تقدير موقف

زيارة الرئيس الفرنسي إلى القرن الأفريقي.. رؤية بحثية للباحث محمد دركلي

ينتظر أن يقوم  الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون  بزيارة رسمية إلى كل من جيبوتي وأثيوبيا في 20-22 ديسمبر الجاري، وذلك ، في إطار جولة استراتيجية ، تؤكد التزام فرنسا في شراكاتها مع دول القرن الأفريقي ، حيث تحافظ فرنسا على علاقات تاريخية وثقافية قوية مع العديد من البلدان الأفريقية في منطقة القرن الأفريقي ، بسبب ماضيها الاستعماري ، وكما تشكل الجهود الدبلوماسية الجارية في المنطقة جزء من نهج فرنسا الأوسع للحفاظ على النفوذ من خلال الدبلوماسية الثقافية، وذلك من خلال تقديم المساعدات  والتعاون في القضايا العالمية ، مثل تغيير المناخ والهجرة. ستكون الزيارة المرتقبة إلى كل من جيبوتي وأثيوبيا ، هي الزيارة الثانية لرئيس ماكرون إلى منطقة القرن الأفريقي منذ توليه الحكم2017 حيث كانت الأولى في مارس 2019 في ولايته الأولى ، ضمن جولة شملت دول القرن الأفريقي الأخرى ، مثل كينيا . وكان من بين أهدافها تعزيز النفوذ الفرنسي في منطقة تشهد تنافسا دوليا متزايد ، خاصة مع تصاعد الدور الصيني في المنطقة.

الرئيس الفرنسي القرن الأفريقي

الوضع في القرن الأفريقي

تأتي هذه الزيارة في وقت لا تزال فيه منطقة القرن الأفريقي تواجه تحديات سياسية واقتصادية وأمنية كبيرة، والتي لها آثار بعيدة المدى على الاستقرار الإقليمي والأمن العالمي. تتصارع دول مثل إثيوبيا والسودان مع صراعات داخلية تؤدي إلى تفاقم التوترات العرقية وعدم الاستقرار السياسي. في السودان، أدت الحرب المستمرة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، والتي اندلعت في أبريل 2023، إلى نزوح واسع النطاق وخسائر في الأرواح.وبالمثل، لا تزال إثيوبيا تتعامل مع الصراع الداخلي، الصراع الحكومة المركزية مع جبهة تحرير تيغراي لم يجد حلا نهائيا بعد، تليها التوترات مع مجموعات عرقية أخرى مثل الأمهرة. لا تضر هذه الصراعات بالتماسك الوطني فحسب، بل إنها تخاطر أيضًا بالانتشار إلى الدول المجاورة مثل جيبوتي من الناحية الاقتصادية، تتأثر المنطقة بشدة بالتضخم، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة. إن هذا الضغط الاقتصادي يتفاقم بسبب آثار الاضطرابات العالمية، مثل الحرب في أوكرانيا، والتي أثرت على سلاسل إمدادات الغذاء وزيادة تكاليف الاقتراض ، كما يتزايد عبء الديون في المنطقة، حيث تواجه العديد من البلدان، بما في ذلك إثيوبيا، تحدي إدارة الديون الخارجية التي وصلت إلى مستويات الضائقة ، على الرغم من هذه التحديات، أظهرت المنطقة بعض علامات التحسن في الحكم والتنمية. كانت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (IGAD)، على الرغم من الصعوبات التي تواجهها، جهة فاعلة إقليمية أكثر فعالية مقارنة بالمنظمات الدولية الأخرى مثل الأمم المتحدة، وخاصة فيما يتعلق بالوساطة في النزاعات.

تراجع النفوذ التقليدي لفرنسا

في ظل تراجع النفوذ التقليدي لفرنسا في أفريقيا يتسم وضع فرنسا الحالي في أفريقيا بتحديات كبيرة على المستويات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية ، سلسلة الانقلابات التي شهدتها بعض دول الساحل دفع فرنسا إلى مراجعة وإعادة التوجيه الاستراتيجي ، حيث ساهم غياب الترجمة السياسية الفعالة في تآكل وضع فرنسا في أفريقيا ، خاصة مع العمليات العسكرية برخان في الساحل . ولذلك ، تسعى فرنسا إلى خفض انتشارها العسكري مع مراجعة الوضع في أفريقيا ، في الغرب والساحل ، وتقليص قواعدها العسكرية بالكامل مع التركيز على شراكات  الاقتصادية والاستثمارية ، خاصة مع السنغال والجابون وكوت ديفوار.

في عام 2023 ، حاول ماكرون إعادة ترتيب العلاقة بين فرنسا وأفريقيا من خلال الترويج لنموذج يقوم على التعاون المدني والاقتصادي والأمني ، وذلك، من خلال تخفيض تدريجي لعدد أفراد الجيش الفرنسي مع تعزيز الدعم اللوجستي والاستخباراتي وتدريب الجيوش الأفريقية.

مواقف الدول الفرنكوفونية

يختلف مواقف الدول الفرنكوفونية من دولة لأخرى في ظل التحولات السياسية بشراكات ناشئة مع قوى   مثل روسيا( مجموعة فاغنر) والصين التي تكثف مشاركتها الاقتصادية والأمنية في أفريقيا ، بالإضافة إلى الرفض الشعبي لوجود الفرنسي. شهد وجود فرنسا الاقتصادية تراجعا كبيرا في حصتها السوقية في أفريقيا على الرغم من الجهود المبذولة لتعزيز الاستثمارات والشراكات ، حيث تواجه الشركات الفرنسية تحديات تنافسية ، خاصة في القطاعات الرئيسية ، مثل البنية التحتية والتعدين ، واتجهت إلى تبني الشركات المتجددة والدبلوماسية المؤثرة واجراءات التعاون الأكثر استهدافا  ، مع ذلك لايزال المستقبل غامضا ، حيث تسعى العديد من الدول الأفريقية إلى إعادة تأكيد سيادتها مع تنويع تحالفاتها الدولية ، مثل ، مالي وغينيا وبوركينا فاسو والنيجر ، وانضمت اليهم تشاد منذ 24 تشرين الثاني/ نوفمبر  المنصرم ؛ حين اعلن وزير الخارجية التشادي ، أن دولة تشاد خرقت اتفاقها العسكري مع باريس ، وذلك بعد ساعات قليلة من مغادرة وزير الخارجية الفرنسي إنجمينا ، حيث  يرجع قرار دولة تشاد إلى انهاء تلك العلاقة إلى عدة عوامل ، أولا : هناك شعور متزايد بمعاداة فرنسا داخل البلاد ، وأن فرنسا  متهمة بأنها الممول الرئيسي للجماعات المسلحة في الساحل والصحراء ، ثانيا، الخلافات الدبلوماسية  المتكررة بين البلدين أدت إلى تفاقم المشكلة فيما يخص منطقة الساحل والصحراء، كما رفض الجيش الفرنسي الدعم العسكري لتشاد في قتاله ضد جماعات بوكوحرام الجهادية في منطقة بحيرة تشاد ،  وأخيرا ، طلب فرنسا من إنجمينا خلال زيارة وزير الخارجية الفرنسي في التخلي عن موقفها الحياي في الصراع الدائر في السودان ، وهو ما دفع تشاد لتأكيد سيادتها الكاملة ، وإعادة تحديد شراكاتها الاستراتيجية عبر وزير خارجيتها.

أما العلاقات الفرنسية السنغالية مازالت قوية في المجالات الاقتصادية والثقافية والأمنية ، إلا أن وصول الرئيس فاي قد يأتي بتعديلات ، خاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية ، ومن الممكن أن تتخذ السنغال موقفا أكثر حدة تجاه النفوذ الفرنسي ، ومراجعة علاقاتها العسكرية مع باريس ، على الرغم من أن التعاون في مكافحة الإرهاب والأمن الإقليمي يظل أولوية مشتركة. فيما حافظت أيضا جيبوتي علاقاتها التاريخية مع فرنسا ، خاصة من خلال القاعدة العسكرية الموجودة في البلاد ، مع ذلك ، تمكنت جيبوتي بشكل متزايد من تحقيق توازن بين المصالح الدولية المتعددة ،حيث انخرطت بعلاقات جديدة مع قوى عالمية أخرى ، مثل الولايات المتحدة الأمريكية ، اليابان  والصين.

يتأثر قرار جيبوتي بالحفاظ على القاعدة الفرنسية على أراضيها بعد عوامل استراتيجية واقتصادية وسياسية، حيث توفر استضافة القواعد العسكرية الأجنبية ، بما في ذلك القواعد الفرنسية إيرادات كبيرة لجيبوتي ،  حيث تقدر تلك الإيرادات إلى أكثر من 170 مليون دولار أمريكي ، أي ما يقارب 3 % من الناتج المحلي الإجمالي لجيبوتي ، كما تعزز القاعدة الفرنسية الأهمية الاستراتيجية لجيبوتي ، حيث تدعم العمليات العسكرية والأمنية الأوسع ، خاصة العمليات المختلفة بمكافحة الارهاب والأمن البحري. ويوفر وجود القاعدة عسكرية فرنسية لجيبوتي مستوى معين من الأمن والاستقرار على المستوى المحلي أو الاقليمي، نظرا لعدم الاستقرار الجيوسياسية في منطقة القرن الأفريقي، مع الصراعات في  الدول المجاورة لجيبوتي.

في الختام، تتنوع مواقف الدول الناطقة بالفرنسية تجاه فرنسا. وفي حين تحافظ بعض البلدان على علاقات متينة وبناءة، فإن بلداناً أخرى، تحتاج إلى إعادة تعديل العلاقات على أساس قدر أكبر من السيادة والاستقلال عن النفوذ الفرنسي. والتحدي الذي يواجه فرنسا الآن يتلخص في إيجاد التوازن بين الحفاظ على هذه العلاقات التاريخية وضرورة احترام التطلعات المعاصرة للدول الناطقة بالفرنسية.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى