا رجعة فيه . من المؤكد أن انتشار القواعد العسكرية عززت مكانة الدولة الجيبوتية في القرن الأفريقي ، من خلال ابراز استقلالها على الساحة الدولية، والاستفادة من حالة التنافس بين شركائها لتعزيز قدرتها على اتخاذ القرار، كما يبدو إن اختلافات المصالح بين الدول المستأجرة  أعطى مساحة الاستقلال الاستراتيجي لجيبوتي[13] .

كما تستفيد جيبوتي من الافتقار إلى التقارب الأيديولوجي بين الدول المستأجرة لها، لتطوير خططها الدبلوماسية الخاصة ، حيث اتخذت في الجمعية العامة للأمم المتحدة مبادرات متصادمة مع الدول الغربية للاعتراف بحقوق الفلسطينيين في  الأراضي المحتلة( القرار 20/71 في 30 نوفمبر 2016) ، من النادر أن صوتت جيبوتي بالتنسيق مع المعسكر الغربي ، وهذا ما يؤكد استقلال سيادتها عن المستأجرين[14].

المحور الرابع : الأبعاد الاقتصادية

لكي تعمل القواعد العسكرية الأجنبية بشكل صحيح داخل أراضي البلد المضيف، فإنها تحتاج إلى توفير الإمدادات والخدمات للقوات المتمركزة. وتخصص بعض الدول، مثل اليابان، أكثر من مليار دولار أمريكي سنويًا للقواعد العسكرية الأمريكية على أراضيها ، وهو ما يمثل غالبية التكاليف الضرورية. بأن قبول القواعد العسكرية الأجنبية قد يكون نتيجة ظروف تاريخية واجتماعية واقتصادية وتتلقى هذه الدول تمويلًا لتطوير البنية التحتية والتعليم والاتصالات والطاقة؛ كما تسعى الدول أيضًا للحصول على تمويل لتطوير البنية التحتية[15]. فإن التنمية الاقتصادية الشاملة تضم جميع مراحل التنمية الأخرى، بما في ذلك التنمية البشرية ومستويات المعيشة. على مدى العقدين الماضيين، قدمت الولايات المتحدة ثاني أكبر قدر من المساعدات لجيبوتي، بعد فرنسا، وقد زاد حجم التمويل الأمريكي لجيبوتي بشكل كبير مع مرور الوقت، مع تزايد مفهوم ”طغيان المسافة“ والحرب العالمية على الإرهاب منذ هجمات 11 سبتمبر2001. وفقا لنفس المصدر فإن عائدات الايجارات ، التي تدفعها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ، تأتي في المرتبة الثانية بعد رسوم العبور التي تدفعها إثيوبيا غير الساحلية لتصدير منتجاتها عبر موانئ جيبوتي البحرية[16]. وإلى جانب الإيجارات، توفر هذه المرافق فرص عمل للجيبوتيين. على سبيل المثال، توظف القاعدة حوالي 1,200 عامل محلي ودولي، مما يساهم بشكل كبير في قطاع التوظيف. وعلى الرغم من ذلك، فإن نسبة البطالة في جيبوتي مرتفعة باستمرار وهي في حدود 50-60% منذ عام 2007 ، كان معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في جيبوتي سالبًا في البداية، لكنه تحول تدريجيًا إلى إيجابي منذ عام 2001، حيث وصل إلى 5.8% في عام 2008، ووصل إلى 5.5% في عام 2014 ، وبالتالي، لعبت الإيرادات التي تولدها القواعد العسكرية الأمريكية، إلى جانب نتائجها الاقتصادية المفيدة، دورًا مهمًا في تعزيز النمو الاقتصادي في جيبوتي، إلى جانب الإيرادات التي تتلقاها من القوى الأجنبية الأخرى[17].

ارتفع الناتج المحلي الإجمالي لجيبوتي بين عامي 2012 و 2020 من 1.4 مليار دولار أمريكي (1419 دولارًا أمريكيًا للفرد) إلى 3.4 مليار دولار أمريكي (2918 دولارًا أمريكيًا للفرد). إن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أعلى بكثير من البلدان المجاورة، مثل إثيوبيا (919 دولارًا أمريكيًا (2020)) والصومال (416 دولارًا أمريكيًا (2020)). وعلى النقيض من ذلك، انخفض معدل الفقر (نسبة الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر الوطني البالغ 2.11 دولارًا أمريكيًا في اليوم) قليلاً فقط من 23٪ في عام 2012 إلى 21٪ في عام 2017، مع معدل بطالة بلغ 47٪ (اعتبارًا من عام 2017). على الرغم من أن 46.6% من الناتج المحلي الإجمالي مستمد من أنشطة الموانئ ، فإن العمالة في القطاع لا تشكل سوى 19.13% من القوى العاملة، مع كون أكبر صاحب عمل هو الحكومة (44.97% من القوى العاملة). يمكننا أن نرى أن الجزء الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي يتم إنتاجه من قبل الشركات المملوكة للدولة وإعادة توزيعه من خلال النظام الحكومي، جزئيًا، من خلال التوظيف المباشر[18].

في عام 2020 ، شكلت الإيرادات من تأجير القواعد العسكرية 18% من إجمالي الإيرادات الحكومية. وبالإضافة إلى ذلك، ترتبط التبرعات، مثل مساعدات المنح، ارتباطاً وثيقاً بتمركز القواعد العسكرية الأجنبية وتمثل 10-20% من إيرادات حكومة جيبوتي. وساعدت الاستثمارات الصينية، التي أتت معظمها على شكل قروض في بناء البنية التحتية التي طالما سعت لها جيبوتي. إن حجم وسرعة الاستثمار الصيني يفوق حجم وسرعة استثمارات المستثمرين الآخرين. مما يضع عبئاً ثقيلاً على عمليات السداد المستقبلية. وبفضل زيادة التجارة المقترنة بتطوير الموانئ، استعاد اقتصاد جيبوتي تحقيق نموا مطردا. فقد وصل الناتج المحلي الإجمالي للبلاد إلى 1.4 مليار دولار أمريكي في عام 2012 وتضاعف إلى 3.4 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2020. ولا يمكن أن يُعزى كل هذا النمو إلى القواعد العسكرية الأجنبية، ولكن كما ذكرنا أعلاه، فإن القواعد  كان لها تأثير إيجابي على السلام والاستقرار في البلاد وتجتذب تبرعات وقروضاً كبيرة. وبالتالي فإن استضافة القواعد ساهمت بشكل كبير في التنمية الاقتصادية في جيبوتي[19].

المحور الخامس: الأبعاد الأمنية

منذ توسيع وتعزيز الصين والولايات المتحدة الأمريكية وجودهما العسكري في جيبوتي. أصبح وجود هاتين القوتين بمثابة سلاح ذو حدين بالنسبة لمنطقة القرن الأفريقي. ومن الناحية الإيجابية، ساهمت القوتان في السلام والاستقرار الإقليميين من خلال المساعدات الأمنية والتعاون الأمني. وعلى وجه الخصوص، فإن المشاركة الصينية في استثمارات البنية التحتية في القرن الأفريقي كان لها آثار على التكامل الإقليمي، وبالتالي السلام والأمن الإقليمي. بالإضافة إلى ذلك، لعبت كل من الصين والولايات المتحدة دورًا بناءً في مكافحة التهديدات الأمنية العابرة للحدود الوطنية في منطقة البحر الأحمر. والجانب السلبي ، يتمثل  في وجود قوات من دول متنافسة مثل الولايات المتحدة والصين قد يؤدي إلى توترات سياسية وأمنية، مع احتمال اندلاع صراعات بالوكالة، والتنافس العسكري بين هذه الدول على النفوذ قد يعرض جيبوتي لمخاطر أن تصبح ساحة مواجهة.

الخاتمة

تمثل جيبوتي نموذجًا فريدًا للدول الصغيرة التي نجحت في استثمار موقعها الجغرافي الاستراتيجي لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وأمنية، من خلال استضافة قواعد عسكرية لقوى دولية متعددة. ورغم التحديات التي تفرضها هذه الاستراتيجية، مثل احتمالات المساس بالسيادة الوطنية أو التعقيدات الناتجة عن التنافس بين القوى الكبرى، إلا أن جيبوتي تمكنت من تحقيق توازن نسبي يعزز استقلالها النسبي ويخدم مصالحها الوطنية.إن مستقبل جيبوتي يعتمد على قدرتها على الاستمرار في الاستفادة من هذه الديناميكيات الإقليمية والدولية، مع تطوير سياسات تضمن استدامة النمو الاقتصادي، وتحسين مستوى المعيشة، وتعزيز الأمن الإقليمي. في الوقت نفسه، يجب أن تسعى جيبوتي إلى تقليل اعتمادها على العائدات من القواعد العسكرية من خلال تنويع مصادر دخلها وتطوير قدراتها الذاتية.بهذا، يمكن لجيبوتي أن تظل لاعبًا رئيسيًا في منطقة القرن الأفريقي، محافظة على استقلالها وسيادتها، مع تحقيق التنمية المستدامة لشعبها.

 

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

قائمة المراجع:

 

[1] -Daniel Kendie, Towards Resolving the Ethiopia-Somalia Disputes, Westerne Michigan University,(2007)P.2.

[2] -Ibid,.P.7.

[3]– John Calabress, The Bab el-Mandab Strait Regional and great power rivalries on the shores of the Read Sea, Midle Eeast Institute,(29 January 2020).

[4] -Dr Mohamed Shadi, Strategic Ramifications of Unrest in Bab El Mandab: The Arab Cost,Al Habtoor Research Centre, 6 Aug 2024.

[5] -Eman Zahid Jokhio, Stratigic Significance of Djibouti: A Geopolitical playground of Global Power, ModernDiplomacy,(21 February 2024)

[6] – Pelin Aliyeve, Goktug CALISKAN, How does the Geopolitical position of Djibouti influence its Realtions with Geat power ? , Journal of Diplomacy and Stretagy,( V.4, 2023)P.194.

[7] -Ibid,.P.195

[8] -Dr Sankalp Gurjar, Djibouti, The Organizing Principal of the Indo-Pacific, Journal of Indo-Pacific Affairs,( Especial Issue,November 2021).P.51.

[9] -Dalmar Ladan, The  Geostrategic Dynamics of the China-Djibouti Partnership, Journal Social Politik(ESOLUSI),(Vol.7,N°.1,Jan-Jun 2024) P.25.

[10] – Kanako Masuda, Competition of Foreign Military Bases and the Survival Strategies of Djibouti,JICA Ogata Sadako Research Institute for Peace and Development,( Knowledge Report No.8 July 2023)P.7.

[11] – Grzegorz SMUŁEK, NIMBY or YIMBY? Understanding the complex relationships between foreign military bases and host societies, MORAVIAN GEOGRAPHICAL REPORTS(2024)P.5.

[12]– نواري أحلام، تراجع السيادة الوطنية في ظل التحولات الدولية ،دفاتر السياسة والقانون( جزائر ، جامعة سعيدة ، العدد.4 ، يناير 2011) ص 25.

[13] – Jean-Luc Martineau, Djibouti et le « Commerce » des bases militaires :un jeu dangereux, OptionEdition Journals, 2018. https://doi.org/10.4000/espacepolitique

[14] -Idem

[15] -Grzegorz SMUŁEK, NIMBY or YIMBY? Understanding the complex relationships between foreign military bases and host societies,op.cit.,P.6.

[16] – Kanako Masuda, Competition of Foreign Military Bases and the Survival Strategies of Djibouti, op.cit.,P.22.

[17] -Idem

[18] -Kelechukwu Dennis Ezeh,Dr Gerald Ekenedirichukwu, Foreign Military Bases (FMBs) and Economic Security in Africa: Overview of FMBs in Djibouti, International Journal of Geo politics an Governance,( Vol.2,Issu.1, 2023)P.20.

[19] – Kanako Masuda, Competition of Foreign Military Bases and the Survival Strategies of Djibouti, op.cit.,P.24.

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى