في مارس الماضي، نفذت قوات من البحرية الروسية مناورات مشتركة مع قوات من البحرية الإريترية في مدخل البحر الأحمر؛ يأتي ذلك في إطار جهود موسكو الحثيثة للحصول على موطئ قدم في البحر الأحمر، الذي يعد منطقة تنافس استراتيجية بين القوى الكبرى، خصوصًا بكين وواشنطن، نظرًا لتمتع هذه المنطقة بأهمية استراتيجية بالغة؛ لذلك سوف نتناول الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر، ودوافع موسكو والفرص والتحديات التي تواجه الدولة الروسية لتحقيق طموحها في البحر الأحمر.
الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر
تعدّ منطقة البحر الأحمر ممرًا دوليًا مهمًا تتنافس عليه القوى الكبرى؛ لأنه يحتل موقعًا وسطًا بين البحار والمحيطات، حيث إنه يربط بين البحر المتوسط والمحيط الهندي[1]، بالإضافة إلى لعبة دورًا بارزًا في التجارة الدولية، حيث يمر نحو 12 % من التجارة العالمية، و40 % من التبادل التجاري بين آسيا وأوروبا عبر البحر الأحمر، وعلاوة على ذلك، يمثل موردًا اقتصاديًا مهمًا، نظرًا لاحتوائه على موارد معدنية ثمينة (الزنك، النحاس، الفضة، الذهب)، بالإضافة إلى التنقيب على النفط والغاز، على نحو اكتشاف السعودية كميات كبيرة من الغاز في البحر الأحمر عام 2019، وعلاوة على ذلك بيئته الطبيعية الخلابة التي تحتوي على العديد من الأسماك والشعاب المرجانية الجاذبة للسياحة.[2]
الدوافع الروسية في البحر الأحمر
تبذل موسكو محاولات حثيثة من أجل حصولها على موطئ قدم في منطقة البحر الأحمر، ويتمثل أبرز دوافعها تجاه ذلك برغبتها في استعادة إرث الإمبراطورية السوفيتية، حيث شهدت فترة الحرب الباردة توسع الاتحاد السوفيتي في إنشاء قواعد عسكرية، ومثلت دول البحر الأحمر إحدى ساحات هيمنته، وتمكن الاتحاد في سبعينيات القرن الماضي من السيطرة على عدد من القواعد العسكرية في البحر الأحمر، ولكن مع تفكك الاتحاد السوفيتي تقلص الوجود السوفيتي في أفريقيا والشرق الأوسط، وتم إغلاق القواعد العسكرية وهو ما تحاول روسيا استعادته الآن، بالإضافة إلى رغبتها في إيجاد موطئ قدم بالمنطقة، بجانب القوى الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية والصين، وأيضًا الرغبة الروسية في تحجيم أثر العقوبات الغربية عليها، خصوصًا بعد قيامها بغزو أوكرانيا في فبراير 2022، وعلاوة على ذلك الأهمية الاقتصادية للمنطقة، كما أشرنا إليها سابقًا في الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر.[3]
الفرص المتاحة أمام موسكو
سعت موسكو لإيجاد موطئ قدم لها في منطقة البحر الأحمر من خلال إنشاء قواعد عسكرية ولوجيستية بالدول المشاطئة للبحر الأحمر، بالإضافة إلى عقد اتفاقيات عسكرية وتجارية مع دول البحر الأحمر، وتتمثل أبرز الفرص لتحقيق هذا الهدف في:
أ- توقيع إريتريا في يناير 2023، مذكرة تفاهم مع روسيا، نصت على ربط مدينة مصوع الإريترية مع مدينة سيفاستوبول المطلة على البحر الأسود؛ تمهيدًا لإقامة قاعدة عسكرية روسية في البحر الأحمر، بالقرب من مضيق باب المندب. وتجب الإشارة إلى قيام البحرية الروسية بمناورات مشتركة مع البحرية الإريترية في مدخل البحر الأحمر، بالإضافة إلى قيامها بمناورات في خليج عدن، بالاشتراك مع الصين وإيران مارس 2024.[4]
ب- تطور العلاقات الروسية – السعودية، حيث شهد عام 2017 أول زيارة لملك سعودي (سلمان بن عبد العزيز) إلى روسيا؛ وترتب عليها توقيع عدة اتفاقيات أهمها اتفاقية لتصنيع بعض الأسلحة الروسية في السعودية، ووقعت الرياض اتفاقًا عسكريًا مع موسكو عام 2021؛ يهدف إلى تطوير مجالات التعاون العسكري بينهما،[5] وعلاوة على ذلك، بلغ حجم التبادل التجاري بينهما 1,7 مليار دولار في عام 2022.[6]
التحديات والصعوبات التي تواجه موسكو تتمثل في:
أ- امتلاك بعض القوى الكبرى قواعد عسكرية في البحر الأحمر:
تمتلك واشنطن (منافس موسكو الحالي حول الهيمنة العالمية) أكبر قاعدة عسكرية دائمة لها في أفريقيا، وبالتحديد في جيبوتي، حيث تمثل هذه القاعدة منصة لإطلاق ومراقبة هجمات “الدرونز”، وبالإضافة إلى مكافحة القرصنة وغيرها من العمليات متعددة الجنسيات،[7] وعلاوة على ذلك، تمتلك بكين قاعدة عسكرية في جيبوتي منذ عام 2017، مما أدى إلى حدوث توتر بين بكين واشنطن، حيث اتهمت الأخيرة الأولى باستخدام الليزر للتأثير على رؤية الطيارين الأمريكيين.[8]
ب- الحرب الأهلية السودانية: لقد أعلنت موسكو في مايو 2019، عن اتفاق وقعته مع نظام البشير، وهذا الاتفاق منحها حق إنشاء قاعدة عسكرية على البحر الأحمر في بورتسودان بعقد مدته 25 عامًا، ولكن بعد سقوط نظام البشير أعلنت السطات الجددة في أبريل 2021، عن تجميد هذا الاتفاق، وبالرغم من ذلك ظلت موسكو تبذل جهودها من أجل تنفيذ هذه الاتفاقية، ونتيجة لذلك، قام قائد ميليشيا “الدعم السريع”، ونائب رئيس مجلس السيادة حينها محمد حمدان دقلو، وعدد من الوزراء بزيارة موسكو في الفترة من 23 فبراير إلى 2 مارس 2022، وقد صرح بعد هذه الزيارة بأن بلاده ما زالت منفتحة على احتمال المضي قدمًا بشأن تلك الاتفاقية، ولكن أعقب ذلك اندلاع حرب أهلية بالسودان في منتصف أبريل 2023، ومن هنا يمكن القول إن تحقيق مساعي موسكو في إنشاء قاعدة عسكرية في السودان أصبح معتمدًا على تطورات الحرب السودانية.[9]
وختامًا لما سبق، يمكن القول إن موسكو ستظل تتمسك بطموحها في الحصول على موطئ قدم بمنطقة البحر الأحمر، مما يدفع القوى الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية والصين إلى تعزيز وجودهم في المنطقة؛ مما تترتب عليه زعزعة استقرار هذه المنطقة في ظل هذا التنافس الاستراتيجي بين هذه القوى الكبرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] جمال سلامة علي ونيبال عز الدين جميل، الجغرافيا السياسية للبحر الأحمر، مجلة كلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية، العدد الرابع، (أكتوبر2022)، ص.210.
[2] عبد الله الردادي، أهمية البحر الأحمر، الشرق الأوسط، نشر في 30/12/2023، تاريخ الدخول 2/10/2024، متاح على الرابط التالي:
[3] جهاد نصر، مخاطر الجيوبوليتيك ماذا تفعل روسيا في البحر الأحمر؟، أوراق العرب، مركز رع (ابريل2024)، ص6،5،4.
[4] أسامة السعيد، ما دلالة نشاط السفن الحربية الروسية في البحر الأحمر، الشرق الأوسط، نشر في 31/3/2024، شوهد في 3/10/2023، متاح على الرابط التالي:
[5] العلاقات السعودية الروسية: تقاطع مصالح عابر أم تحول استراتيجي، بي بي سي نيوز، نشر في 4/8/2022، شوهد في 20/10/2024، متاح على الرابط التالي:
[6] الأمير محمد بن سلمان يبحث مع الرئيس الروسي تطوير العلاقات الثنائية، العربية، نشر في 18/6/2024، شوهد في 20/10/2024، متاح على الرابط التالي:
[7] أميرة محمد عبدالحليم، القواعد العسكرية في البحر الأحمر… تغير موازين القوى، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، نشر في 30/1/2018، شوهد في 21/10/2024، متاح على الرابط التالي:
[8] محمود زكريا، مرجع سبق ذكره.
[9] جهاد نصر، مرجع سبق ذكره، ص 10،9.