رأي

رامي زهدي يكتب.. «من يسبق الصين في إفريقيا؟»

الكاتب خبير الشؤون الإفريقية السياسية والاقتصادية، ونائب رئيس مركز العرب للأبحاث والدراسات، ومساعد رئيس حزب الوعي للشؤون الإفريقية

سباق نحو النفوذ أم شراكة تنموية

صعود التنين في قلب القارة، ففي عالم يتغير بسرعة، وتتبدل فيه خرائط المصالح والنفوذ، لم يعد الحضور الصيني في إفريقيا مجرد ملف اقتصادي أو موجة استثمارية عابرة، بل تحوّل إلى ركيزة أساسية في الإستراتيجيات الكبرى للقوى العالمية. وعلى مدار العقدين الماضيين، تقدمت الصين لتصبح الشريك التجاري الأول للقارة، متجاوزة أوروبا والولايات المتحدة، وراسيةً نموذجًا من العلاقات يُحير المراقبين بين من يراه استعمارًا ناعمًا ومن يعتبره شراكة عادلة تحقق المكاسب للجميع.

اقرأ أيضا: المفكر العربي الكبير علي محمد الشرفاء الحمادي يكتب.. رسالة الإسلام تحقق الأمن والسلام

 

كل هذا في وقت يرى الأفارقة في الصين صديقًا قديمًا وأهل للثقة، حيث تستند العلاقة الصينية الإفريقية إلى إرث سياسي عميق منذ خمسينيات القرن الماضي، حين دعمت الصين حركات التحرر الوطني في زيمبابوي، أنجولا، موزمبيق وتنزانيا، في وقت كانت القوى الغربية تنحاز للاستعمار أو تلوذ بالصمت.

وظلت دائما هناك عوامل جاذبة في النموذج الصيني دون غيره، منها، مبدأ “عدم التداخل”، حيث تتجنب الصين التعليق على الشؤون الداخلية أو فرض شروط سياسية أو حقوقية، بعكس المؤسسات الغربية، وكذلك خطاب المساواة والتفاهم الجنوبي-الجنوبي، في وقت تصر بكين على أنها دولة نامية، تسعى للتنمية المشتركة وليس فرض الهيمنة، وأيضا سهولة الإجراءات والمرونة في تنفيذ المشاريع الصينية والتي غالبًا ما يتم بسرعة وكفاءة، مقارنةً بالمساعدات الغربية المربوطة بالبيروقراطية والتقارير.

ليظل الصين والغرب… على مفترق طرق إفريقي، ففي حين تمضي الدول الغربية بسياسات المشروطية (الحوكمة، الشفافية، الإصلاحات الديمقراطية)، تتعامل الصين بمنطق “النتائج على الأرض”، وتبدو الأمثلة واضحة في هذا الإطار،في كينيا مثلا، أنشأت الصين سكة حديد مومباسا – نيروبي بتكلفة 3.2 مليار دولار.، وفي إثيوبيا، مولت الصين مشاريع الطاقة وسكك الحديد، وشيدت المنطقة الصناعية في أداما.
بينما في أنجولا: ضخت الصين نحو 42 مليار دولار لإعادة الإعمار مقابل صادرات نفطية طويلة الأمد.

وبينما يُتهم الغرب بـ”الوعظ” دون تنفيذ، تُوصف الصين بـ”الشريك العامل في صمت”، ما جعلها، بحسب تقرير لمؤسسة McKinsey (2017)، الشريك التجاري الأول لأكثر من 30 دولة إفريقية.

فكرة التعاون أم السيطرة؟ مثلت وجه آخر للنفوذ الصيني والغربي داخل القارة، حيث تروج الصين لنموذج “رابح-رابح”، لكنها، في الوقت ذاته، تكرس حضورها السياسي والعسكري، مثلا، القاعدة العسكرية في جيبوتي (2017)، وكانت أول تمركز عسكري صيني خارج البلاد، وكذلك أزمات الديون، في زامبيا وسرياليون، أثار التوسع الصيني مخاوف من الوقوع في “فخ الديون” وحدث ذلك في دول افريقية أخري، ومن الأمور السلبية، ظهور رفض شعبي متزايد في بعض الدول التي شهدت احتجاجات ضد العمالة الصينية وهيمنة شركاتها على القطاعات المحلية.

لكن يبقي السؤال هل هو استعمار جديد؟ الإجابة ليست بالنفي ولا بالإثبات، إنه ليس بالمعنى التقليدي، لكنه “استعمار استثماري” يعتمد على الاقتصاد بديلًا للمدافع. وهو أقل عنفًا وأفضل إحتراماََ، لكنه أكثر تعقيدًا.

ومن الأمور المهمة في التناول، أن الصين هي أكبر دائن لإفريقيا، حيث تشير الحقائق بالأرقام الي انه ووفقًا لمبادرة أبحاث الصين في إفريقيا (CARI) بجامعة جونز هوبكنز، بلغت إجمالي القروض الصينية لإفريقيا منذ عام 2000 وحتى 2022 أكثر من 170 مليار دولار، وكانت الدول الأكثر استدانة أنجولا بقيمة 42 مليار دولار، ثم. إثيوبيا. بقيمة. 14 مليار دولار، وثالثاََ زامبيا بقيمة أصل ديون بلغت 9.8 مليار دولار، لكن رغم الجدل، أعادت الصين هيكلة ديون إثيوبيا وتشاد والكونغو، ما يُظهر مرونة نسبية لا تتوفر غالبًا لدى صندوق النقد أو البنك الدولي او الدول الغربية.

تريد الصين من إفريقيا الكثير لكنها في المقابل لاتمانع منح الدول الإفريقية مقابل عادل مالي او چيوسياسي، أبرز ما تسعي اليه الصين من عمقها الإفريقي هي الموارد، حيث تمتلك إفريقيا 40% من احتياطي الذهب العالمي، و80% من الكولتان، و30% من الكوبالت، وتُعد مورّدًا أساسيًا لليثيوم الضروري للبطاريات الحديثة وغير ذلك من المعادن والثروات.

كذلك تستهدف الصين الأسواق الإفريقية، لأن عدد سكان إفريقيا اليوم أكثر من 1.4 مليار نسمة، نصفهم تحت سن 25 عامًا، ما يجعل القارة سوقًا استهلاكية واعدة.، لأن فئة الشباب هي الأقدر علي العمل والكسب وهي أيضا الفئة الأكثر أستهلاكاََ وإنفاقاََ.

ومن الأمور الهامة لدي الصين البحث عن النفوذ الدول، فمن أصل 54 دولة إفريقية، تعترف 53 دولة حاليًا بجمهورية الصين الشعبية وتدعمها في الأمم المتحدة، مقابل تايوان.
وكذلك مبادرة الحزام والطريق، حيث انضمت أكثر من 40 دولة إفريقية للمبادرة الصينية، حيث استثمرت بكين في طرق وموانئ ومطارات بهدف تعزيز الربط العابر للقارات.

ويظل المواطن الإفريقي… بين الوعود والواقع ينظر وينتظر بأمل لتحالفات مُنصفة وعادلة، فالخطابات لا تعني الكثير للمواطن الإفريقي البسيط، بل النتائج، في حين يتحدث الغرب عن الديمقراطية، تبني الصين الجسور والمستشفيات. علي سبيل المثال والإيضاح في استطلاع Afrobarometer (2022)، ظهرت النتائج التالية، 63% من الأفارقة لديهم نظرة إيجابية تجاه الصين، مقابل 39% فقط ينظرون بإيجابية للولايات المتحدة، والسبب في هذه النتيجة. واضح، الملموس على الأرض هو الأهم، فالصين حاضرة دون ضجيج والولايات المتحدة الأمريكية غائبة وتملئ العالم بالصياح والصوت الخاوي من الفعل.

وليست كل الأمور في التجربة الصينية الإفريقية إيجابية، فهناك تحديات هيكلية للشراكة الصينية الإفريقية،منها الشفافية، فمعظم العقود الصينية تمر عبر تفاهمات مغلقة، دون رقابة برلمانية أو إعلامية.، وكذلك ضعف المحتوى المساهم المحلي في هذه المشروعات، حيث يُقدّر أن أقل من 20% من العمالة في المشاريع الصينية تكون محلية.
كذلك، محدودية نقل التكنولوجيا، رغم المشاريع الكبرى، لم تنتقل التقنيات الحديثة بعد إلى القطاع الصناعي المحلي الإفريقي وتتحفظ الصين نوعاََ في نقل التكنولوچيا المتقدمة وتوطين الصناعات المُعقدة لدول القارة الإفريقية.
ومن العوامل الأخري المؤثرة، غياب إستراتيجية إفريقية موحدة، حيث تتفاوض كل دولة على حدة مع الصين، مما يُضعف القوة التفاوضية ويزيد من التبعية.

 

إنّ العلاقة مع الصين لا يجب أن تكون قدرًا محتوما، بل فرصة مشروطة بالوعي والإستراتيجية. بإمكان إفريقيا أن تستفيد من التمويلات الصينية، دون الوقوع في فخ الاعتماد، بشرط،تعزيز المحتوى المساهم المحلي في المشاريع، والمطالبة بنقل التكنولوجيا، ووضع آليات رقابة شعبية ومؤسسية، وإستحداث إطار للتفاوض الجماعي عبر الاتحاد الإفريقي.

ليبقي القرار إفريقي أولًا وأخيرًا حراََ مستقلاََ، فالصين ليست منقذًا، لكنها أيضًا ليست مستعمرًا بالمعنى الكلاسيكي. إنها قوة كبرى تتعامل بلغة المصالح، وتترك للقارة حرية أن تختار إما أن تكون شريكًا نِدّيًا، أو تابعًا في معادلة جديدة من التبعية الاقتصادية.

إن المستقبل الإفريقي لا يُصنع في بكين أو واشنطن، بل في لاجوس، داكار، نيروبي، والقاهرة… حيث يُعاد تعريف المصلحة الإفريقية، وتُرسم ملامح النهضة الحقيقية.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى