«القرن الإفريقي الجديد: كيف تعيد مصر رسم خرائط النفوذ؟»

إعداد: رامي زُهدي – خبير الشأن الإفريقي، نائب رئيس مركز العرب للأبحاث والدراسات
بين جغرافيا تتكلم بلغة البحر الأحمر، وتاريخٍ تسكنه مصر منذ آلاف السنين، وعالم جديد يعيد رسم خرائطه بقواعد عسكرية وصراعات مصالح، تقف مصر اليوم أمام تحدٍ استراتيجي وفرصة تاريخية في آنٍ واحد، لإعادة ترسيخ نفوذها الطبيعي في منطقة القرن الإفريقي. فليست مصر غريبة عن هذه الرقعة من العالم، بل كانت دومًا – ولا تزال – مركز ثقل فيها، سياسيًا، دينيًا، وثقافيًا، وأمنيًا.

اقرأ أيضا: الأمن البحري في القرن الأفريقي.. القرصنة وتحديات الاستقرار
“تعريف القرن الإفريقي وحدوده المتغيرة”
يُعرف “القرن الإفريقي” تقليديًا بأنه المنطقة الشرقية من إفريقيا التي تضم إثيوبيا، إريتريا، جيبوتي، والصومال. غير أن المقاربات الحديثة توسّعت بهذا المفهوم، لتتحدث عن “القرن الإفريقي الكبير” أو “الممتد”، والذي يضم كذلك السودان، جنوب السودان، كينيا، أوغندا، تنزانيا، بل ويشمل مصر في بعض الأدبيات الاستراتيجية، باعتبارها الضامن التاريخي لأمن البحر الأحمر والمصب الطبيعي لنهر النيل، وصاحبة أدوار مركزية في الإقليم.
تلك المنطقة ليست مجرد حدود جغرافية، بل هي حزام استراتيجي يربط بين آسيا وإفريقيا، ويشكل الجسر بين المحيط الهندي والبحر الأحمر، ويمثل عقدة الربط بين أعالي النيل ومصبّه، بين منابع التنمية وبوابات التجارة العالمية، بين الأمن الإقليمي وأمن الملاحة الدولية.
” القرن الإفريقي في ميزان الأرقام والتحولات”
يبلغ عدد سكان دول القرن الإفريقي الكبير ما يزيد عن 340 مليون نسمة حتى عام 2025، ضمن مساحة تتجاوز 6.5 مليون كيلومتر مربع، مما يجعله من أكثر الأقاليم كثافةً سكانية وتنوعًا إثنيًا وثقافيًا. وعلى الرغم من التفاوت في مستوى النمو، إلا أن الناتج المحلي الإجمالي المجمع لدول هذا الإقليم يتجاوز حاجز ال 500 مليار دولار، ما يعكس حجمًا اقتصاديًا ليس هينًا.
من الناحية العسكرية، تمتلك دول الإقليم أكثر من 900 ألف جندي، وتتفاوت قوة جيوشها، حيث تأتي إثيوبيا ضمن أقوى الجيوش في إفريقيا وتحتل المرتبة 49 عالميًا، تليها السودان في المرتبة 73، ثم كينيا في المرتبة 81، في حين أن مصر، وإن لم تكن رسميًا جزءًا من القرن الإفريقي، تُعد قوة إقليمية مركزية تحتل المرتبة 14 عالميًا وفق مؤشرات القوة العسكرية لعام 2025 وفي سنوات سابقة اقتربت من المرتبة العاشرة، مما يضعها في قلب معادلات الردع الإقليمي والتأثير الأمني الممتد.
“التنافس الدولي في ممر النار”
تتمركز في منطقة القرن الإفريقي أكثر من ثلاث عشرة قاعدة عسكرية أجنبية، وهو رقم غير مسبوق في أي إقليم آخر في القارة. الولايات المتحدة الأمريكية تحتفظ بقاعدتها الأساسية في جيبوتي، وتشاركها فرنسا التي تحتفظ بأكثر من قاعدة ومرفق عسكري هناك، إلى جانب إيطاليا وبريطانيا واليابان.
لكن التحول الأهم كان في دخول الصين رسميًا إلى المشهد، عبر أول قاعدة عسكرية خارج أراضيها، والتي أقامتها في جيبوتي أيضًا. كما تحضر الإمارات بقوة عبر إدارة موانئ في الصومال وأرض الصومال، ووقّعت اتفاقيات أمنية مع كينيا وإثيوبيا، بينما دخلت تركيا بثقلٍ لوجستي وديني من خلال برامج تدريب عسكرية في الصومال وبناء قواعد في سواحل البحر الأحمر.
ولا يخفى وجود إسرائيل في المنطقة من خلال اتفاقيات غير معلنة للرقابة والتعاون الاستخباراتي، فيما تحاول إيران – وإن كانت بشكل خفي وغير معلن – بناء حضور عبر بوابات دينية أو تجارية في بعض مناطق القرن الإفريقي.
كل هذه المعطيات تُظهر أن القرن الإفريقي لم يعد مجرد “هامش قاري”، بل أصبح مركزًا دوليًا لتوازنات النفوذ وصراعات المصالح، تزداد أهميته مع تصاعد دور الممرات البحرية والموانئ في التحكم في التجارة العالمية.
” مصر والقرن الإفريقي.. علاقة راسخة وحضور متجدد”
مصر لم تكن يومًا على هامش هذه المنطقة. فمنذ العصور الفرعونية، كانت الحملات المصرية تتجه إلى بلاد بونت (المعروفة حاليًا بالصومال)، مرورًا بالعصور القبطية حيث كان للكنيسة المصرية وصاية روحية على الكنيسة الإثيوبية، ثم الدور العربي والمملوكي، وصولًا إلى العصر الحديث حيث لعبت مصر دورًا محوريًا في دعم استقلال دول الإقليم، ومساندة حركات التحرر الوطني، وتقديم المساعدات الفنية والعسكرية.
في العقود الأخيرة، تعمق الدور المصري في ملفات حساسة مثل ملف سد النهضة، والأزمة السودانية، ومكافحة الإرهاب في الصومال، ودعم الاستقرار في جنوب السودان. ومع تنامي التحديات، بدأت مصر في اعتماد مقاربة استراتيجية جديدة للقرن الإفريقي تتجاوز المفهوم الأمني، لتشمل الاقتصاد والدبلوماسية الثقافية، والنفوذ الناعم، والبنية التحتية.
“المحاور الاستراتيجية للتحرك المصري في القرن الإفريقي”
يعتمد التحرك المصري الجديد في القرن الإفريقي على خمسة محاور متكاملة:
. المحور الأمني والعسكري: حيث تتعامل مصر مع البحر الأحمر والقرن الإفريقي باعتبارهما جزءًا من أمنها القومي المباشر. وقد عززت من وجودها الاستخباراتي والدفاعي، وأجرت مناورات مشتركة مع السودان، ووسعت من دائرة التعاون العسكري مع بعض دول الإقليم.، وتم توقيع اتفاقيات تعاون عسكري مع معظم دول الإقليم.
. المحور الاقتصادي واللوجستي: تسعى مصر إلى ترسيخ علاقات تجارية مع كينيا والسودان والصومال وچيبوتي وارتيريا، وتشارك في مشروعات ضخمة مثل مشروع ربط بحيرة فيكتوريا بالبحر المتوسط، وتدفع نحو تفعيل المناطق اللوجستية، وتعمل على مد خطوط سكك حديدية وربط الموانئ والطرق عبر إفريقيا الشرقية.
. محور التعليم والدبلوماسية الناعمة: حيث تقدم مصر مئات المنح الجامعية والدراسية لأبناء دول القرن الإفريقي، وتدعم جهود الأزهر والكنيسة المصرية في حفظ التوازن الديني، كما تنشط الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية في تقديم برامج فنية وتدريبية للدول الشقيقة.
. المحور الطبي والإنساني: من خلال إرسال قوافل طبية وإنشاء مستشفيات ميدانية في بعض الدول مثل السودان والصومال، إلى جانب تقديم الدعم في مجال مكافحة الأوبئة والأمراض المستوطنة.
. المحور الإعلامي والاستراتيجي: حيث بدأت مصر في تعزيز خطابها الإعلامي الموجّه إلى شعوب القرن الإفريقي، وتفعيل أدوات القوة الناعمة الثقافية، وإنشاء مراكز فكرية للتنسيق بين العواصم الإفريقية.
“الأمن في القرن الإفريقي.. البوابة إلى أمن البحر الأحمر والعالم”
يمتد تأثير القرن الإفريقي ليشمل أحد أهم الممرات البحرية العالمية، حيث يطل على مضيق باب المندب الذي تمر منه أكثر من 9% من التجارة العالمية، ويرتبط مباشرةً بقناة السويس التي تمثل نحو 12% من حركة الملاحة البحرية الدولية. أي اضطراب أمني أو سياسي في دول القرن الإفريقي ينعكس فورًا على حركة التجارة العالمية، وأمن الطاقة، واستقرار الدول الخليجية والآسيوية.
لذلك فإن ضمان الاستقرار في القرن الإفريقي هو قضية أمن دولي بامتياز، ومصر بما تملكه من موقع استراتيجي، وجيش قوي، وسياسات متزنة، مؤهلة للعب دور رائد في هذا المجال.، وهي تقوم بدور مسؤول وايجابي تجاه العالم اجمع في هذا الإطار.
“ملامح الرؤية المصرية المستقبلية للقرن الإفريقي”
إن إعادة صياغة الدور المصري في القرن الإفريقي يجب أن تُبنى على رؤية استراتيجية شاملة، تشمل:
تعزيز علاقات التعاون مع مختلف دول القرن دون انحياز لطرف على حساب آخر.
فتح الأسواق الإفريقية أمام القطاع الخاص المصري، وتشجيع الاستثمار في الزراعة والصناعات التحويلية.
إطلاق مبادرات تنموية مشتركة في مجالات التعليم، الصحة، والمياه.
تطوير شبكة المراكز الثقافية المصرية في دول القرن الإفريقي.
تنشيط الإعلام المصري الخارجي ليواكب التنافس الإقليمي على الرأي العام الإفريقي.
أخيرا؛
“مصر والقرن الإفريقي.. شراكة قدر ومسؤولية تاريخية”
ليست العلاقة بين مصر والقرن الإفريقي علاقة مصالح طارئة أو تحالفات ظرفية، بل هي امتداد طبيعي لوحدة جغرافية وروحية وتاريخية. وفي وقت يتصارع فيه الآخرون على النفوذ، تسير مصر في طريق بناء “شبكات من الشراكات”، لا قواعد من الاستغلال.
إنّ التحدي الأكبر اليوم ليس فقط أن تحافظ مصر على حضورها في القرن الإفريقي، بل أن تتحول إلى “القوة المُجمِّعة” بين شعوبه، والدولة الحاضنة لاستقراره، والشريك الأول في بناء مستقبله.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب